الأستاذ الدكتور موسى معيرش رغم أن عبد الله شريط الذي توفي هذا الأسبوع أحد أقطاب الثقافة الجزائرية المعاصرة، وأن إسهاماته فيها كثيرة ومتنوعة، وانه بين أبناء جيله أشهر من نار على علم كما يقال إلا أن الجيل الجديد يجهل عنه الكثير ولا يكاد البعض منه يعرف عنه شيئا. مما يتطلب منا قبل الحديث عن فلسفة المفاهيم عنده أن نتحدث عنه كمفكر وإنسان و محاولة التعريف به وبأعماله من خلال هذه الأسطر القليلة. فقد كان مولده في بلدة مسكيانة التابعة إداريا في الوقت الحالي إلى ولاية أم البواقي والواقعة شرق ولاية قسنطينة بحوالي ثمانين كيلومتر .وكان ذلك سنة1921م حيث التحق كعادة أبناء الجزائريين بالكتاب بغية حفظ القران الكريم.أما مؤلفاته فعديدة ولكنها في عموميتها تعبر عن عقلية فيلسوف ملتزم بما يكتب مؤمنا بما يكن ينادي به ويمكننا ان نميز فيها : 1 الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون وهو كتاب ضخم صدر عن سلسلة الدراسات الكبري ويمثل أطروحة عبدالله شريط والتي قدمها لنيل شهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة السياسية والأخلاقية. 2 - نصوص مختارة من فلسفة ابن خلدون ، وصدر هو الآخر عن المؤسسة الوطنية للكتاب ، وفي هذا الكتاب يقدم قراءته الخاصة لنصوص منتقاة للفيلسوف العربي عبد الرحمان بن خلدون. 3 -المنابع الفلسفية للفكر الاشتراكي. 4 - من واقع الثقافة الجزائرية وصدرت طبعتها الثانية عام1981م عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع؛ ويعرف شريط هذا الكتاب في مقدمته بقوله: هذه مجموعة بحوث ومقالات؛ كتب أكثرها فيما بين1968م و1970م؛ والقليل منها فيما بعد. وهي تعالج قضايا وتطرح مشكلات من واقع الثقافة الجزائرية كما عشناها في فترة مابعد الاستقلال إلى اليوم". 5- معركة المفاهيم،وهو كتاب صادر هو الآخر عن المؤسسة الوطنية للنشر والتوزيع ، ويحوي هو الآخر جملة من المقالات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعالج قضايا من صميم الحياة اليومية الجزائرية. 6- مع الفكر السياسي الحديث و المجهود الاديولوجي في الجزائر. 7- المشكلة الاديولوجية في الجزائر. 8-الجزائر في مرآة التاريخ. 9-حوارات إيديولوجية حول المسألة الصحراوية والقضية الفلسطينية. 10-المشكلة الإيديولوجية وقضايا التنمية. 11-أخلاقيات غربية في الجزائر. 12-الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية يتكون من18 جزء يغطي الفترة الممتدة بين سنتي:1955م و1962م. تجدر الإشارة هنا إلى ان أعمال شريط لم تقتصر على تأليف الكتب وإنما تعدت إلى المساهمة في تقديم العديد من الحصص الإذاعية والتلفزيونية علاوة على التدريس بجامعة الجزائر بمعهد الفلسفة،ودون أن نكون مبالغين نستطيع القول أنه كان أحد منظري حزب جبهة التحرير الوطني في مرحلة هامة من تاريخ الجزائر. أما آخر نشاطاته العلمية فهي محاضرة ألقاها بالمكتبة الوطنية بالجزائر العاصمة تحت عنوان: البعد الإنساني في فكر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في نوفمبر2007م. المفاهيم والمجتمع الجزائري: لم يكن المفكر الجزائري بعيدا عن هذا الجدل أو أقل اهتماما به، ولعل عبد الله شريط كان من بين أكثر المشتغلين بقضية المفاهيم ، وهو ما دفعه للدخول في مناقشات وحوارات مختلفة مع مثقفين جزائريين أمثال مصطفى لشرف ، أثمرت بكتابه المتميز معركة المفاهيم الذي صدر في نهاية السبعينات من القرن الماضي، وأعيد طبعه للمرة الثانية عام1981م عن الشركة الوطنية للنشر والإشهار، بمقدمة كتبها الفيلسوف المصري محمود قاسم صاحب كتاب المنطق ومناهج البحث . بهذا فعبد الله شريط لا يعتبر أن مسألة المفاهيم مهمة فحسب وإنما يراها تستحق أن يخوض الإنسان من أجلها معركة حقيقية لأن الكثير من المفاهيم اختلط وضاع وسط الزحام والاختناق مما يتطلب فرزه وتصحيحه، ويعود اهتمام شريط بهذه المسألة كما يرى محمود قاسم تماشيا مع الأوضاع السياسية وتطور المجتمع الجزائري وهو ما يوضحه بقوله:"إن معركة المفاهيم بالجزائر قد بلغت الذروة في حدتها،ولن تجد جزائريا يحدثك قليلا من الوقت حتى ينقلك إلى صميم المعركة، ونحن نرحب دائما أن نصطلي بنيران المعركة بدلا من أن نفر منها ذلك أن عصر الهروب من المشكلات الواقعية قد غبر، سواء أكان ذلك في المشرق أو المغرب.وتلك علامة صحية، وهي تبشر بخير"1 أما شريط فيرجع اهتمامه بالمفاهيم بكون المجتمع الجزائري يتجه في كثير من الأحيان إلى العمل دون تصور مسبق ودون فكر موجه وهو بهذا يقترب من التصور الذي يقدمه الفيلسوف الألماني فردريك هيجل الذي يرى في التصور العقلي بداية العمل الحقيقي،وهو ما نجده في مقدمة كتابه معركة المفاهيم : "لأننا... لا نستطيع أن نبني بيتا من الحجر إلا إذا سبقه بيت من أفكار ونحن لا نملك شيئ عنه في تصوراتنا الذهنية"(2). . لهذا السبب يحرص شريط على بذل جهد خاص يلح فيه كما يقول:" على قيمة المفاهيم في حياتنا العلمية والثقافية والسياسية عموما، والمفاهيم في المجتمعات الناشئة كثيرا ما تأخذ طابع المعركة."(3). طبيعة المفاهيم عند شريط: إذا أردنا أن نحدد طبيعة المفاهيم عند عبد الله شريط ونلاحظ انه لا يعمل على العودة إلى المصطلح من الناحية المعرفية واللغوية و إنما يتجه إلى البحث في مجالات استخدام هذا اللفظ أو ذاك ويعود هذا حسب وجهة نظرنا إلى طبيعة تكوين شريط قبل كل شيء باعتباره مفكرا متشبعا بالاديولوجية الاشتراكية التي سادت العالم في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ومنها الجزائر التي كان شريط لا يعد احد المتأثرين فيها بهذه الايديولوجية فحسب، بل وأحد ابرز منظريها والمدافعين عنها. كما يعود من جانب آخر إلى ما اكتسبه شريط من الإعلام، فقد عمل مدة طويلة في هذا المجال سواء قبل الاستقلال أو بعده في الصحافة المكتوبة، في الإذاعة أو التلفزة مما مكنه من اكتساب القدرة على التواصل مع أصناف الجمهور المختلفة:سواء منه القارئ ، المستمع أو المشاهد. وعلاوة على ما سبقت الإشارة إليه فان منهج سقراط الفلسفي الحواري الجدلي كان حاضرا في معركة المفاهيم بقوة، إذ لا ننسي أن شريط صاحب تكوين فلسفي متميز، فهو أستاذ الفلسفة وصاحب الدراسات الخلدونية المختلفة.(4). إذا رغبنا دراسة وتحليل بعض المفاهيم عند شريط نجد الخصوصية التي اشرنا إليها سابقا واضحة، حيث نجده لا يعرض للمصطلح من وجهة نظر معينة، كما لا يتعصب لرؤية محددة، حتى لو كانت هذه الرؤية لمجتمعه وما يعارضها لخصومه بل ولأعدائه، وهذا ما يجعله يعرض للتصورات المختلفة والمتناقضة، ويحاول في الأخير أن يعرض أو بالا حرى يرجح التصور الذي يصلح والذي يتوافق والهدف العملي الذي يسعى إليه. ودعونا هنا نستعرض بعض النماذج مما درسه شريط وناقشه، وحتى لا نطيل فسنختار مسألتين لا غيرهما: الشرف والثقافة، فبالنسبة للقضية الأولي يعرض شريط لعدة تصورات ويقارن بعضها بالأخر، مفرقا بين تصورات تقليدية قديمة ما تزال مسيطرة رغم أن الزمن تجاوزها، وبين تصورات حديثة لا تؤمن بالقديم وتتجاهله مع ماله من أهمية في الحفاظ على شخصية وهوية المجتمع،بين من يحصر الشرف في المحافظة على عفة المرأة وحرمتها وليذهب مادون ذلك إلى الجحيم كما يذهب إلى ذلك القدماء، وبين من يحصر الشرف في المحافظة على المجتمع الوطن ككل حتى لو تطلب الأمر التضحية بالرؤية الأولى التقليدية. فيما يتعلق بالثقافة نجد شريط يرى أن النظرة إليها تختلف من إنسان إلى أخر فإذا أخذنا مثلا الاهتمام بالكتاب نجد أن هناك من لا يعيره الاهتمام المطلوب مفضلا عليه التلفزيون في الوقت الذي نجد فيه من يهمل هذا الأخير مفضلا عليه الكتاب، في حين كل منهما له الدور الذي لا يمكن لغيره أن يقوم به، وبالتالي فلكل حادث حديث، ولكل مقام مقال. وهكذا نلاحظ النظرة التوفيقية أو التركيبية تسيطر على فكر شريط واستنتاجاته. المفاهيم بين الثبات والتغير: من المسّلّم به الاختلاف بين المجتمعات في التصورات والأهداف ، إلا أن هذا لا يمنعنا من التساؤل ، إذا ماكان هذا الاختلاف دائما أو مؤقتا؟ بمعنى هل يمكن أن ننقل مفاهيمنا إلى الآخرين؟، وهل يمكن لهؤلاء الاستغناء عن مفاهيمهم واستبدالها بغيرها؟، وبتعبير أدق هل المفاهيم ثابتة أو متغيرة؟. فقد ذهب جماعة من الفلاسفة إلى القول بعدم إمكانية تحديد المفهوم ونفي إمكانية المعرفة بصورة عامة, ومن هؤلاء ما عرف قديما عند اليونانيين بالسفسطائيين(sophistry-sophisme)وهم تيار فلسفي كثيرا ما تعرض للتحقير والقدح في بعض الأحيان لسبب وفي أغلب الأحيان تقليدا لما ذهب إليه سقراط. يقول يوسف كرم في نشأة هذا الاتجاه :" بعد أن دحرت أثينا الفرس وحفظت لليونان استقلالهم وعقليتهم, مضي هؤلاء يستكملون أسباب الحضارة بهمم جديدة، ونبغ فيهم العلماء والشعراء والفنانون والمؤرخون والأطباء والصناع، وقويت الديمقراطية في جميع المدن، وتعاظم التنافس بين الأفراد فزادت أسباب النزاع أمام المحاكم والمجالس الشعبية،وشاع الجدل القضائي والسياسي. نشأت من هاتين الناحيتين الحاجة إلى تعلم الخطابة وأساليب المحاجة واستمالة الجمهور، ووجد فريق من المثقفين المجال واسعا لاستغلال مواهبهم فانقلبوا معلمي بيان، وهؤلاء هم السفسطائيون ملأوا النصف الثاني من القرن الخامس 5 نعود لموقفهم من إمكانية المعرفة فقد قالوا بنفي المعرفة وهو ما يتضح في مقولة زعيمهم بروتاغوراس protagoras( 480-410 ) :"الإنسان مقياس الأشياء جميعا، هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس لا وجود ما لا يوجد"(14).ولعله من المفيد هنا أن ننقل شروحات أفلاطون لهذه المقولة في محاورة تيتيانوس:" يتبين معناها بالجمع بين رأي هروقليطس في التغير المتصل وقول ديموقريطس إن الإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة, فيخرج منها" أن الأشياء هي بالنسبة إلي على ما تبدو لي، وهي ما تبدو لك، وأنت إنسان وأنا إنسان"(15). أما جورجياس Goragis( 480, 375 ) فقد كتب كتابا في اللاوجود مما جاء فيه:" لا يوجد شيء ،وإذا كان هناك شيء قاصر عن إدراكه، وإذا فرضنا أنّ إنسانا أدركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره من الناس"(6).ومن هنا يمكننا القول أن النزعة السفسطائية عملت على إنكار المعرفة أو بالأحرى إنكار إمكانية الوصول إليها واعتبرتها مختلفة ولا يمكن حصول اتفاق حولها، وكل ما يمكن قوله حسب هذا التصور نسبية المعرفة و فردانيتها. بغض النظر عن ما قيل حول هذه النظرة وما وصف به القائلين بها، فإن السفسطائية أعطت للإنسانية رؤية متقدمة تحفظها من الوقوع في الوثوقية المقيتة، إلا أنّ الانتقادات التي تعرضت لها حرمت الإنسانية من الانتفاع كثيرا بهذا الموقف، وما قيل عن المعرفة عند هؤلاء يقال عن مسائل أخرى كالأخلاق والألوهية وهذا ما يتطلب دراسة أخرى. الحقيقة أن السفسطائيين لم ينفردوا بهذه المسألة فقد شاركهم في موقفهم هذا كثير من الفلاسفة الذين كون البعض منهم مذاهب نسبت إليهم، ومدارس عرفوا بها، ومن هؤلاء أنصار الشكdoubt-doute، والذي عرفه جميل صليبا بقوله:"الشك هو التردد بين نقيضين لا يرجح العقل أحدهما عن الآخر، وذلك لوجود أمارات متساوية في الحكمين، أو لعدم وجود أية أمارة فيهما. ويرجع تردد العقل بين الحكمين إلى عجزه عن معاناة التحليل أو إلى قناعته بالجهل"(7). إذا ما عدنا للحديث عن هذا الموضوع عند عبد الله شريط نجده يقرّ بهذا الأمر بمعنى أنّه يذهب إلى اعتبار المفاهيم ليست مختلفة فقط وإنما متغيرة أيضا وبهذا فإنّ الكثير منها يتطور ، والتطور هنا نقصد به التغير سواء أكان ذلك نحو الأفضل أو الأسوأ وفي هذا الإطار يعرض شريط وجهة نظره من خلال نقله لما دار في جلسة عائلية جمعته بأسرة صديق له متوسط الثقافة ولكنه يحترم الكتاب والثقافة والمثقفين. كان من بين الحضور في هذا المجلس شاب يصفه شريط بقوله:" وبين الحاضرين شاب أنيق. أنيق جدا، هو أيضا من أقارب العائلة ولكني لم أعرفه من قبل. كنت أسترق إليه النظر أكثر من غيره. كان فعلا يحملك على النظر إليه دون غيره ": كان شعره يلمع . كنت أتوهم أنه سيلمع حتى في الظلام. كل شعرة فيه متساوية مع الأخريات ماعدا خصلة عابثة أخذت حريتها وتدلت على جبينه موزعة هائمة.ولكنها تتموج أيضا باللمعان. وكان وجهه موردا يميل إلى حمرة داكنة ... وضع ساقا على ساق من فوقه يد رقيقة مبسوطة الأصابع، أصابع رقيقة طويلة مرفهة تنتهي بأظافر بيضاء طويلة حادة، وبين إصبعيه سيجارة تدخن وحدها يتذكرها من حبين لآخر ليرمي رمادها في صحفة ذهبية وضعت أمامه"(8) بهذا الوصف الذي ينقله شريط بتفصيل يجعلك ترى الصورة التي يريد نقلها بعينيك يكشف لك عن اختلاف في مفاهيم الناس هذا من خلال هذا الشاب الذي يبدو متمدنا ولكن هذا التمدن ليس حقيقيا لأنه في لحظة الجد وعندما طلب منه أن يقوم بقراءة بعض المقاطع من كتاب: "فتحرج الشاب وزاد وجهه احمرارا ووضع رجله على الأرض ونفض سيجارته عدة مرات متوالية في الصحفة الذهبية ثم قال بصوت فاتر: كلا مع الأسف إنني لا أميل كثيرا إلى القراءة وخاصة قراءة الكتب"(9. في مقابل هذه الصورة ينقل لنا صورة أخرى مغايرة لرجل:" يحمل ثقافة متوسطة، ولكنه يحمل لعالم الثقافة كل عواطف التقدير والمحبة"(10).ومنه يمكن الحديث عن اختلاف في المفاهيم بين جيل وآخر، وأن الثابت الوحيد هو التغير. شريط بين منهجين : يعتبر عبد الله شريط أن مجتمعاتنا العربية ومنها الجزائرية بطبيعة الحال واقعة بين أمرين ، فإما أنها تهول أمورها لدرجة يصير النهار ليلا و منهج يصغر الأشياء ويرى أن كل شيء على ما يرام فيصبح الظلام نورا جميلا. فنحن إذن بين منهجين أحدهما ترتاح إليه نفوسنا ولكنه في نفس الوقت لا يفيدنا في حياتنا الحالية و لا يعطينا نتيجة إيجابية. يؤكد أن هذا المنهج يسود في بعض أقطار شرقنا :"فمهما كانت المشاكل من الحدة و عظم الخطب يقابلها الإنسان العربي كما لو كانت شيئا طبيعيا لا يستدعي الانزعاج و لا يتطلب الإسراع في تغيير الأوضاع ." وحتى يبرهن على هذه النمطية في التفكير يستشهد شريط بزيارة له لبلد عربي مشرقي يعد في طليعة البلدان العربية حيث التقى برئيس هذه الدولة : " في مهمة تتعلق بالثورة في الجزائر ، وكنت مديرا لمجلة المجاهد وكان يصحبني في هذه المقابلة مدير جريدة من كبريات صحف الشرق العربي وانطلقت بكل بساطة أتحدث عن المستوى الاجتماعي المتدهور الذي يلاحظه الزائر لهذا البلد... وعند خروجنا من المقابلة صارحني رفيقي الذي كان يصحبني بأنني كنت قاسيا جدا مبديا تعجبه مما كاد أن يسميه وقاحة، و معربا عن رضاه الكامل بالأوضاع السائدة في بلده."(11). في المقابل كما ذكرنا فإن هناك منهجا يعري الأوضاع و يكشف عنها حيث يلاحظ أنّ الأحاديث وفق هذا المنهج لا تتناول إلاّ النقائص:" وحتى لا تكون هذه النقائص صارخة فإننا نتلذذ بإخراجها من حفرتها وإبرازها و التشنيع بها فيما بيننا، وحتى أمام الأجانب ...فإذا كنا نسير في طريق غير معبد كما ينبغي ننهال بالنقد على عمال الطرقات و مصالح الأشغال العامة وإذا ذهبنا إلى المستشفى ولم نجد... وننسى أننا بعض هؤلاء الناس و لكن المسؤول دائما في نظرنا هي السلطة" (12) . يقر شريط و يعترف أنّ كلا المنهجين لا يمثل ظاهرة صحية وإنما يمثل ظاهرة مرضية، لأن النقد المفرط كما يرى يخلق وضعا مأساويا و قلقا مشيطا و في المقابل نجد الرضى الأبله يخلق حالة من الاطمئنان و الخمول .ومن ثمّ أبرز الحاجة إلى المزاوجة بين المنهجين حتى نتمكن من كشف النقائص و لكن دون أن ننكر الحقائق و الوقائع. من ثمّ تبرز نزعة شريط الجدلية التي دائما تعرض للفكرة ونقيضها محاولا الوصول إلى توفيق، و هو منهج هيجلي محض ، و إن كان يحاول دوما الاسترشاد بابن خلدون أستاذه و الذي كتب عنه في مجالات متعددة و تأثر به سواء أكان ذلك في ما يتعلق بفكره الأخلاقي الذي كان موضوعا لأطروحته لدكثوراه الدولة أو في ما يتعلق بفكره السياسي الذي كان موضوعا لأحد كتبه و مسألة الجمع بين الأخلاق و السياسة من المسائل ذات الأهمية و الضرورة و هي بالنسبة له كالجمع بين التمر و اللبن و هي عادة العرب . ما يمكننا قوله هنا أن المجتمعات التي ننتمي إليها لا تعرف الوسطية فإما إفراط أو تفريط ، فنحن في مجال العلوم و الآداب نهتم بالتركيز على العلم و الصناعة و نهمل العناية بالفلسفة و الآداب ، كما نجد مثقفين يتوزعون كما يرى شريط باتجاهين متناقضين :" اتجاه يعتمد فيه صاحبه ما يسمى بالحياد العلمي إلى درجة لا يؤمن فيها صاحبها بموقف، ولا يعمل على نشر اتجاه و لا يحرّك عاطفة عقائدية هادفة، فهو من النوع الذي وصف نيتشه أصحابه بأنهم يحملون في عروقهم دم الضفادع ، و هذا الإنتاج نجده أكثر ما نجده في الإنتاج المدرسي الأكاديمي ، واتّجاه مقابل له مضاد ، و هو اتجاه من العاطفة السطحية المعتمدة على تقاليد الهجاء أو المدح ، و الفخر الأبله ، أو التحطيم الأعمى ، و يؤلمني جدا أن آتي ببعض الأمثلة المعينة على الاتجاه الغالب على إنتاجنا الثقافي في الميدان الاجتماعي" (13). هكذا لم تكن الفلسفة بالنسبة لعبد الله شريط تسبح في عالم الأحلام، وإنما هي قريبة من الناس ترصد همومهم، وتطرح قضاياهم باحثة عن حلول هنا أو هناك، منتقدة تصوراتهم وطرق تفكيرهم العتيقة، مقدمة بدائل.أوليس هو القائل:" إننا لا نستطيع أن نفصل مفهوم الحرية عن مفهوم المسؤولية اللهمّ إلاّ إذا كنا نريد أن نعبث. والحرية تعني الإنتاج قبل أن تعني الاستهلاك"(14). لا غرابة في ذلك فشريط ليس مجرد مفكر مهتم بالتدريس في الجامعة فهو فيلسوف السياسة والمناضل القديم في الحركة الوطنية، والمفكر المؤدلج الخائض لحوارات ومساجلات مع خصومه، وفي كل الأحوال فإن شريط نموذج للمفكر المصلح الوطني المؤمن بما يقول ولمن يقول.