الإنسان الأمازيغي ضحية التاريخ الدائمة وتاريخنا لا يكتب دون معرفة الامازيغية حاوره: نورالدين برقادي استعار من ايبيلوس قلمه ومن دونات تمرّده، كما اخذ من ابن خلدون شغفه بالعلم وعن كاتب ياسين تشبّثه في الدفاع عن التعددية اللغوية.. كلّ هذه الأشياء أضافها إلى بصمته الخاصة والمتمثلة في المزاوجة بين الميكروفون والقلم. الكاتب محمد الصالح ونيسي، هذا المناضل الثقافي الستيني (يبلغ من العمر 61 سنة ) ورغم معاناته من متاعب صحية إلا انه يصرّ على البحث والتدوين من خلال إصداره لعشرة كتب في الثقافة الشعبية الأمازيغية إلى جانب تقديم عدة برامج إذاعية، بإذاعات باتنة وخنشلة. الحوار مع "الشيخ ونيسي" كما يلقّب تناول واقع الثقافة الجزائرية ماضيا وحاضرا: استطاعت المرأة الجزائرية الأمية في: غرداية، الأوراس، توقرت ... أن تصنع زربية رائعة الجمال والإتقان، وتنافس بها زربية بلاد فارس، كيف كان لها ذلك ؟ للمرأة الجزائرية ماض وتاريخ عريق. ليس فقط في فنون النسيج والعناية بالأطفال، بل إنها فرضت نفسها في ميادين عامة مثل السياسة والثقافة وتسيير الشؤون العامة. ولا أدلّ على ذلك من أن اغلب أسماء القبائل الأمازيغية القديمة كانت بصيغة التأنيث والمؤنث. مثل: زناتة، صنهاجة، أزداجة، لمتونة، مصمودة، سدراتة، نفوسة، هوارة ... ومقاومة ديهيا الأوراسية وتنظيمها لدولة أمازيغية، وقيادتها للجيوش معروفة لدى الخاص والعام. هذا في وقت كانت فيه بعض الشعوب تئد بناتها خوفا من العار. هذا (العار) هو الذي أرغم منذ زمن، المرأة الأمازيغية على الانعزال في بيتها وحرمانها من المشاركة في الحياة العامة. وبما أن الطبيعة الإنسانية جبلت على التحايل على كل أساليب القهر والكبت، فقد حوّلت المرأة هذا الحرمان إلى إنجاز اقتصادي وفني مفيد: الزربية. فقد حوّلت المرأة طاقاتها الكامنة إلى رسومات جميلة وإلى رموز تعبّر عن شخصيتها. وأغلب هذه الرموز لم يتم تفكيكها وتحليلها لحد الآن، لغياب الدراسات الأنتروبولوجية أو لقلتها. وهناك قصص وأساطير وحكايات عن الزربية الأوراسية التي تسمى بالشاوية "ثراكنا" والزربية الميزابية وغيرها لا يسعنا المقام لذكرها. الفخار الجزائري يحمل رسومات غاية في الإبداع، من أين تستمد هذه الرسومات ؟ في الحقيقة، تنتمي رسومات الزربية والفخار وكذا رسومات الوشم على الجسد، ورسوم الحلي الفضية إلى أصل واحد لتشابهها في الأشكال الهندسية والرموز: مثلثات، خطوط منكسرة، متوازيات... وطبعا فإن تاريخها يعود إلى عهود سحيقة، إلى بداية بروز الذوق الفني لدى الإنسان الأمازيغي، بعد تحوّله من البداوة إلى التحضر والاستقرار. تماما مثلما هو حاصل في مجتمعاتنا الحديثة. فالواحد منا يحيط غرفة أكله بمجموعة من الرسوم الجميلة واللوحات الفنية ليستمتع بالأكل. نفس الشيء يقال بالنسبة للإنسان القديم. فقد كان هو أيضا يستمتع بالرسومات التي رسمها على "ثاسيلت" و "أطبسي" و "ثاربوث" و "ثاقبوشت" مع استمتاعه بمذاق "سكسو" و "آغي" الحليب في نفس الوقت. الرموز البربرية مسجّلة على الزربية، اللباس، الفخار، الحلي ... هل يمكن اعتبار هذه الرموز كتابة؟ طبعا. فكل رمز وكل رسم هو عبارة عن رسالة. والكتابة بدأت أول ما بدأت بالصور مثل الكتابة المصرية القديمة "الهيروغليفية". فكلمة "طائر" كانت تكتب برسم صورة الطائر ذاته. الإنسان المغاربي ساهم برسومات الطاسيلي والهقار في التمهيد لظهور الكتابة، تاريخيا، ما هي الظروف التي توفرت لهذا الإنسان لإبداع هذا الفن ؟ ولماذا لم تتواصل عملية تجسيد ما في العقل باليد ؟ هناك ظروف مناخية ملائمة للحضارة كانت سائدة في منطقة الأهقار والطاسيلي منذ 12 ألف سنة ق.م. فقد كان الجوّ ممطرا والحرارة معتدلة، والتربة خصبة زاخرة بالأشجار والأعشاب ومختلف أنواع الحيوانات. إن هذه الأجواء البهيجة وهذه الطبيعة الغنّاء التي كانت تعج بمثل هذه المخلوقات من شأنها دفع العقل البشري إلى الإبداع والتأمّل والابتكار. وإن وجود حيوانات قوية مفترسة في هذه البيئة من شانها تهديد وجود الإنسان ذاته، مما يدفعه إلى استعمال كل الوسائل للدفاع عن نفسه. والأزمة تلد الهمّة. وفي غمرة هذه الظروف، كان الإنسان الأمازيغي يتواصل مع بني جلدته بهذه الرسوم، مما يدل على تعاونه لدرء هذه الأخطار. والتعاون علامة التحضر. والحاجة أم الاختراع. ونفس الشيء يقال عن الفينيقيين الذين اخترعوا الحرف الفينيقي، الذي هو أصل الحرف اللاتيني العالمي الحالي. فقد كان اهتمامه بالسفر والتجارة سببا لاختراعهم هذا الحرف من أجل التفاهم مع الشعوب التي لا تعرف لغتهم. وتقول الدراسات الحديثة بأن سكان مناطق الهقار والطاسيلي نزحوا شرقا، وبعضهم نزح شمالا نحو شمال أفريقيا، بعد الجفاف الكبير الذي حلّ بوطنهم بحثا عن ظروف أحسن. فاستوطنوا وادي النيل. وهناك أسسوا ما يعرف تاريخيا بالحضارة المصرية القديمة. وطبعا طوّروا رسوماتهم القديمة إلى رموز كتابية وصور. ومن هنا طوّر الفينيقيون هذه الرموز والصور إلى حروف. ثم اقتبسها الإغريق عن الفينيقيين. وعن الإغريق اقتبس الرومان. تماما مثلما اقتبس الفرس والعرب الأرقام الهندية وطوّروها في علوم الحساب والرياضيات. ثم اقتبس الغربيون هذه الأرقام وأسموها «Les chiffres arabes» وكانت السبب في تعميم ما يعرف الآن بثورة الكمبيوتر والانترنت. الذاكرة، آخر ما نهتم به في الجزائر، ما هو مصير الأمة التي لا تهتم بذاكرتها بل تحاول قتل هذه الذاكرة ؟ هناك حقيقة مرّة ومؤلمة. وهي أن الإنسان الأمازيغي وعلى مر العصور كان دائما يلبس ثوب الضحية. ولا تزال إلى الآن ثقافة (المؤامرة الخارجية) مسيطرة على الأذهان. والأمازيغي منذ وجوده، كان يطرد محتلا في انتظار وصول محتل جديد. فالذاكرة الأمازيغية، وإن كانت حاضرة في أهم المحطات التاريخية كردّ فعل طبيعي وفطري للدفاع عن الأرض، إلا أن الإنسان الأمازيغي لم يوظف هذا الاستعداد الفطري الطويل النفس من أجل إقامة دولة مركزية ترسي إطارا عاما لذاكرته وهويته وقوميته. فآفة النسيان لعنة ملازمة له. ولا تستيقظ ذاكرته الجماعية إلا عندما تحدق به الأخطار من كل جانب وأحيانا بعد أن يكون قد فات الأوان. والأحداث الأليمة التي عشناها في العشريتين السوداء والحمراء خير دليل. وإلا كيف نفسر هذه القائمة الطويلة من المستعمرين الذين مروا على هذه البلاد دون أن يعتبر أهلها بهذه الكوارث المتكررة ؟ ونحن إلى الآن نعاني من هذا الميراث إذا لم نتوصل إلى تحديد هويتنا الأساسية. إننا في مفترق الطرق، ونحن الآن ندفع ثمن التضحيات العظيمة التي قدّمها أجدادنا خدمة لهويات أجنبية. خذ مثلا: الملايين من الأنفس التي دفعها الأمازيغ دفاعا عن الآخرين. فمن الأمازيغ من مات مع قرطاج ضد روما، ومع روما ضد قرطاج. حنبعل قاد 50 ألف جندي أمازيغي لمحاربة روما في عقر دارها. مئات الآلاف من الأمازيغ ماتوا في مصر وسوريا دفاعا عن الدولة الفاطمية المشكوك في نسب خلفائها. ومئات الأمازيغ ماتوا في الأندلس دفاعا عن كيانات عربية وصقلية. وقل مثل ذلك عن الحربين العالميتين، الأولى والثانية، والطابور المغربي الذي استولى به الجنرال فرانكو على الحكم في إسبانيا. وهناك العشرات من الأمثلة الأخرى. ولما لم يجد الغربيون وسيلة لاحتلال الجزائر على مشارف الألفية الثالثة، أوقدوها نارا بين أبنائها في العشرية السوداء. والمأساة كما هو معروف الآن لدى الخاص والعام كانت من تخطيط الأمريكان والصهاينة والفرنسيين. وهذه المأساة كانت تعبّر عن أزمة هوية عميقة استغلها الغربيون. وإذا أردنا أن نخرج فعلا من هذه الأزمة، فينبغي إعادة كتابة وإعادة قراءة تاريخنا بروح العصر لا بقراءة الكتب الصفراء. ككاتب وباحث في الثقافة الشعبية، كيف تقرأ الواقع اللغوي في الجزائر؟ لقد مورس ضغط كبير على الهوية الجزائرية منذ سنة 42 للميلاد حتى سنة 1962، سنة الاستقلال. ولكي نتمكن من التخلص من رواسب كل هذه الضغوط، ينبغي إعادة الاعتبار للغة الأمازيغية وتدريسها في الجامعات والمدارس، حتى نتصالح مع أنفسنا لغويا وتاريخيا. فلا يمكن لأي كان كتابة تاريخ جرجرة والأوراس وشمال أفريقيا دون معرفة اللغة الأم. فهي مفتاح كل الدراسات. واللغة هي الإطار الذي يضم كل عناصر الثقافة. وهي للمجتمع بمثابة الشرايين التي توصل الدم والأوكسجين لكل أعضاء الجسم حتى يبقى سليما متماسكا. وهي العملة الأبقى والأنقى المتداولة بين السكان. والواقع اللغوي في الجزائر سيء جدا بسبب تخبط المنظومة التربوية المؤدلجة وضبابيتها. فالطفل يتعلم الدارجة والأمازيغية في المنزل والشارع ليصطدم بلغة جديدة (الفصحى) في المدرسة. ليدرك فيما بعد أن الفصحى ليست سوى ضمان للخبز، وليست لغة إبداع أو إنتاج، لينبهر مرة أخرى أمام إنجازات اللغات الأجنبية في ميادين العلوم والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية. لتبقى الفصحى حبيسة جدران الجامعة والإدارة. أما لغة السوق والمقهى والشارع، أي لغة التعامل اليومي فهي الدارجة والأمازيغية. إنه تناقض ما بعده تناقض. لقد أبدينا عداء للغة الفرنسية بدافع أيديولوجي وتاريخي، وهي لغة علم وتكنولوجيا شئنا أم أبينا (60 بالمئة ) من الألفاظ الانجليزية ألفاظ فرنسية) لأن اللغة الفرنسية كانت سنة 1060 اللغة الرسمية للبرلمان الانجليزي. وسيأتي يوم تندمج فيه اللغتان تماشيا مع السياسة الأوربية الحالية. وفي نفس الوقت أبدينا نحن عداء للغتنا الأم اللغة الأمازيغية- فأصبنا بنقص المناعة اللغوية. مستوى منحط في كل الاتجاهات: لا إبداع أدبي، ولا إبداع تقني. هل الجزائري يحمل صورة حقيقية وواقعية عن أخيه الجزائري، بعيدا عن الخلفيات، الأحكام المسبقة والتعميم السلبي؟ لقد قلبت العشرية السوداء كل النظريات الاجتماعية عن عناصر التماسك الاجتماعي رأسا على عقب. فقد كان الباحثون يعتقدون أن الشعوب المهيأة للشقاق والفوضى هي تلك الشعوب التي تضم ديانات ومذاهب وأعراقا متعددة. مثل الهند، العراق، لبنان، اليمن... وأثبتت الجزائر ذات المذهب المالكي بنسبة 99 بالمئة وشعبها الأمازيغي بنفس النسبة أيضا، أثبتت العكس في العشرية السوداء. إذ ضربت الرقم القياسي في عدد الضحايا وأرقام التخريب بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري ولدى جميع الأمم. السبب يعود أولا وأخيرا إلى ما سبق وان قلته في الإجابات السابقة: أزمة الهوية. نختلف في الجزائر حول الرموز، فتجد من يقول ان ماسينيسا حليف روما، الأمير عبد القادر استسلم لفرنسا، فرحات عباس اندماجي، ابن باديس مهادن للاستعمار، مصالي الحاج وقف ضد الثورة، بومدين دكتاتور، متى نتفق حول رموزنا الوطنية؟ كل الرموز والأبطال وفي جميع الأمم لم يسلموا من النقد. ومهما قيل ويقال، فإن هذه الرموز تركت بصماتها على صفحات التاريخ. وهم بشر في جميع الأحوال. ولا يمكننا أن ننكر التضحيات الجسام التي قدموها من أجل الوطن. صحيح أن الكاهنة وكسيلة كرمزين من رموز المقاومة الوطنية تميّزا عن غيرهما من الرموز الأخرى لكونهما بذلا نفسيهما في ساحة الوغى بدلا من الاستسلام، لأن حب الوطن كان يجري في عروقهما. وبالنسبة للرموز الأخرى فلكل حالة ظروفها السياسية. فالأمير عبد القادر مثلا استسلم بعد أن استنفذ جميع طاقاته وأصبح محاصرا حتى من بني جلدته. ولا ننسى أن أكبر أعداء حفيده الأمير خالد هم أعيان جزائريون طلبوا من فرنسا نفيه وترحيله. وحين زاره في منفاه بدمشق بعض أصدقائه طالبين منه العودة إلى النضال، أجابهم: "الجزائريين خصايين فحولهم". ولا ننسى أن سبب نكبة يوغرطة هو خيانة صهره بوكوس الذي باعه للرومان من أجل أطماع سياسية مذلة. نعاني في الجزائر من غياب كبير في المرجعيات، خاصة الدينية منها، ما مدى خطورة غياب المرجعية الدينية؟ الكل يعلم أن الجزائر استوردت (مرجعيات) دينية في شكل دكاترة في الثمانينيات من القرن الماضي، كانت تتقاضى أجورا خيالية من خزينتنا. هذه المرجعيات أججت نار الفتنة والاقتتال بيننا ووصلت إلى حد شتم رموزنا الثقافية والعلمية والفلسفية ونحن ساكتون. وحين شعرت بقرب انفجار القنبلة سنة 1990، غادرت الجزائر مثقلة بأموالنا. هذه المرجعيات لم تجد لها مكانا في بلدانها الأصلية فاستوطنت آنذاك بلدنا لغياب الهوية. والمشكلة عندي هي مشكلة الهوية دائما: الأمازيغي يحس دائما بأن جذوره هناك: في أفغانستان، في الجزيرة، في مصر. ألا ترى معي آلاف شجرات النسب في الجزائر، حيث أن كل قبيلة تدعي أن جذورها هناك، فضلا عن آلاف الفتاوى التي هطلت علينا كالمطر من هناك وكل فتوى تدعي أنها الأصح لمعالجة مشاكلنا. والمشكلة أيضا مشكلة ثقافية. لأن الشعب المثقف والواعي ليس كالشعب المشعوذ. فالمثقفون هم الذين تصدوا بكامل ثقلهم للإرهاب في كل من مصر وتونس وسوريا. وليست المرجعية الدينية. ودليلي على وجود يد غربية في تلك الأزمة، هي استهداف مثقفينا وكتّابنا وأمخاخنا من طرف آلة الإرهاب. أما الخطأ الذي ارتكبته الجزائر هو أنها استقدمت الشخصيات الدينية الأجنبية وهي شخصيات مطرودة من طرف مثقفي بلدانها بقوة الفكر فلم تجد مكانا لبث سمومها سوى الجزائر لأنها كانت تربة مهيأة لتلقي كل أنواع العفونات الأجنبية. أذكر أنه في ذلك الوقت صرّح الملك المغربي الحسن الثاني بما يلي: "كنت أتمنى وصول الإسلاميين إلى الحكم في الجزائر لأرى ماذا سيفعلون" مما يدل على أن الجزائر كانت مخبرا عالميا تغمس فيه كل المواد السامة لتجربة فعاليتها. هل حلول مشاكل الحاضر والمستقبل موجودة في الماضي؟ لقد شيدت الدول المتقدمة مجدها الصناعي والفكري والعسكري بفضل وعيها ودراستها لتاريخها وتاريخنا. وقد كنّا ضحية لاستعمارها لسبب بسيط، هو أن هذه القوى أجرت مقارنة تاريخية بين أسباب انحطاطها وتقدمنا في العصور الوسطى. وتوصلت إلى نتيجة مهمة وهي أن دراسة التاريخ والاستفادة منه أمر ضروري وحيوي لمستقبل الشعوب. فلا يمكن لأي أحد أن يشيّد بناية ما لم يتأكد من صلابة أرضيتها. بشرط أن تكون قراءة التاريخ تتماشى ومقتضيات العصر. وإن العائق الوحيد أمامنا الآن، هو عدم قدرتنا على تثمين الوقت والزمن. والتاريخ مرتبط بالزمن. بمعنى أن من لا يعرف قيمة الوقت لا يعرف قيمة التاريخ. وقد تندر الأوربيون بالأفارقة فقالوا: "الأوربي يملك الساعة La montre - وليس له وقت. أما الإفريقي، فلا يملك الساعة ولكنه يملك كل الوقت".