حينما علمت صاحبة "دعاء الحمام" الأديبة السيدة زهور ونيسي أن هذا الحوار هو لجريدة "صوت الأحرار" لم تتردد أبدا في أن تضرب لنا موعدا معها في بيتها الذي استضافتنا فيه بكل كرم، بل وصرحت لنا أن ثقتها في "صوت الأحرار" نابعة من أن القيم التي تستند إليها والمرجع الذي تستقي منه مبادئها هي نفسها مرجعيتها المتشبعة بروح الوطنية الصادقة التي ناضلت وضحت من أجلها، ولذلك تجدها قد تحدثت معنا زهور ونيسي بدون تحفظ لأنها تعلم يقينا أن أخلاقيات الذين يتعاملون مع "صوت الأحرار" ليس من مهمتهم زراعة الفتنة والشقاق بقدر ما مهمتهم هي أداء الرسالة الإعلامية المفيدة قبل كل شيء، وإن كانت هذه الغاية دونها صعوبات والكمال لله وحده. س: نبذة مختصرة عن سيرتكم الذاتية، وعن واجبكم في المشاركة في معركة التحرير. ج: بالتأكيد فإن القارئ يعرف اسمي الذي هو زهور ونيسي وأنا من مواليد 13 ديسمبر 1936 بمدينة قسنطينة من عائلة محافظة وعريقة في العلم والإصلاح، فوالدي رحمه الله تأثر كثيرا بالحركة الإصلاحية للشيخ عبد الحميد بن باديس ومتشبع بالثوابت الوطنية، وفي بداية حياتي درست في أول مدرسة أسسها بن باديس وهي جمعية التربية والتعليم للبنات، وفي تلك الفترة أي سنة 1954 تحصلت على الشهادة الابتدائية بتفوق وقد نشر لي في جريدة "البصائر" أول نموذج لمقال عن الامتحان الذي حزت عليه وبعدها تشجعت لكتابة مقالات كنت أبعث بها من البيت إلى أن توقفت "البصائر" عن الصدور. وبعد اندلاع الثورة التحقنا بها لأن اهتمامنا كله كان بها، فناضلت في ولايتين وأنا معلمة، وعقب الاستقلال التحقت بجامعة الجزائر، ومن حسن الحظ سمح للمجاهدين وللمجاهدين بالالتحاق بالجامعة بعد المرور على مسابقة التي لا يمكن الاستهانة بها، لأن مستوى التعليم الحر في ذلك الوقت كان جد محترم وعلى درجة عالية، وقد كان من بين رفاقي السفير الحالي عبد القادر حجار والمجاهدة خديجة لصفر. وبعد حصولي على ليسانس في الفلسفة عملت دراسة معمقة في علم الاجتماع، كما أنني كذلك كنت نشطة في العديد من المنظمات الجماهيرية وعضوا مؤسسا فيها، مثل شبيبة جبهة التحرير والاتحاد الوطني للنساء الجزائريات، كما أنني كنت عضوا مؤسسا للإعلام الوطني في ذلك الوقت، من بينها "الشعب "عندما عربت وجريدة "صوت الأحرار" والجماهير للطاهر وطار وجريدة "الثورة والعمل" و"المجاهد الأسبوعي"، ونسيت أن أذكر لك أنني من مؤسسي مجلة "الجيش" وقد نشر لي أول مقال بها سنة 1963،... إلى أن أسندت لي أول مجلة جزائرية نسائية وهي "الجزائريات" وهي اللسان المركزي لاتحاد النساء الجزائريات، أي أن هذه الفترة كانت مليئة بالحيوية والنشاط إلى درجة أنني رشحت من طرف جبهة التحرير الوطني لشغل عضوية المجلس الشعبي الوطني من سنة 1977 إلى سنة 1982 وفي نفس الوقت لم تنقطع علاقتي بالتدريس، وقد تعلمنا من مدرسة الأفلان أن الاستقلال ليس بغاية وإنما هو وسيلة لخدمة الوطن، والحمد لله خضت تجربة غنية لم أفقد فيها التوازن والتواضع وحب الوطن والإخلاص للشعب، وبعد المجلس الشعبي الوطني ونحن نتدارس قانون الأسرة، طلب مني شغل منصب كتابة الدولة للشؤون الاجتماعية، ولست أدري إن كان في الأمر ثوابا أو عقابا. س: لقد توليتم حقيبة وزارة الشؤون الاجتماعية في حكومة محمد بن أحمد عبد الغني سنة 1982، ما هي التجربة التي يمكن تلخصها لنا السيدة زهور ونيسي وبالخصوص أنها أول امرأة تقلد هذا المنصب؟ وما هو انطباعك الخاص حول الرئيس السابق الشاذلي بن جديد؟ ج: رغم خوفي وفزعي من هذه المهمة الجديدة على رأس كتابة الدولة للشؤون الاجتماعية ثم على الوزارة إلا أنني خضت بها تجربة رائعة وثرية وحظيت بالاحترام الكامل من أعضاء الحكومة وبالخصوص المجاهدين منهم وفي مقدمتهم الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، ومن الذين اعتز بهم كثيرا كذلك الرئيس الراحل هواري بومدين بحيث كان حينما لا يجد اسمي في مجلة الجيش يوجه لي ملاحظة حول ذلك. س: بعد ذلك تسلمتم وزارة الحماية الاجتماعية في حكومة عبد الحميد الإبراهيمي سنة 1984، في تلك الفترة تم سن قانون الأسرة الذي عدل لا حقا، ما هو دوركم في الإعداد للقانون السابق وما هي ملاحظاتكم على قانون الأسرة الجديد؟ ج: الأمر لذي يجب أن يعلمه الجميع أن المجلس الشعبي الوطني في ذلك الوقت كان يجمع عناصر وأطياف مختلفة، ابتداء من فئة الجامدين الذين يرون أي تغيير هو مساس بالدين وبالمبادئ إلى أولئك الذين يدعون للتغيير بدون تحفظ، وبالتالي تبقى القلة القليلة هي التي تحمل الأفكار الوسطية المتوازنة، وعليه كنا قلة بين هؤلاء، بحيث كنا نريد أن يكون قانون الأسرة صورة للمجتمع الجزائري العربي المسلم المتمسك بأصالته وجذوره في الثوابت الوطنية و الأخلاق والقيم و في نفس الوقت التطلع إلى التقدم، فمن السهل أن تكون متطرفا مع هذا وذاك ولكن من الصعب أن تكون معتدلا ومتوازنا في أفكارك، فحتى المحافظون كانوا يقولون "نحن لا نخاف من أولئك الذين يدعون على التغيير وإنما نخاف من زهور ونيسي التي تسهر وتعكف على الكتب الصفراء ثم تأتي في الصباح لتنسف كل تلك الأفكار التي اطلعت عليها..". إذن العملية لم تكن سهلة وبالتالي أكرر ما قلته لك سابقا وهو حينما أسندوا لي حقيبة الشؤون الاجتماعية، لم أكن أدري هل كانوا يريدون أن ينقذوني من المجلس الشعبي الوطني أم كانوا يريدون أن ينقذوا المجلس مني، السؤال مطروح، ولكن ومع ذلك قانون الأسرة لحقنا إلى مجلس الوزراء وأعيد مرة ثانية قراءة القانون واصطدمت كذلك ببعض الأفكار المتطرفة مثل تلك التي كانت متواجدة في المجلس، فالدفاع يبقى دائما متواصلا وفي أي موقع كان فيه الإنسان، ولا يجب إطلاقا القبول بالأفكار المريضة الجامدة ولا يمكن القبول كذلك بالأفكار المستورة التغريبية التي تعمل على استلاب شخصيتنا، وأذكّر مرة أخرى أنني نتاج تكوين إصلاحي لتطهير المجتمع حتى يقوم بمهامه الكبرى في التحرير. إن القانون هو نتاج المجتمع ما يحمله من تاريخ م تراث و قيم، ولنا من ذلك ما يجعلنا نفتح العالم ولكن هذا يتطلب نخبة من المجتهدين في كل عصر وفي كل زمان، أما عن قانون الأسرة الخير فيمكن القول أنني حضرت العديد من الجلسات بوزارة العدل حاولت من خلالها تبليغ رسالتي وأفكاري التي آمنت بها وهو ما دام الأسرة هي الخلية الأساسية في المجتمع، فأنا أعتقد أن العلاقة بين الرجل والمرأة لو تأسست على الحب والمودة والرحمة لتجاوزنا كثيرا من المشاكل. س: بعد التعديل الوزاري و بتاريخ 18 فيفري 1986 أسندت لكم حقيبة التربية، الأمر الذي يدفعني لأسألكم حول المنظومة التربوية التي لم تستقر على حال منذ عقود، ما هي المراحل التي يمكن أن نحدد بها ملامح السياسة التربوية في البلاد منذ الاستقلال، وهل ترون أنها اليوم فعلا تبشر بغد مشرق لأبنائنا؟ ج: كانت تلك المرحلة التي تقلدت فيها مسؤولية قطاع التربية صعبة جدا، وبالخصوص أن دعوة القيادة إلى الإصلاح والتغيير جاءت بعد مدة طويلة من الجمود، بعد الاستقلال واجهتنا صعوبات كبيرة، واضطرت الجزائر للاستعانة بالكوادر العربية التي لها وعليها ولم نحقق بذلك إلى ما كنا نطمح إليه من تطور وتقدم، وعليه كان من الضروري تأسيس معاهد خاصة بتكوين الأساتذة لتدارك الفراغات والنقائص، كذلك التغيير السريع لبعض الوزراء للقطاع مرة وبقاء بعضهم لمدة طويلة على كرسي الوزارة كان من شأنه إضفاء المزيد من السلبيات على قطاع التربية. أما أكبر مشكلة واجهتني بالوزارة فهي عندما شرعت في تغيير الوجوه القديمة التي عمرت بالوزارة والتي لم تقدم شيئا سوى أنها تشغل المكاتب من أجل الراحة وقراءة الجرائد، وبعد شروعي في المهمة واستماعي للعديد من وزراء التربية، تأكد أن الجزائر على الأقل تمكنت من تحقيق مبدأين أساسيين وهما: ديمقراطية التعليم والتعليم العلمي والتقني، أما بالنسبة للتعريب وللجزأرة فلم نكن لنصل إلى نتائج مرضية بعد. أنا من دعاة الإصلاح ولكن بشروط، فهؤلاء التلاميذ أبناؤنا لا يجب أن يتحولوا إلى حقل تجارب كل سنة..، أين هي لجنة إصلاح المنظومة التربوية؟ وكيف اختيرت الأسماء التي شاركت في هذه اللجنة؟ وللأسف أنها اختيرت بشكل سياسي، فالتركيبة كانت سياسية بالدرجة الأولى، لا هي تربوية ولا تعليمية ولا هي ثقافية، إذن وكأننا جمعنا وجوه الصراع في سلة واحدة في مرحلة شاهدنا فيها بداية الانفتاح على التعددية السياسية والإعلامية وبالتالي سقطنا في أخطاء لا يغفرها المجتمع وبالخصوص الكبيرة منها، إذن على الحكومة أن تسهر على قطاع التربية وتسد كل الثغرات والنقائص وتجعل من إطار التربية أهم إطار في الجزائر لأن الاستثمار البشري هو قبل كل شيء. س: قبل التجربة الوزارية في الجهاز التنفيذي انتخبتم عضوا في المجلس الشعبي الوطني خلال الفترة التشريعية ( 1977-1982)، كيف تقييمون هذه التجربة في عهد الحزب الواحد، وبالخصوص وأننا أدركنا أن عهدكم في الحزب الواحد بالمجلس الشعبي الوطني كان أحس حال من عهد التعددية من حيث الحراك و المواقف التي كانت تتخذ من قبل النواب؟ ج: أنا أثمن كلامك فالمجلس الشعبي الوطني في تلك الفترة لم يكن برلمان " بني وي وي"، كان أعضاء المجلس يتنافسون على من يأتي بالجديد وبالدفاع عن القيم الجميلة وللدفاع عن حقوق المواطن وعن تطلعاته، وكان النواب آنذاك مقدمين على الوزراء بحيث كان الوزير يحسب ألف حساب حينما يقف أمام النائب، وهنا دعني أروي لك واقعة، وهي انه قدم لنا بالمجلس مشروع قانون يلغي المنحة الخاصة بالأطفال( المنح العائلية) بالنسبة للموظفين و إحلال محلها صندوق وطني للطفولة بكامل احتياجاتها، فوقفت حينها أثناء المناقشة وقلت: لماذا تلغى المنح العائلية ولا نقدم على إلغاء مصاريف الرفاهية التي يتمتع بها الوزراء ومن السيارات التي يستخدمها الوزراء ومن الفخفخة المتفشية بين الوزراء... وفي إحدى المناسبات وخلال زيارة قام بها العقيد القذافي للجزائر دعي فيها لمأدبة غذاء بالبرلمان وبينما الرئيس الراحل بومدين برفقته العقيد القذافي قال له: "هذه زهور ونيسي مجاهدة وكاتبة وعضو بالبرلمان.. ولكن لسانها طيل..."، فالرئيس بومدين رحمه الله كان يشجع الشجاعة ولا يحبذ الاستكانة والخنوع...وفي نفس المناسبة وبحضور النائب المرحوم موسى أخاموخ، قال القذافي عنه "هذا من عندنا، يقصد أخاموخ من التوارق"، فنطق بومدين موجها كلامه لأخاموخ قائلا: "موسى، قال السيد العقيد أنك من عندهم؟"، فرد عليه أخاموخ: "أوّاه، أنا من الجزائر"، إذن أعود و قول أن المجلس الشعبي الوطني آنذاك كان يقوم بدوره. س- من خلال عضويتكم بمجلس الأمة سنة 1997، كنتم من ضمن المجموعة البرلمانية التي تشكل الشعبة المغاربية لاتحاد مجلس الشورى المغاربي، ما هي في نظركم معوقات الاندماج المغاربي، وهل تعتقدون أن مشروع الاتحاد المتوسطي سيكون بديلا لمشروع المغرب العربي الذي هو قبل كل شيء مطلب شعوب المغرب العربي؟ ج) إن النية والإرادة والإيمان في بناء المغرب العربي الموحد لدى الجزائر صادقة، منذ ما قبل الاستقلال ومواثيق الثورة شاهدة على ذلك، مع ذلك يمكن القول أن مشكلة الصحراء الغربية هي إحدى العوامل التي تقف في وجه هذه الوحدة، ولو عملت دول جامعة الدول العربية وأخذت مسؤوليتها بالاعتراف بالصحراء الغربية كدولة، في إطار حق تقرير المصير، لتجاوزنا هذه المعضلة ودخلنا في عهد جديد، لكن المساومات والمصالح تدخل في هكذا معارك، وبقي الأمر هكذا حتى جاء الوقت الذي يراد فيه الالتفاف على حلم الشعوب المغاربية، باقتراح المشروع المتوسطي الذي هرولت وهللت له كل من تونس والمغرب، فالمشروع المتوسطي الذي هو مشروع استراتيجي له أبعاد متوسطة وبعيدة الأمد، هو في اعتقادي محاولة للتطبيع مع إسرائيل، فخلق المشاكل والقلاقل مثل ظاهرة الحراقة والتنصير داخل الدول المغاربية وبالخصوص الجزائر، هو من أجل دفعها للإسراع بالقبول للارتماء في أحضان الغرب كمخلص ومنقذ والحقيقة هي غير ذلك، وبالتالي لا بد من اليقظة والحذر. س- لو طلبنا من السيدة زهور ونيسي أن تلخص لنا التجربة الإبداعية النسائية في الجزائر، ماذا تقول؟ ج) التجربة الإبداعية في الحقل النسائي جعلتني محل تزاور مع العديد من الشابات المبدعات من الجيل الجديد من الجامعات، أما عن أبناء جيلي فلم يستمروا في مواصلة الكتابة ومنهن من كانت تكتب على صفحات جريدة البصائر، ثم توقفن مثل مليكة بن عامر وليلى بن دياب، إذن لم يبقى سوى المتحدثة وآسيا جبار، هي تكتب بالفرنسية وأنا أكتب باللغة العربية، وبعد سنوات جاء جيل أحلام مستغانمي التي درست عندي بثانوية عائشة، والأمل معقود على هذا الجيل الجديد المليء بالنشاط والحيوية الذي يحصد العديد من الجوائز حتى خارج الوطن. س- ما هو تقييمك لمبدعات المهجر: آسيا جبار، أحلام مستغانمي، فضيلة الفاروق...وهل يعبرن ويعكسن فعلا واقع ونبض الإنسان الجزائري بعد القطيعة الجغرافية التي عقدنها مع الجزائر؟ ج) ماذا أقول لك، ربما آسيا جبار لها مبرر قوي لمغادرة الجزائر والإقامة في الخارج، بحيث أنها رحلت في عنفوان الدعوة إلى التعريب، أما عن أحلام مستغانمي وفضيلة الفاروق، فقد تزوجت كل منهما من لبناني ومن المعقول أنهما تتبعان أزواجهن، وربما يجدن ما يلبي طموحهن في الشهرة أكثر من تواجدهن بالجزائر، فالظروف لها أحكامها وهنا لست أدري بالضبط أهو اغتراب أدبي فقط، أم هو شيء آخر غير ذلك؟ لست أدري، ومن حق المبدع أن يكبر ما يريد وكيف يشاء، حتى وإن كان بعيدا عن وطنه، لكن ليس من حقه السب والشتم، إنما من حقه أن ينتقد دون أن يشيع صورة سيئة عن بلده في الخارج وهو غير متحكم في تصوره للأوضاع كما يجب. س-لكن ماذا تعلقين عندما تستغل الروائية فضيلة الفاروق كل مناسبة إعلامية لسب الجزائر سلطة وشعبا، وعندما يقال أن آسيا جبار تكتب كذلك تحت الطلب للشهرة وكسب الجوائز وبالخصوص في فرنسا؟ ج) نعم تتبعت تصريحات فضيلة الفاروق الإعلامية، التي تهجمت فيها حتى على قيم المجتمع الجزائري وربما هي كذلك، مثلها مثل آسيا جبار، تكتب تحت الطلب، حتى وإن كانت مقيمة في دولة عربية شقيقة، لكن للأمانة في المدة الأخيرة، يمكن القول أن آسيا جبار راجعت الكثير من أفكارها، فلما دعيت لحفل تكريم آسيا جبار، لتسليمها جائزة السلام بألمانيا وجدتها عادت وبشكل ملحوظ إلى الإطلاع على الكتب الصفراء ووجدتها كثيرا ما تستشهد بالترميذي، البخاري، طه حسين، وبالمصادر الإسلامية، هذا يعني أنها عادت إلى ثقافة ودين مجتمعها، هنا لا بد أن تسأل الظروف التي في كثير من الأحيان هي التي تصنع القرارات، لكن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار وقد جاء في أحد قصصي وأن قلت أنه: حتى وإن قدروك..حتى وإن احترموك..حتى وإن أوهموك أنك صاحب حقوق مثلهم..حتى وإن لم يتدخلوا في شؤونك الداخلية..فإنك لا تستطيع أن تمنع نظراتهم إليك كأجنبي". س-ما هي التحولات الإبداعية التي طرأت على الروائية زهور ونيسي بعد دخول الجزائر عهد العشرية الحمراء، التي راح ضحيتها بعض الروائيين والمسرحيين، دون أن نسقط الآخرين من القائمة طبعا؟ ج) في هذه الفترة أحلت فيها على التقاعد، الأمر الذي مكنني من أن أقرأ كثيرا، وفعلا الأمر يدعو إلى المرارة والأسى وأصارحك أن فترة العشرية الدموية غيرت كثيرا من ذهني ومن مشاعري، إلى درجة أنني فقدت فيها الأمل وشعرت بالإحباط وراودني الحزن الشديد، بالخصوص حينما أستذكر المحطات الوطنية التاريخية من الثورة الجزائرية، التي ضحى من أجلها الشهداء بالنفس والنفيس، وقد جاء ميلاد روايتي "لونجا والغول" سنة 1996 نتيجة هذا المخاض العسير. س-هل لك مساهمات شعرية وهل لازال الشعر هو ديوان العرب، أم أن الرواية بدأت تزحزحه من مكانته؟ ج) بلا، أكتب الشعر على النمط العمودي والحر وكثير من الرسائل التي تصلنا أرد عليها بالقصائد الشعرية، لكن لا يوجد عندي ديوان مطبوع خاص بأشعاري، أما أن الشعر لازال ديوان العرب فأعتقد أن الشعر والرواية كل يكمل الآخر، بالخصوص إذا كانا في خدمة القضايا الوطنية والقومية. س- أنت كمبدعة، كيف تحللين غياب النقد عن الساحة الثقافية، هل ذلك لأنه يحتاج إلى ملكة ومهارة معينة لم نصل إلى مستواها ولماذا غياب المرأة الناقدة عن المشهد الثقافي الجزائري بالخصوص؟ ج) بطبيعة الحال الشروط التي ذكرتها مطلوبة في الناقد، ويجب على الناقد أن يكون فنانا مرتين حتى يمكنه أن ينتقد الآخرين، ويمكنني أن القول أن النقد اليوم أضحى مقتصرا على البحوث والدراسات الأكاديمية بالجامعة، في الوقت الذي كان فيه النقد سابقا ومنذ عهد الاستقلال على صفحات الجرائد، والشيء الذي يجب ملاحظته أن هناك نفاقا ومجاملة فيما بين بعض الكتاب، الذين يروجون لبعضهم البعض بالحق وبالباطل، وهناك من يضيق صدره بالنقد وكأنه مساس بكرامته، في الوقت الذي يجب أن يتعامل مع النقد بطريقة إيجابية، لتقويم وتصحيح بعض الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها المبدع أو الكاتب بصفة عامة، وبالمناسبة وجهت لي دعوة من سوريا وفي إطار "دمشق عاصمة الثقافة العربية" للمشاركة في الملتقى، الذي سينظم تحت عنوان "أدب زهور ونيسي"، حينما شرعت في جمع النصوص النقدية التي تناولت إبداعاتي وكتاباتي وجدت أغلبها قد كتبت قبل تسعينيات القرن الماضي، أما بعد ذلك فلم أعثر إلا على النزر اليسير وكأن كل شيء تعطل بسبب السنين العجاف التي عشناها، الآن فقط بدأنا نلتقط الأنفاس، كنت أجد سعادة بالغة حينما يتناول الأستاذ جنيدي خليفة قصصي بالنقد والتشريح الذي يطبعه بالكلام الجميل والنظيف وبموضوعية صادقة، فكما ذكرت لك يوجد بعض الأسماء المحترمة في عالم النقد مثل جنيدي خليفة، الدكتور عبد الله الركيبي، الدكتور عمر بن قينة وغيرهم، وبعد أن سلمتها له، عمل الروائي عز الدين جلاوجي على جمع بعض الدراسات النقدية، التي تناولت إنتاجي في كتاب بعنوان "زهور ونيسي..دراسات نقدية في أدبها" طبع في إطار "الجزائر عاصمة الثقافة العربية". س-ما هو رأيك حول أدب الجنس وكيف تعلقين على ما قاله الروائي جلالي خلاص من" أن الرواية الخالية من الجنس هي رواية متخلفة" وما هي الخطوط الحمراء التي لا يجب تجاوزها في مجمعاتنا العربية؟ ج) هذا رأيه الخاص ووجهة نظر هو حر فيها، لكن أنا لا أؤمن بها، يمكن أن تتطرق القصة أو الرواية وتخوض في كل شيء له علاقة بالإنسان، لكن بلغة راقية وجميلة، لا تخدش الحياء أو تمس بكرامة الإنسان، وحتى في الجنس يمكن أن نتكلم، لكن في إطار سام، رسالة المبدع هي أن يرتفع بالقارئ لا أن يهوي به إلى الأسفل، وأنا على رأيك حينما تقول، بأن الروائي بقطاش صرح لك بأن رواية الجنس تجاوزها الزمن...الذي لا يستطيع أن يتحكم في ناصية اللغة تحكما كاملا، هو الذي يلجئ للرواية الجنسية بالطريقة الجارحة. س-هل اللغة العربية فعلا تحمل جينات الإرهاب كما يقول الفرانكفونيون، وما هو تعليقك حول تعطيل تطبيق قانون اللغة العربية عبر معظم مؤسسات الدولة؟ وهل فعلا المرحوم مصطفى الأشرف هو الذي صفى التيار العروبي من المراكز الحساسة في الدولة؟ ج) الذين يقولون بأن اللغة العربية تحمل جينات الإرهاب هم أعداء الجزائر وأعداء العروبة والإسلام، فأطروحة الغرب بالأمس واليوم هي التي تروج لذلك، اللغة العربية بعيدة كل البعد عن العنف والإرهاب، لا توجد لغة عبر العالم فيها من الرقة، اللطف، الشاعرية والشفافية مثل اللغة العربية، أما عن مصطفى الأشرف المجاهد والمناضل، فلا يسعني إلا أن أقول أنه من المثقفين القلائل الذين أنجبتهم الجزائر، وقد كانت محاولات الإصلاح التي أراد أن يدخلها على المنظومة التربوية تجمع بين الصالة والمعاصرة، مع ذلك لم يمكث طويلا في قطاع التربية حتى يحمل مسؤولية ما ذكرت، ولو كان الأشرف صوت الفرانكفونيين لما قبل به الرئيس الراحل بومدين ووضعه على رأس وزارة التربية. س- هل تعتقدين وأنت صاحبة اللسان العربي البليغ، أن الأدب المكتوب باللسان الفرنسي هو من الأدب الجزائري؟ ج) بطبيعة الحال اللغة هي المعبر عن الفكر، لكن حينما يكتب الجزائري باللغة الأجنبية على العموم دون أن نقتصر في الحديث على اللغة الفرنسية..، يجب أن يكون المحتوى وطني جزائري وبيقين وعقيدة جزائرية، أما إذا استخدمت لغة أجنبية والمحتوى لا علاقة له بالوطن، فلا يمكن أن ننسب هذه الكتابة أو هذا الأدب للجزائر، مع ذلك وإذا أردنا تقييم الأمور فليس كل الكتابات باللسان الفرنسي هي كتابات وطنية، لأن عقدة الأجنبي لازالت متعلقة ببعض النفوس الضعيفة والمريضة، هنا بالجزائر أو على مستوى الوطن العربي. س- في المدة الأخيرة بعض الأصوات تدعوا إلى الانفتاح على العالم وعلى الثقافات المتعددة دون عقدة دينية أو قومية كما يدعون، هل تؤمن الأديبة بشيء اسمه الأدب اليهودي وما رأيك حول الترجمة(الأدبية والفكرية العربية) من وإلى اللغة العبرية؟ ج) أقسم السؤال إلى شقين، أولا: الترويج يدخل في إطار سياسة العولمة، بالدفع إلى التطبيع الثقافي، مع ذلك يمكن القول أن الترجمة ضرورية حتى يمكن الإطلاع وكشف أفكار الآخرين، بغض النظر عن هويتهم الدينية والقومية، فالمثقف اليهودي يروج فقط للقرآن الكريم، من خلال استخراج الآيات التي تتحدث عن اليهود وأفعالهم عبر التاريخ، وكيف يجب التعامل معهم حتى يظهروا للعالم حسب زعمهم، كيف أن القرآن كتاب المسلمين يدعوا للعنف وللإرهاب، أما عن ثقافتنا الحضارية السمحة المسامحة، فإنه لا يعمل على ترويجها، بل بالعكس يجتهد في أن تكون الثقافة العربية الإسلامية مجهولة في الغرب حتى يمكن تزييفها وتحريفها، إذن فإذا كان "أبا إيبان" وهو الذي كان وزير خارجية إسرائيل، متخصصا في الأدب العربي، فمن الواجب علينا أن نكون مطلعين نحن كذلك على ما يكتبه اليهود وغيرهم، وهذا لا علاقة له بالموقف السياسي من إسرائيل، التي أغتصب الأراضي العربية بالقوة والتي ندينها على ذلك ونقاومها بكل ما لدينا من أسلحة مشروعة. س- ونحن نتحدث حول هذا الموضوع، هل توافقين على أن يخصص بجامعاتنا فصلا "موديل"، لدراسة الأدب اليهودي من باب المعرفة؟ ج) لا يمكنني أن أطالب أو أوافق على ذلك، لأنه يعتبر تطبيعا مباشرا من قبل مؤسسة رسمية للدولة، لكن كفعل يدخل في الترجمة فلا بأس من ذلك، وهنا دعني أروي لك أنه في إحدى زياراتي لباريس بصحبة زوجي، شاهدت فيلما بعنوان" الليمونات" من إخراج شخص يهودي، أسند فيه الدور الرئيسي لممثلة سورية كانت تلعب سابقا الأدوار الثانوية، خلاصة القصة أن امرأة عربية مات زوجها شهيدا وترك لها حديقة من الليمون، فيأتي الوزير الإسرائيلي المجاور لها وللحفاظ على سلامته الأمنية يستولي على ذلك الحقل ويقحم فيه حرسه مما جعل الليمونات تذبل وتموت، وبالتالي تدخل تلك المرأة صاحبة الحقل في معركة قضائية مع الوزير لاسترجاع حقها، وبعد أمد طويل لا تحصل على حقها إلا من عند زوجة الوزير، الفيلم ناطق باللغة العربية وبالعبرية ومترجم إلى الفرنسية، الفكرة التي تخرج منها وأنت تشاهد هذا الفيلم الرائع، أن هذا اليهودي صاحب الفيلم هو ضد الإسرائيليين وضد الاستيطان الغاشم، إذن لا بد من الاستفادة من مثل هذه الأعمال ولا بد الاجتهاد للعمل مثلها أو أحسن منها، في الدفاع عن قضايانا العادلة بدل الاكتفاء بالخطب والثرثرة، لا بد أن نكون إيجابيين وفاعلين في كل الجبهات، وسياسة الكرسي الشاغر غير مفيدة وغير حكيمة ولا مجدية. س- سيدتي وأنت تدعين للترجمة أجد ربما إشكالا في الموضوع، وهو هل تتركين هذا الأمر للمبادرات الفردية للمختصين وللمثقفين كأفراد، أم أنك تتركينه كذلك للمؤسسات، مثل المعهد العربي للترجمة الذي مقره هنا بالجزائر؟ ج) بإمكان المعهد العربي للترجمة أن يقوم بمهمة الترجمة ولا اعتراض على ذلك، لا أرى أن لذلك علاقة بالتطبيع، لأن مهمة المعهد هي الترجمة من وإلى جميع اللغات، ربما قد أكون على غير صواب وغير ملمة بحيثيات الموضوع، لكن كمثقفة أرى أنه من الضروري ترجمة كل ما يكتب عنا وكل ما يجعلنا نعرف ما لدى الآخرين من منتوج في عالم المعرفة.ذ س- وهل توافقين على تدريس اللغة العبرية من باب "من عرف لغة قوم أمن شرهم"؟ ج) والله دعني أذكر لك بعض الرموز وبعض الأسماء العملاقة التي كانت تتقن أكثر من لغة، بما فيها العبرية ومنهم عبد الحليم بن سمايه، الفنان عمر راسم وأستاذ الشيخ بن باديس حمدان لونيسي، فهل يمكن أن نشك في وطنية وأصالة هؤلاء، مع ذلك لا يمكنني أن أجيبك عن السؤال بنعم أو بلا، لأن المسألة محفوفة بكثير من الشبهات وتحتاج إلى إحاطة مستفيضة من التفكير والمشورة. س- سيدتي زهور، لكل مبدع أو كاتب طقوس وعادات، ما هي طقوس الكتابة الروائية في حياة المبدعة زهور ونيسي؟ ج)( تبتسم السيدة زهور) أنا أضع في كل غرفة من غرف البيت، دفترا وقلما، ومتى حضرتني الفكرة دونتها حتى لا تضيع مني، أما كطقوس فأنا متفرغة للكتابة منذ صغري ولا أضيع وقتي كثيرا في الثرثرة وحضور مناسبات الأعراس، كما تفعل معظم النساء، فعندي نوعا من الموضوعية والمنطق في تسيير الوقت، فروايتي" جسر للبوح وآخر للحنين" هو نص تأبيني عن المرحوم "أبو العيد دودو" الذي كان يناديني بالكاتبة الماجدة، فالكتابة عندي تأتي بدون ضغوط وهي بالنسبة لي صناعة. س- ما هي مشاريعك المستقبلية التي ننتظر ميلادها عن قريب؟ ج) أنا أشتغل منذ حوالي ثلاث سنوات على مسلسل حول الإمام عبد الحميد بن باديس، بعنوان "على خطى بن باديس"، وبكل صراحة هذا العمل أخذ من وقتي الكثير وأجهدني، لأن العمل يتناول حياة بن باديس منذ ولد إلى أن توفي، آخذا بالاعتبار كل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي كانت في زمانه، بحيث أنه عمل إبداعي من جهة ويحتاج إلى توجيه من التاريخ، الذي لا يجب التلاعب به في التعاطي مع الفواصل الزمنية الدقيقة، بخلاف كتابتي الروائية التي عندي فيها الحرية المطلقة، بحيث أنا التي أمتلك الزمان والمكان، أما الكتابة الإبداعية التاريخية، فأنا رهينة الزمان والمكان وهذا هو الفرق بين العملين، هنا لا بد التوجه بالشكر لما قامت به وزارة المجاهدين من مجهود في طبع المراجع التاريخية للجزائر والشكر والتقدير موصول كذلك للدكتور أبو القاسم سعد الله، فلقد استعنت كثيرا بموسوعته الرائعة "تاريخ الجزائر الثقافي" في كتابة نص "بن باديس". س- ما هي علاقك بالشيخ بن باديس وسر اهتمامك به؟ ج) العلاقة في ذلك أن والدي درس عنده، فقد كان بن باديس يعقد دروسا خاصة بالنساء في قسنطينة بين صلاة العصر وصلاة المغرب، أما والدي فقد كان يمحو أميته بالدراسة بعد صلاة العشاء، فهو لم يكن يحفظ سوى القرآن الكريم، أما العلاقة العائلية فيمكن القول أنها كانت متينة وصلبة وبينهما مصاهرة، حتى أستاذ الشيخ بن باديس وهو الشيخ حمدان الونيسي، فهو أحد أجدادي من العائلة، زيادة على أننا منذ البداية درسنا في أول مدرسة أسست لجمعية العلماء المسلمين وهي جمعية التربية والتعليم بقسنطينة، وأنا اليوم نائبة رئيس مؤسسة بن باديس . س) ما هو رأيك باختصار حول بعض الأسماء: مالك حداد: هذا الرجل لما عرفناه فقدناه كما قال الشيخ بن باديس عن ابن شنب، هذا الرجل الذي يكتب بالفرنسية ومع ذلك لا يتبجح أنه أفضل من الآخرين، بل يقول : أنا منفي في اللغة الفرنسية، وحبه لقسنطينة مثل حبي لها، وقد عملت تحت إشرافه كأمين عام لاتحاد الكتاب. _ كاتب يس:كتاباته جميلة جدا، وقد كان وفيا لقناعاته، ولا بد وأن نعتز به ككاتب جزائري في الوقت الذي سبقنا بالاعتزاز به أناس آخرين في المشرق العربي، وأنا أفرق بين الإبداع والإيديولوجية للشخص. _ الطاهر وطار:هذا رفيق عمري في الكتابة الأدبية، وهو أمة أدبية كبيرة تعتز بها الجزائر، ويعتز بها أصحاب المبادئ التي أؤمن بها أنا. _ وسيني لعرج: هذا همزة التواصل بين الأجيال، وقامة أدبية وأكاديمية يجب تقديرها. _ يسمينة خضرا: كتاباته تتميز بنوعين أو بطبعتين، كتابة تحت الطلب وأخرى لها شكل آخر، ربما ردود أفعال الآخرين تجعلنا نراجع كثيرا من الأفكار الخاطئة. _ أمين الزاوي: هذا اسميه أنا الأديب الأنيق، صاحب الارتجال المبدع، هو من النوع الذي لا يعرف أن ينطق بكلمة جافة جارحة، فكل كلماته فيها ليونة، رقة، حب، ابتسامة وأمل.. أعمال الأديبة زهور ونيسي - "الرصيف النائم" قصص 1967 - "على الشاطئ الآخر" قصص 1974 - "من يوميات مدرسة حرة" رواية 1978 - " الظلال الممتدة" مجموعة قصصية 1982 - "لونجا والغول" رواية 1996 - "عجائز القمر" قصص1996 - "روسيكادا" قصص 1999 - "نقاط مضيئة" مجموعة مقالات 1999 - "جسر للبوح وآخر للحنين" رواية 2007 - "دعاء الحمام" (2008) النص اقتبس مسرحيا وعرض بالجلفة.