الثقافة التي ترفض السؤال تعبد الأصنام في النهاية هناك إشهار لكل الخناجر التاريخية الصدئة في وجه الفكر يعدّ القاص يوسف بوذن الحامل لشهادة الماجستير في الهندسة المعمارية من أهم الأسماء القصصية في الجزائر بشهادة عديد النقاد، وقد جاءت إجاباته على أسئلة تخص الراهن الجزائري أقرب إلى تأمل الفلاسفة منها إلى إبداع الأدباء: حاوره: نورالدين برقادي يوسف بوذن المهندس المعماري ألف وضع مخطط البناء قبل الانجاز، هل القاص يوسف بوذن يفعل كذلك قبل كتابة القصة ؟ هذا سؤال يحتاج إلى يدي أيضا لتملأ مابين الكلمات. سيخسر القارئ يدي وهي تحاول أن تفكر ما يبدو بديهيا. هناك فرق معرفي وجمالي هائل بين البناء والعمارة . نحن نبني ونبالغ في البناء، لكننا لا ننتج عمارة. هذا مصير اللسان والكلام. العمارة كلام وليست لسان وكذلك الكتابة تحرر من الملكية. المسافة بين الحجر والفكرة بين المألوف والغريب تزدهر فيها الكلمات والبلاغة والصورة كلما اتسعت، وتموت كلما كان اللسان (سيد الماضي) تكرارا واجترارا. في زمن الكتابة تتسرب الروح إلى القاموس فتوقظ سكانه على حياة أخرى. البناء قاموس الإسراء والعمارة معراج الروح. عمدا أتجنب الحديث عن الشكل والمضمون، الإنجاز والتفكير. وكما أن العمارة تنقل الحواس إلى جهة المعنى فإن الكتابة أيضا ترحال حتى لا نعود إلى نفس المكان. أحب أن تنتصر الدلالة ويضيع الدليل. كتب الدكتور حسن المودن عن مجموعتك القصصية:"وشم في الذاكرة" الصادرة عن منشورات الاختلاف بالجزائر سنة 2003، كتب مايلي: ".. في نصوص يوسف بوذن تأمّل في الكتابة، وتفكير في حدود الأدب القصصي، ففي كلّ نصّ ندرك أن الكتابة موضوعة، هي نفسها، موضع السؤال، وفي كل نصّ كتابات عديدة، كأن الكتابة لا تكتب أزمة الإنسان وقصته، بل أنها تكتب أزمتها وقصتها الخاصة.."،ماهو مصير الثقافة التي ترفض طرح الأسئلة ؟ لقد كان الناقد المغربي الكبير "حسن المودن" كريما معي، بهذه القراءة المحبٌة، التي اقتربت مني، حتى لم يعد بيني وبينها حجاب. لقد قرأ المجموعة وتبصر ما جاء فيها فاكتشف في نسغها جروحي و أسئلتي، كانت دربة خلاقة تلك التي تنفذ إلى أصل الجرح. الوشم فعل محرم، فلماذا يلجأ الكاتب إلى الفعل المحرم والممنوع ليتسلل إلى أقاليم الجسد؟ إنه سؤال في السياسة والحرية و الدين. والوشم يكون في... و ليس على...فعل يطلب الأعماق والعتمة، حيث السؤال. الكتابة لا تكون كتابة إلا إذا عرفت كيف تقول وغامرت باللغة. أن تصبح اللغة أداة الحكي وموضوعها يعني أن تضع تاريخ الإنسان موضع البحث. ما أصعب هذه الكتابة التي تجعل من النار مدادها الروحي ومن الحريق فرصة للفلاحة من جديد. الثقافة التي ترفض السؤال تعبد الأصنام في النهاية. وهذا المتن الدائري المغلق الذي يطمئن إلى مقدماته ويكتفي بجبن الأرض ينفي من حيث لا يدري خيرات القادم.هكذا يموت إنسان هذه الثقافة في غنائم الأشكال. الكتابة تجاوز ومباغتة للفناء أن ينهض. الأحداث التي نمرّ بها يوميا كجزائريين، تتجاوز الخيال وامتزجت فيها الكوميديا بالتراجيديا. هل الكاتب يلعب دور الطبيب أو المؤرخ حين يكتب عن ظروف كهذه ؟ هناك تلاشي حقيقي للنسيج، وتوجيه الأفعال إلى دائرة الرغبة البشرية البسيطة، نحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا في هذه الظروف على أساس أننا مواطنين لهم الحق في العيش خارج دلالات الاستفادة والاقتناص. راجع لغتنا اليومية كيف تلوثت بالرغبة في الامتلاك الغريزي للأشياء، بل في التنازل عن جميع المعاني مقابل المنفعة المباشرة. وعندما يطول أمد التراجيديا، ستتحول حتما إلى كوميديا مؤلمة حقا. الكاتب ليس طبيبا وليس مؤرخا، قد تتلاقى هذه الأدوار في ضميره لكنه ليس هؤلاء. طبعا السؤال: لماذا نكتب أو من هو الكاتب؟ سيظل بدون إجابة لأن المجيء إلى عالم الكتابة مجيء مبهم ويحتاج إلى قراءة عميقة، إذا سألتني لماذا تكتب ؟ سأفكر طويلا كي أجيب وربما سأفشل في تكوين إجابة نهائية. الدور الذي تعنيه يتأسس ضمن رغبة أخرى. الإنسان الجزائري يحتاج إلى تراكم جمالي ومعرفي ليستقر، لتتحول يقظته الفائقة إلى عمارة وجودية متفردة تتجاوز مآزق الأسس الأولى وينال توتره الإنساني حظه في الحضارة. التراكم أيضا لا يتحول إلى ثراء إلا إذا كانت معايير الاجتماع تندفع باتجاه الحكمة. إذا شاء الكاتب أن يشتبك بهذه الأقدار فليصبر على الخوف كما جاء في جميع السير. الثقافة الشفوية الجزائرية غنيّة ب: الحِكم، الأمثال، الألغاز، الأحاجي والقصص..هل وظّف يوسف بوذن الأدب الشفوي في قصصه ؟ طبعا الكتابة تشتاق في نهوضها إلى كل هذه العوالم الشفوية. والأدب الشفوي يتناول هذا الإنسان من زاوية مليئة بالمفردات الحية التي تحكي رغبته في التجاوز أو الانقياد. ما يعنيني في هذه الثقافة هو الاستماع الحثيث إلى اللغة كيف تصنع الرأي وتؤسس للبنيات الجمالية والعقلية. تبقى دائما هذه الثقافة منجما ومنبعا لكل الوافدين. ما يفاجئني في هذه الثقافة انك دائما تجد إنسانا آخر غير الذي كنت تتوقعه. سنحذر من الطابع المدرسي، التلقيني لهذه الثقافة. توظيف هذه الثقافة في الكتابة ليس مطلوبا في ذاته، أنت لا تقرأ لتوظف والكاتب لا يتعامل مع اللغة الجاهزة، الكاملة. لحظة الكتابة انشقاق عن هذه الثقافة وتدويل للحكاية. اللغة هنا تطلب ولا تكتفي. الشهرة والانتشار في الأدب ينالها الروائي والشاعر دون القاص، من المسؤول عن ذلك: الإعلام، النقاد أم القراء ؟ لا ادري من المسؤول عن الشهرة والتوسع وكيف تدار الأضواء! النصوص الممتعة تقرأ، وهذا ما يهمني. القصة تقطف من هذا العالم ما تراه بليغا ومتعددا وتقدمه، وكذلك الأنواع الأخرى. لا تنسى أن تاريخ الرواية كان مرادفا لتحولات اجتماعية وسياسية كبيرة. الرغبة في السرد والتفاصيل وصياغة ممكنات أخرى كانت قوية، ومازالت هذه الرغبة قائمة. أنا بالعكس حزين لضمور الشعر، لان الشعر لغة الإنسان الأولى أصبح صوتا منفردا، معزولا في أشواق هلامية. الرواية استطاعت أن تنفتح على عوالم إنسانية مهمة وها هي لغة الشعر تتربى في تربتها وكذلك تفعل القصة. لنحرص على أن يبقى الشعر مسكن الجميع. في ظل غياب شبكة وطنية لتوزيع الكتاب، هل تصل كتبك إلى القارئ الجزائري المقيم بمستغانم، بشار وورقلة.. على سبيل المثال ؟ الحديث عن مصير الكتاب في بلادنا حديث عن مخاض طويل وعسير، صراع حاد بين بنيتين تتزاحمان للظفر بمائدة الانتقال من الشفهي إلى المكتوب، هذا الانتقال من شأنه أن يحول كل البنيات الأخرى و يخلق آفاق جديدة لتدبير التاريخ. هل نقبل هذا التحول؟ هل تصل الكتب وتتجول بما يجعل منها رهان التحول، طبعا لا. الشبكة الوطنية التي تتحدث عنها ما زالت انطباعية ومزاجية وسطحية. مازالت الطريق شاقة. ماهو جديد بوح يراع القاص يوسف بوذن؟ سأقبل هذه الهدنة التي أعيشها منذ مدة لترتيب بعض الأشياء. هناك ألم كبير يشبه اليأس من هذه المرحلة القاتمة من تاريخنا. لا أحب الانتظار لكن أجده فرصة لإعادة القراءة و الفهم. قد يسفر هذا التأمل عن كتابة جديرة بالبقاء. مَن تفضّل سماعه؛ الجدة وهي تحكي قصصها في ليالي الشتاء الباردة أم إلقاء مبدع في قاعة مكيّفة تابعة لفندق خمس نجوم؟ هذا السؤال قد يجعل من الجدة مكانا يقابله مكانا آخر هو القاعة المكيفة ! كما انه قد يحاول أن يعقد مقارنة بين الجدة وذلك المبدع من حيث جدارة الحكي والسرد. كلاهما يعطي للجدة أسبقية ما. لأن المعتق اقرب للذاكرة من المحدث. الجدة تخاطب أحلامنا الطفولية وتسبق بسردها الواثق جميع توقعاتنا. الجدة تعرف الحكاية وطقوسها، وتعرف تعاليمها، مهمتها أن تنقلها بأمانة الرسل. تقف أحلامنا خارج السرد! أما المبدع فيؤلمه السرد حقا، لأن زمن الإلقاء يراود زمن الولادة والكتابة كأن الجدة لا تنجب فعلا! وكأن ذلك المبدع يجعلك ابن الحكاية وهي تنتهي. فرق بين القابلة وبين من تلد. الطالب الجامعي الجزائري انتقل من مناقشة أفكار كارل ماركس، حسن البنا ومولود معمري في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى الحديث عن أحذية الريبوك، الشّات، وأهداف اللاعب جبّور، كيف تقرأ هذا التحوّل ؟ هناك جانب يتعلق بصورة الإنسان كما شكلته الحضارة الحالية. تخلق هذه الحضارة الشبيه وليس المتعدد( يمثل الاستنساخ ذروة التنميط) وتختزله في هذا البعد الواحد، ما يظهر يستغرق كل الدلالات، لقد نلنا نصيبا من هذه الموجة، كما لاحظنا ضمور الإبداع عالميا نتيجة لهذه الأحادية السلوكية والفكرية. سيتحول إنسان الحضارة القادمة إلى مجرد رقم تحكمه مفردات القوة والرغبة. الانتقال الحاصل يؤذي كل الثقافات المحلية الطموحة. كما أن للأزمة الطاحنة - التي أخذت منا جهدا هائلا - دورا حاسما في الإجهاز على ما تبقى من المعالم والمرجعيات. ستجعل منا الأزمة جميعا ضحايا. لا أقف كثيرا عند هذه العتبة، أجد أن الفراغ الاجتماعي والسياسي يغلق أبواب التجربة الحقيقية والدورة التاريخية للأنساق انتهت، علينا أن نعيد التفكير في جميع ما يجعل منا مجتمعا قابلا للسكن. في الكثير من البلدان العربية، لازال الفقيه يطارد الكاتب، حيث أصبح الأدب يمنع لتخريجات دينية، ما رأيك في الظاهرة؟ الفقيه من سلالة السمع والطاعة، وهو تناسل السلطة في الجسد. أظن أن كل تراثنا الديني الذي تلوث بالولاءات السياسية القديمة والمؤلمة، واستعمل لتعريف القضاء والقدر ومراد الله بما يضمن استمرار الوضع القائم، بدأ يفقد مواقعه. هذه الدائرة الملغمة بدأت تتفجر في وجوهنا، وبعض الشظايا أصابت العديد من المشتغلين بالفكر. الفكر الشقي يكشف هذه الألغام بجدارة، هناك إشهار لكل الخناجر التاريخية الصدئة في وجه الفكر، لكن اعتقد أنها آخر الطعنات. سننتبه أيضا إلى السلطة كيف تحجب وتضع متاريس لمنع عبور الأسئلة الذكية، سيتألب المجتمع على نفسه ويتأذى من هذه الحرائق الداخلية. ليس من حقنا أن نوزع الحقوق والواجبات، لكن أعمالنا يجب أن تقوم على الحرية. الحرية هي مشروع الإنسان الخصب، الذي يدعي في هذا المشروع بأنه مكلف بحراسة معبد ما أو وهم ما أو هيكل ما سيموت في الغضب الفارغ أو في أقبية العنف. يجب أن نتدرب على الحوار كمحرك للمستقبل.