نشهد اليوم انكسار الجدار الفاصل بين النُخب والجماهير على صعيد الإنتاج الفني والأدبي في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد الأدبي لونيس بن علي، عن كتابه الجديد «نشيد بروكوست» الصادر عن دار بوهيما، والّذي تناول فيه العديد من الإشكالات الثقافية والأدبية، كما تناول فيه بعض الروايات من سياقات نقدية وقرائية مختلفة. أيضا خاض في بعض الشؤون التسويقية في مجالات الفن والأدب. حاورته/ نوّارة لحرش ومن بين المحاور التي كانت ضمن مقارباته وقراءاته التي ضمها الكتاب، محاور حول الصناعة والإنتاج الكمّي، ودخول الفن المعاصر مرحلة التسويق. مُعرجًا في نفس السياق على واقع الفن المعاصر الّذي أدى إلى تفشي ظاهرة «سوق الفن»، حيث أضحى الفن جزءا من منظومة التبادل التجاري. كما تحدث عن مصطلح سوق الكتاب، وعن نهاية عصر احتكار النُخب لإنتاج الفنون والآداب، وعن انكسار الجدار بين النُخب والجماهير. كما أشار أيضا إلى نقطة مهمة مؤداها أنّ الثقافة هي جزء من المنظومة الاقتصادية، متسائلا: هل تنتج الثقافة في الجزائر مردودا ماليًا؟ أيضا، تحدث عن دمقرطة الفن والآداب مؤكدا أنّه بقدر ما توحي بأنّها ظاهرة صحية فهي في المقابل قد تكون إحدى مظاهر نهاية الفن ونهاية الآداب. نحن لا نصنع الثقافة نحن فقط نُمارس نشاطات بلا أي رؤية ثقافية أو اقتصادية الدكتور لونيس بن علي، كاتب وناقد وباحث أكاديمي، وأستاذ في جامعة بجاية، متخصص في النقد المعاصر والأدب المقارن. لديه مجموعة من الإصدارات، من بينها: «تفاحة البربري- قراءات في الراهن الفكري والنقدي والأدبي»، منشورات فيسيرا، الجزائر 2013. «مقامات التروبادور» عن منشورات الهدى 2013 الجزائر. «الفضاء السردي في رواية (الأميرة الموريسكية)»، منشورات الاختلاف، الجزائر 2015. و»إدوارد سعيد، من نقد خطاب الاستشراق إلى نقد الرواية الكولونيالية»، منشورات دار ميم، الجزائر 2017. و»عزلة الأشياء، القصة المريبة لمصرع موراكامي» روايته الأولى، الصادرة أواخر 2018. عن دار الجزائر تقرأ. إضافة إلى إصداره الحديث، «نشيد بروكوست» –محور هذا الحوار-، والّذي يضم مجموعة من المقالات والمقاربات والقراءات الفكرية والنقدية. في كتابك الجديد «نشيد-بروكوست» جاء قولك: «...من هنا فإنّ إشباع الحاجات الثقافية لكلّ هذه الأعداد يفرض على الثقافة أن تدخل مرحلة الصناعة والإنتاج الكمّي». ماذا عن الإنتاج النوعي؟ ألاّ ترى أنّه في عالمنا العربي على وجه الخصوص، غالبا ما يكون الإنتاج الكّمي ضدّ الإنتاج النوعي. يعني كلّما كانت الكمية أعلى كانت النوعية أقل؟ لونيس بن علي: يجب أن نفهم المسألة على صعيدها الشمولي، فالمنتوج الثقافي ليس بالضرورة هو السلعة المادية بل هو الأفكار والقيم والرموز. نحن ننتمي اليوم إلى حضارة يُصنع فيها كلّ شيء، حتى الأعداء يُصنعون في مخابر الجيوسياسة. ما الّذي تُخرجه اليوم جامعاتنا؟ إنّها تُراهن على الكم، على الأرقام الكبيرة التي تُملأ بها جداول الاحصائيات السنوية، لكن هذا على حساب النوعية. إنّنا للأسف وقعنا في اللعبة العالمية التي فرضت علينا نمطا سطحيا من النظام الاجتماعي والأخلاقي كذلك. في الكِتاب أيضا حديث عن دخول الفن المعاصر مرحلة التسويق، بفضل تطوّر التقنية ووسائل الاتصال. كيف تنظر إلى هذا الأمر جزائريا وعربيا. هل تعتقد أنّنا وصلنا فعلا إلى مرحلة التسويق وهل نحن استفدنا حقًا من تقنية ووسائل الاتصال التسويقية؟ لونيس بن علي: لقد ناقش فلاسفة مدرسة فرانكفورت هذه الظاهرة، وأسهبوا في تشريح أبعادها. فالفن اليوم دخل في الدائرة التسويقية، وصار خاضعا لقانون العرض والطلب، هذا أدى إلى صعود الفن السطحي والهابط على حساب الفن الحقيقي، والسبب أنّ منظومة الذوق الفني انقلبت لصالح القيم الاستهلاكية، التي تهدف إلى مخاطبة الحواس والغرائز. هل يمكن الآن لشاعر حقيقي أن يملأ قاعة؟ وفي المقابل فإنّ مغني من الدرجة الثالثة يستطيع أن يملأ ملعبًا لكرة القدم. يجب أن ننظر إلى المسألة من بعدين: الأوّل أنّ القيمة النفعية للفن المعاصر تكمن في إيراداته ومبيعاته. وثانيا لأنّ الأذواق فقدت معياريتها. جاء في الكِتاب ذكرك ل"مصطلح سوق الكِتاب". وذهبت إلى القول إلى أنّ الكُتب صارت كما الأعمال الفنية الأخرى: كالسينما والموسيقى تُسحب بنسخ تفوق الملايين. أنت هنا طبعا تتحدث عن أوطان أخرى بعيدة عن أوطاننا العربية، فالسّحب في الجزائر ومثله في الوطن العربي سقفه محدود ولا يصل الآلاف، فما بالك بالملايين؟ الثقافة هي جزء من المنظومة الاقتصادية لكن هل تنتج الثقافة مردودا ماليًا؟ لونيس بن علي: عربيًا، نشعر أنّنا متأخرين في كلّ شيء، لابدّ من نظريات سوسيولوجية حول الإخفاق والفشل والتخلف. والحديث عن سوق للكِتاب سابق لأوانه. هناك فوضى عارمة تتحكم في إنتاج الكِتاب وفي أساليب توزيعه، حتى أنّنا نتساءل، هنا في الجزائر، أين هو الكِتاب العربي خارج المُدن الكبرى؟ من حسن حظنا أنّ هناك معرضا دوليا للكتاب –على الرغم مِمَا يمكن أن نقوله حوله من انتقادات– وهي فرصتنا النادرة لاقتناء ما نبحث عنه من كُتب لا تصلنا طيلة العام. هنا، لا لوم على الذين يلتجئون إلى الكِتاب المُقرصن (هنا ينبغي التفريق بين الكِتاب الإلكتروني وبين الكِتاب المقرصن الّذي يتم بثه دون مُراعاة حقوق المؤلفين، مع أنّ حقوق المؤلف العربي مهضومة حتى في حالة الكِتاب الورقي)، هذا الأخير، هو بديل من لا يملك بدائلا كثيرة. الغريب في الأمر، أنّ نشاط المُهربين للمواد الممنوعة أكثر تنظيمًا وفعّالية من حركة الكُتب وعبورها عبر الحدود، وكأنّ هناك إرادة سياسية لمنع مرور الكِتاب بالسهولة المطلوبة. في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن سوق الكِتاب، حتى من زاوية نظر أخلاقية للمسألة؛ فالكُتب التي تُنمي العقل وتطور ملكات الإبداع في الإنسان تُعاني من حصار، عكس الكُتب التي تغازل أبعاد الحماقة والقطيعية فيه. أسعار الكُتب نفسها، فادحة لا يمكنها أن تساهم في تعزيز القيمة الحقيقية لسوق الكِتاب، فهذا الأخير يختلف عن أسواق الخضار أو الملابس أو السيارات أو الخردة. أشرتَ في الكِتاب إلى أنّ واقع الفن المعاصر أدى إلى تفشي ظاهرة «سوق الفن»، حيث أضحى الفن جزءا من منظومة التبادل التجاري. هل تعتقد أنّ هذا ينطبق حقا على واقع الفن المعاصر في الجزائر أو في الدول العربية؟ لونيس بن علي: هل الفن مهنة في الجزائر؟ ولكي نجيب عن السؤال نطرح سؤالا آخر: هل يمكن أن يعيش الجزائري بالفن؟ سؤالان مُحرجان جدا. كم من فنان جزائري نهشه المرض ليموت في صمت كأنّ ذلك الموت مجرّد مزحة؟ كم من فنان جزائري عاش التهميش، (يحي بن مبروك مثلا)، دون أن ينتبه له أحد؟ حتى الإعلام أصبح متواطئا، لا يفرد للفنانين مساحات تليق بهم، وإن فعل ذلك، فخبر مقتضب عن رحيله. وفي المقابل، سنتحدث عن موت الفن، من خلال ظهور أشكال مشوهة من الممارسات الفنية؛ أصبح فنان العُلب الليلة يمثل حالة فنية لافتة للنظر، تستقطب اهتمام جماهير غفيرة من الجماهير الشغوفة بفن منحط. أين هم السوسيولوجيون هنا ليدرسوا هذه الظاهرة؟ هل حقا انتهت مرحلة احتكار النُخب الصغيرة في استهلاك الفنون والآداب؟ لونيس بن علي: من ناحية الاستهلاك هذا صحيح، لا يوجد قانون يمنع من انتشار المادة الثقافية. الخطر ليس هنا، بل في نهاية عصر احتكار النُخب لإنتاج الفنون والآداب. دمقرطة الفن والآداب بقدر ما توحي بأنّها ظاهرة صحية فهي في المقابل قد تكون إحدى مظاهر نهاية الفن ونهاية الآداب. نشهد اليوم انكسار الجدار الفاصل بين النُخب والجماهير على صعيد الإنتاج الفني والأدبي، وأصبحنا مع الوقت نشهد تزايد عدد المنتسبين إلى حقلي الفن والأدب. وفي ظل غياب النقد والنُقاد، صار المجال مُستباحا للعوام. هل يمكن حقًا أن نتحدث عن الكِتاب الأكثر مبيعا (the Best-seller)، ونحن نعلم أنّه في الوطن العربي أعلى سقف من حيث عدد نُسخ الطبع لا يتجاوز في الغالب ال1000 نسخة؟ لونيس بن علي: لنتحدث أولا عن طبيعة سوق النشر في الجزائر، هل نملك دور نشر حقيقية؟ وهل تحفظ هذه الدكاكين حقوق الكتّاب؟ ما الّذي يتحصل عليه الكاتب كمقابل لنشر جهده الإبداعي أو العلمي؟ البيستسيللر بالنسبة لي لا معنى له في سياق كهذا الّذي يحاصر صناعة الكِتاب في الجزائر. يجب تحرير النشر من أنانيات الناشرين، لابدّ من احترام جهد الكِتابة. تناولت في الكِتاب أيضا موضوع الصناعة الثقافية. هل يمكن الحديث عن صناعة ثقافية في الجزائر؟ لونيس بن علي: صعب ذلك، مازلنا نسيّر الثقافة بعقلية ريعية، كلّ شيء مرهون بسخاء الدولة، لهذا فنحن لا نصنع الثقافة نحن فقط نُمارس نشاطات بلا أي رؤية ثقافية أو اقتصادية. لا يجب أن ننسى بأنّ الثقافة هي جزء من المنظومة الاقتصادية، لكن هل تنتج الثقافة في الجزائر مردودا ماليًا؟ كيف يمكن نقد الثقافة، ومن المخول لنقدها؟ لونيس بن علي: ربّما الأقرب هو نقد المؤسسات الثقافية، ونقد المنظومات المُنتجة للقيم الثقافية. في غياب هذا النقد قد تنحرف الثقافة عن أهدافها المُتمثلة في تعزيز القيم الإنسانية، والدفاع عن الإنسان وعن قيم الخير والجمال. أشعر دائما بالتأسف لمّا أرى مشهدنا الثقافي تنهشه الأنانيات والصراعات والنمائم؟ ما الفائدة منها في الأخير؟ سنفهم أنّ المثقف الجزائري –دون تعميم– يهمه أن يستفيد وليس أن يُفيد. مازلنا نسيّر الثقافة بعقلية ريعية، كلّ شيء مرهون بسخاء الدولة ماذا عن إشكالية/وثنائية المثقف والعولمة؟ وهل من دور فعّال للمثقف في عصر العولمة وفي ظل سياقات عولمية ضاغطة ومُربكة؟ لونيس بن علي: المثقف مرتبط أساسا بالفضاء العام، أي بمدى حضوره في النقاش العمومي حول القضايا التي تعني المُجتمع، بخطاب مُنفتح على الأسئلة الراهنة. أي أنّه معني بحراك التاريخ حوله، فلابدّ أن يكون له موقف ما من العالم، وجوهر هذا الموقف أن يكون نقديًا. أنا أشدّد على الموقف النقدي، لأنّ النقد هو تلك المسافة التي يتركها المثقف بينه وبين التاريخ والعالم والمجتمع. المُثقف غير معني بالحقيقة بقدر ما هو معني بالبحث عنها. اليوم، نتحدث عن المثقف الميدياتيكي، أي ذلك الّذي يحضر في الإعلام بوصفه مُحللا للظواهر التاريخية الطارئة، إنّه إلى حد ما مثقف مُعولم طالما أنّه صار معنيا بإبداء موقف حول أي حدث يقع هنا أو هناك. في ذات السياق الخاص بالمثقف والعولمة أو المثقف المُعولم. كيف تعامل/ ويتعامل المثقف اليوم مع الميديا، وإلى أيّ حدّ يتفاعل معها، وهل يمكن وصفه بالمثقف الميدياوي؟ لونيس بن علي: ليس هناك ما أخاف منه أكثر من سطوة الميديا على وعينا الفردي، فهي مضادة –في طبعتها اليوم- لمفهوم الوعي الفردي الذي يمكن أن يميّز الأفراد عن بعضهم البعض. خطر الميديا هو في قدرتها على تعطيل إحساسنا بالفرادة، لنغدو مجرّد كائنات أورويلية (نسبة إلى جورج أورويل الّذي تخيّل شخصيات تخضع لسلطة الميديا في صناعة وعيها في روايته1984)، تفتقد إلى تلك الخصوصيات التي تجعل الواحد منّا قادرا على أن يكون هو وليس نسخة لنموذج ما. هكذا أتأمّل بحذر علاقة الميديا بنا، كفواعل اجتماعية وثقافية وإلى حد ما سياسية. أرى بكثير من الارتباك كيف أنّ استراتيجيات الميديا اليوم تلعب هذا الدور الخطير ليس في توجيه الوعي نحو مشترك محدّد، بل في صناعة ذلك الوعي، ليكون مجرّد أداة طيّعة لتصديق أيّ شيء. لقد حذّرنا بوديريار من هذا الزحف المخيف للميديا وثقافتها، لأنّ خطرها يكمن هنا في إعادة تشكيل الحقيقة، وتحويل الزيف إلى بديل مقنع عن حقيقة لن تكون بعد اليوم تاريخية بل ميدياتيكية. قال ذات مرّة أنّ حرب الخليج الأولى جرت وقائعها في قناة السي إن إن، وكان محقا في ذلك، لأنّه يكشف لنا كيف أن الميديا بكلّ وسائطها لم تعد مهتمة تماما بنقل الخبر أو الحدث، بمقدار اهتمامها بصناعته. الميديا مؤسسة لصناعة التاريخ، لصناعة الأفكار، لصناعة الأفراد، أقصد لصناعة وعي أحادي يجمعنا جميعا تحت سقفها الّذي يدنو من رؤوسنا كثيرا. هل يمكن القول بتراجع المثقف العربي عن دوره الحقيقي والريادي والتنويري الفاعل في المجتمع؟ لونيس بن علي: سؤال دور المثقف في الواقع العربي مُحرج جدا، إذا لم أقل أنّه مخز. إلى اليوم لم نتفق حول دور هذا المثقف؟ هل صحيح أنّه منتج التنوير؟ هل وظيفته هي نقد المجتمع ونقد السلطة؟ هل وظيفته التعليق على الأحداث العامة في البلاطوهات التلفزيونية؟ سأكون واضحا هنا، إنّنا نعيش حالة تمزق وتشرذم حقيقيين: عندما كتب كمال داود أو أمين الزاوي ينتقدان الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية ثار الجميع، بمن فيهم مثقفين، ضد ما كتباه. وحين أقيمت الصلاة الجماعية ضد حفلة موسيقية في ورقلة ثار الجميع ضد هذا السلوك. ظاهرتان تقفان على طرف النقيض: نرفض المثقف النقدي وفي نفس الوقت نرفض التضييق على الفن باسم الدين. هنا ستفهمين بأنّنا نعيش تحت سلطة من التناقضات يصعب من خلالها معرفة ما الّذي يجب أن يكون عليه المثقف عندنا.