لا يمكن لنظام ديمقراطي وعصري أن يترعرع دون القضاء على نقيضه البالي يرى السيد علي بن فليس، رئيس حزب طلائع الحريات، أن تجاوز حالة الانسداد التي تعرفها البلاد يمرّ عبر حوارٍ وطنيّ تطبعه الثقةٌ والمصداقيّة والحس بالمسؤولية تجاه الدولة الوطنيّة، داعيا إلى اليقظة القصوى بخصوص الأطراف المدعوّة لهذا الحوار، مخافة تسرّب تنظيمات محسوبة على النظام السابق الذي يرفض قطعياً التحاور مع بقاياه. ويقترح السيد بن فليس خطوات عمليّة للحوار الوطني، الذي يجب أن يتضمن جدوله شروطا سياسية ومؤسساتية وقانونية، تعالج بموجبها إشكاليات رحيل الباءات وتشكيل السلطة المكلفة بالرئاسيات وموعدها وتعديل القانون العضوي للانتخابات في تدابيره المتعلّقة بالانتخابات الرئاسية. إلى جانب قضايا أخرى تطالعونها في هذا الحوار. * حاوره: مراد حمو كيف تقرؤون «الوضع الحالي» للبلاد؟ يمكن أن يُلخّص الوضع الحالي للبلد في ثلاثة معطيات ثابتة؛ المعطى الأول هو أن البلد يعيش أزمة سياسية و أزمة مؤسساتية وأزمة دستورية؛ و الأزمة الأم التي تتفرع عنها هذه الأزمات المحددة هي أزمة النظام السياسي بأكمله؛ والمعطى الثاني هو أن البلد أمام انسداد رهيب يعيق سبيل الحل للأزمة الأم وكذا للأزمات التي تولدت عنها؛ والمعطى الثالث هو أن الحوار الوطني كأداة لتجاوز هذا الانسداد هو بدوره معطل أو متعثر. الحوار غير ممكن مع بقايا أو فلول النظام هذا هو في ثلاثة صور مصغرة وضع البلد راهنا. فنحن أمام أزمة سياسية كاملة الأركان لأننا من جهة أمام ثورة شعبية سلمية تطالب بالرحيل الفوري للنظام السياسي هذا من جهة و هناك من جهة أخرى حقيقة نظام سياسي دام مدة عقدين من الزمن و ضرب من الجذور و بنى من الأسس و المفاصل و الشبكات ما يبطل مفعول أية وصفة أعجوبية- إن وجدت- تضمن التخلص منه بين عشية و ضحاها؛ و نحن أمام أزمة مؤسساتية لأن المعروف و المعهود هو أن في وقت الأزمات – كبرى أو صغرى كانت- تقع المسؤولية الأولى للبحث عن الحلول على عاتق المؤسسات القائمة في الدولة المعنية؛ و الحال في الجزائر اليوم هو أن المؤسسات الدستورية القائمة فاقدة للشرعية و عديمة الثقة و مجردة من المصداقية و هو ما ينزع عنها الأهلية و القدرة على تقديم الحلول و الإقناع بجدواها و كسب الدعم لها؛ و نحن أمام أزمة دستورية لأن دستور الجمهورية لا يتضمن لوحده وصفة جاهزة للاستعمال أو تدابير ذات صلة بمقدورها أن تتكفل بالأزمة الراهنة و أن تعالجها و أن توفر لها التسوية المطلوبة. هذه هي المعطيات التي أوصلت البلد إلى الانسداد الذي تحدثت عنه منذ حين؛ و لا يمكن تجاوز هذا الانسداد إلا عن طريق حوار وطني تطبعه الثقة و المصداقية والحس بالمسؤولية تجاه الدولة الوطنية؛ فالحفاظ على ديمومتها رهان الساعة الأكثر بروزا و إلحاحا؛ ويتوجب الإبقاء عليها قوية و مصونة و مهابة الجانب و وضع ذلك في أعلى درجة من سلم أولوياتنا الوطنية. ما مدى وجاهة المخاوف من «الانفلات» الذي يحذر منه غير المتحمسين للخروج عن الدستور في حل الأزمة؟ و كيف ترون الحل دون أضرار؟ كل أزمة تدوم و لا تحظى بالعناية الكافية لإيجاد حل سريع لها تحمل في طياتها مخاطر الانزلاقات أو الانفلاتات؛ هذه حقيقة قارة و دامغة لا يمكن تجاهلها أو تناسيها؛ مخاطر الانفلات الذي قد ينجر عن الخروج الكلي عن الدستور واردة و التخوفات من هذا الاحتمال في محلها؛ لكن الانفلاتات التي قد تنجبها الإطالة في عمر الأزمة هي أخطر و أغلى تكلفة سياسيا و أمنيا و اقتصاديا و اجتماعيا؛ فأنا ضد الخروج الكلي عن الدستور و ضد تعطيل العمل به كما ينادي به البعض بالرغم من أنني و عند إصداره في 2016 خصصت له «كتابا أبيض» نددت فيه بإسهاب عن صياغته على مقاس شخص ألّه أحيانا و أنزل أحيانا أخرى منزلة الأنبياء و المرسلين – و العياذ بالله- ؛ هذا هو موقفي و لقد أعلنت عنه في أكثر من مناسبة؛ لكن و في الوقت ذاته رافعت بنفس الإلحاح لصالح المزاوجة بين الحل الدستوري و الحل السياسي أي لصالح ما أصبح يعرف عند الخاص و العام بالمزج بين المواد 7 و 8 و 102 من الدستور؛ أما عن رؤيتي للحل فلقد قمت منذ أربعة أيام بتقديمها في شموليتها و جزئياتها في يوميتين وطنيتين؛ و أنا ممنون لكم على إتاحتي فرصة تقديمها مرة أخرى. ما قدمته هو اجتهاد و إسهام في شكل تصوّر يمكن أن يساعد في فك القيود عن الحوار الوطني. و بصفة موجزة توجد في صميم هذا التصور أربع محطات. يجب أن يكون الحوار الوطني اصطفافا وراء المطالب الشعبية و أداة من أدوات التجاوب معها المحطة الأولى تمثل معاينة للواقع و أخذه في الحسبان؛ فالحوار غير ممكن إطلاقا مع بقايا –أو فلول- النظام الذي ابتلي البلد به شر البلية لمدة عشرين سنة و الذين لا يزالون يتسيدون أغلب المؤسسات الدستورية للجمهورية؛ و عليه اقترحت أن توكل مهمة الإشراف على الحوار الوطني لشخصيات وطنية تحظى بقبول الشعب و رضاه؛ هذا من جانب الطرف المشرف على الحوار؛ لكن من جانب موازي هناك إشكالية أخرى يجب الوقوف عندها و هي إشكالية الأطراف المدعوة للحوار؛ يجب التحلي باليقظة القصوى في معالجة هذه الإشكالية لتجنيب الحوار السقوط رهينة في يد فلول النظام السياسي الممقوت من أحزاب و جمعيات و منظمات قد تبسط بأعدادها نفوذها المطلق على مجرى الحوار لتوجيهه نحو ما يحلو و يطيب لها. المحطة الثانية تتعلق بإطار الحوار الذي يجب أن يتناغم و مطالب الثورة الشعبية السلمية و أن يكون جزءا لا يتجزأ عن المطالب التي ترمي إلى تحقيقها؛ و ليس الالتفاف عليها أو تفريغها من مضامينها و مقاصدها. إنه من الأهمية بمكان أن يظهر الحوار الوطني في شكل اصطفاف وراء المطالب الشعبية و أداة من أدوات التجاوب معها. المحطة الثالثة ذات صلة بهدف الحوار الوطني الذي يحظى بقابلية واسعة، وهو إجراء الانتخابات الرئاسية في كنف الشفافية و النزاهة و النقاوة لتجنيب الشعب مصادرة رأيه و إرادته و لتمكينه من التعبير الحرّ عن خياره مجسدا بذلك حقاً من حقوق المواطنة و ممارسا لمكوّن من مكوّنات السيادة التي لا مالك لها سواه؛ و لكي تتم هذه الانتخابات الرئاسية على هذا الوجه المطلوب لا بد أن توفر لها الشروط اللازمة؛ و هذه الشروط الضرورية تتكوّن من شروط سياسية و شروط مؤسساتية و شروط قانونية؛ و من هذا المنظور يمثل وضع هذه الجملة من الشروط جدول أعمال الحوار الوطني. و المحطة الرابعة تحدد جدول الأعمال هذا من خلال البنود التالية: 1/ الشروط السياسية لإجراء الانتخابات الرئاسية؛ 2/ شروطه المؤسساتية؛ 3/ شروطه القانونية؛ 4/ موعد الاستحقاق الرئاسي. التغيير من داخل النظام ترقيع والتغيير من خارجه قطيعة و انطلاقا من جدول الأعمال هذا يمكن في بنده الأول معالجة ما سمي «بذهاب الباءات»؛ و يمكن في بنده الثاني التطرق لتشكيل «السلطة المكلفة بالانتخابات الرئاسية» و هي السلطة التي حددت في مقترحي تسعة تدابير دقيقة توكل لها التكفل بكامل المسار الانتخابي من خلال تحضيره و تنظيمه و الإشراف عليه ومراقبته؛ أما البند الثالث فهو مخصص لتعديل القانون العضوي المتعلق بالانتخابات في كل تدابيره التي تمس بالانتخابات الرئاسية؛ وأخيرا و بالنسبة لموعد الاستحقاق الرئاسي فإن فترة تتراوح ما بين ثلاثة و ستة أشهر تبدو لي واقعية و معقولة لأن عنصر الوقت ليس في صالح البلد الذي لا يمكن أن يتحمّل، دون أضرار بالغة، طول أمد الأزمة و هو بحاجة ماسّة للخروج منها في أقصر الآجال الممكنة و بأقلّ تكلفة سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً.كرجل سياسي و رجل قانون و مناضل و مسؤول سابق، هل تعتقدون أن التغيير في الجزائر يمكن أن يحدث من خارج النظام؟ التغيير داخل النظام ترقيع و التغيير من خارجه قطيعة؛ ليس في النظام السياسي الذي عاث في البلد فساداً و خراباً و دماراً و قاد الدولة الوطنية إلى حافة الهاوية ما يُرمّم أو يُرقّع؛ و الدواء لإشفاء البلد من كل الأوبئة التي أصيب بها يكمن في القطع و البتر و هذا هو ما استخلصته تحديدا الثورة الديمقراطية السلميّة من خلال مناداتها برحيل النظام. لا يساورني أدنى شك أن القيادات القادمة للبلد ستتشكل من رجال و نساء و من توجهات و تيارات سياسية معروفة بمقاومتها اللامتسامحة لهذا النظام و التي لا يمكن أن ترضى بأقل من تغيير كلي و شامل لإرساء قواعد منظومة سياسية جديدة قوامها المواطنة الحقّة و السيادة الشعبية الأصيلة. لا يمكن إطلاقا قيّام دولة الحقّ و القانون على أنقاض دولة اللاحق و اللاقانون؛ و لا يمكن للحكامة الراشدة أن تستتب مكتفية بتعديل أو تلقيح أو تحيين حكامة فاسدة؛ و لا يمكن لنظام سياسي ديمقراطي و عصري أن يترعرع و يزدهر دون القضاء على نقيضه البالي. كيف تنظرون إلى ما قام به الجيش لحد الآن، و ما المطلوب من هذه المؤسسة في المستقبل؟ سندي في تقييمي لدور الجيش الوطني الشعبي في هذه المرحلة الدقيقة و الفاصلة يقوم على أساس التزامات و تعهدات صريحة؛ و من بين كل الكلمات التي ألقاها قائد الأركان في عدة مناسبات ما يشد الانتباه و يثير العناية هو أولا الالتزام بالوقوف إلى جانب الشعب حتى تحقيق مطالبه كاملة غير منقوصة و ثانيا حماية الحراك الشعبي و ثالثا استعداده لمرافقة المساعي الرامية إلى حل الأزمة الراهنة؛ إن في كل هذا مكتسبات لا يمكن الاستهانة بها بل يجب تقديرها حق قدرها و البناء عليها في تعبئة كل القوى الوطنية و توجيهها نحو اتجاه واحد و هو الإسراع بإخراج البلد من الأزمة القائمة و وضعه في موقع قوة لمواجهة التحديات الرهيبة التي تلوح في الأفق. إجراء الانتخابات في كنف الشفافية و النزاهة و عدم مصادرة رأي الشعب و إرادته منذ سنة 2014 لاحظت أن البلد يتوجه نحو أزمة نظام حتمية؛ و قدمت في ذلك التاريخ خطة لتفادي عواقبها غير المحمودة؛ و ضمنت تلك الخطة دورا للجيش الوطني الشعبي لخصته في ثلاثة مفاهيم و هي «المرافقة» و «المتابعة» و «الضمان» للحوار الوطني الرامي إلى استباق تفاقم أزمة النظام هذه و احتوائها قبل فلتانها. و مازلت إلى حد الساعة محتفظا بتقييمي و برأيي المتمثلان في ضرورة قيام الجيش الوطني الشعبي «بتسهيل و «مرافقة» و «حماية» و «ضمان» الحل للأزمة الراهنة. إن الصمت الرهيب لكل المؤسسات الدستورية الأخرى و شللها الملحوظ في هذه الساعات الحرجة يلقي بثقل الواجب و المسؤولية على عاتق الجيش الوطني الشعبي بصفته المؤسسة الوحيدة التي لا يزال الشعب يضع فيها الثقة و يعترف لها بالصدق و المصداقية و يؤمن بولائها للجمهورية و وفائها للأمة. أطلقتم مصطلح «القوى غير الدستورية» الذي تم تبنيه على نطاق واسع، هل تتحمّل هذه القوى وحدها، برأيكم، مسؤولية ما وصلت إليه البلاد؟ لقد صرحت فعلا غداة إجراء الانتخابات الرئاسية في سنة 2014 « أن هذا الاستحقاق لم يكن لانتخاب رئيس للجمهورية و إنما للتمديد في عمر شغور السلطة»؛ و في شهر أكتوبر من نفس السنة لاحظت أن هذا الشغور قد تم سده من طرف قوى غير دستورية استولت استيلاء كاملا على مركز صنع القرار الوطني؛ و على سؤالكم الوجيه و الدقيق أجيب بدقة أن القوى غير الدستورية هذه تتقاسم المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في البلد مع مؤسسات دستورية من صنعها. مخاطر الانفلات التي قد تنجر عن الخروج الكلي عن الدستور واردة لكن الانفلاتات التي قد تنجبها الإطالة في عمر الأزمة أخطر و أغلى تكلفة كان رأس القوى غير الدستورية يدبّر و يأمر و كانت مفاصلها في المؤسسات الدستورية تستجيب و تنفذ؛ و بتصرفها هذا كانت بمثابة الأذرع الضاربة للعقل المدبر. مجمل القول أن القوى غير الدستورية تتحمل مسؤولية المحنة الراهنة و تتحمل معها هذه المسؤولية كل من قامت بتعيينهم على مستوى المؤسسات الدستورية و الذين لم يكن لهم من خيار آخر سوى خيار الولاء و الاصطفاف وراء صانعهم و ولي نعمتهم. من خلال تجربتكم في التنسيق مع الأحزاب المعارضة، هل سجلتم تقاربا إلى الحدّ الذي يمكن الحديث فيه عن أرضية مشتركة؟ و هل يمكن للمعارضة أن تكون طرفا في الحوار؟ ليس هناك ما يمكن إخفاؤه؛ فالكل يرى بأم العين أن التحاليل و التصورات و مواقف المعارضة من الأزمة مختلفة و متنوعة؛ و هذا جد طبيعي لأن المعارضة ليست كيانا معارضا واحدا؛ بل هي معارضات كل واحدة منها تحمل خاصيتها الإيديولوجية و السياسية و الإستراتيجية. أنا ضد الخروج الكلي عن الدستور و الحل في المزاوجة بين الحل الدستوري و السياسي و نقاط التباين معروفة؛ فهناك من يدعو إلى حل دستوري و هناك من يساند فكرة الخروج كلية عن الدستور و هناك من يرافع لصالح مزاوجة بين الحل الدستوري و حل سياسي بغطاء دستوري؛ هذه نقطة تباين أولى و هناك نقطة تباين ثانية و تتعلق بميول البعض إلى دعوة مجلس تأسيسي كسبيل لحل الأزمة و إلحاح البعض الآخر على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية كطريق أقصر و أقل مخاطرة و أخف تكلفة بالنسبة لمستقبل البلد؛ و هناك نقطة تباين ثالثة حول فكرة المرحلة الانتقالية التي يُضَمِّنُهَا كل واحد ما يفيده من مضمون و يُقَوِلُّهَا ما يحلو له من قول. لا يقلقني هذا التباين؛ فالاختلاف رحمة و الديمقراطية تعدّد و تنوّع. فإن استعصى علينا الوصول إلى أرضية مشتركة كاملة و متكاملة فأضعف الإيمان أن نسعى إلى تحديد و تشخيص نقاط تلاقي تمكن من فتح أبواب الحوار الوطني؛ فالحوار الوطني هو وحده الكفيل بتمكين كل طرف من القيام بخطوات نحو الطرف الآخر و بالجلوس حول طاولة واحدة بروح المسؤولية التي تقتضيه خطورة الأوضاع الاستثنائية التي يعيشها البلد. التزامات وتعهدات رئيس الأركان مكتسبات لا يمكن الاستهانة بها و إذا كانت هناك نقاط تباين و اختلاف في صفوف المعارضة فهناك على العكس من ذلك تماما إجماع حول فكرة أو مشروع الحوار الوطني؛ و كل ما تشترطه هو أن يكون الحوار المنشود بين أطراف يحضون بالمصداقية و الثقة و أن يكون إطاره واضح المعالم و أن تكون أهدافه محددة بالدقة التي تقتضيها حساسية المرحلة التي يمر بها البلد. في مختلف تجارب الانتقال الديمقراطي، تؤول السلطة إلى المعارضة، لكن في الحالة الجزائرية، تبدو المعارضة في وضع مختلف، إلى درجة أن الحراك الشعبي أبدى غضبه على أحزاب المعارضة أيضا، ما أسباب هذا الوضع في نظركم؟ لما نتحدث عن التصحير الكلي للساحة السياسية الذي أنجزه النظام السياسي المحكوم عليه بالرحيل فإن لهذا القول معنى و مدلول؛ فهذا النظام جعل من أحزاب الموالاة موضوع تشفي تارة و موضوع سخرية تارة أخرى؛ و ذات النظام طارد و حاصر و قمع المعارضة إلى حد تجريدها كلية من سبل التواجد و التواصل و التأثير في المجتمع. و ها نحن كلنا ندفع الضريبة الباهظة لمثل هذه التصرفات و الممارسات؛ لم يكن تصحير الساحة السياسية عملا عفويا أو إضرارا غير مقصود؛ بل كان عملية ممنهجة و مشروعا مدروسا و منفذا بدرجة عالية من التمعن و الإتقان. على الجيش تسهيل ومرافقة وحماية وضمان الحل للأزمة الراهنة أما عن الانتقال الديمقراطي و هوية القيادة السياسية التي ستضطلع به فإن الفيصل في صناديق الاقتراع و هي من سيسند لها حقا الفرز بين البرامج السياسية المعروضة على الشعب الجزائري؛ فالعهدة الرئاسية القادمة ستكون لا محالة عهدة انتقالية تأخذ على عاتقها وضع أسس النظام السياسي الجديد؛ و لهذا يتوجب إحاطة الاستحقاق الرئاسي القادم بكل الشروط الملائمة لتمكينه من الارتقاء إلى مستوى التطلعات المعلقة عليه و من الاستجابة الفعلية لمقتضيات التجديد الشامل و التغيير الجذري التي تفرضها المرحلة القادمة فرضا. العهدة الرئاسية القادمة ستكون انتقالية ينادي متظاهرون برحيل جبهة التحرير الوطني، كمناضل و رئيس سابق لهذا الحزب، هل تعتقدون أن «الأفلان» استنفد أسباب بقائه؟ إن المنظومة السياسية الجديدة التي نتطلع إلى تشييدها بصفة عامة و دولة الحق و القانون التي نرمي إلى بنائها بصفة خاصة لهما ما يميزهما؛ و من بين ما يميزهما هناك صندوق الاقتراع للفصل في الخيارات الكبرى للأمة؛ فصندوق الاقتراع هو من يعزل أو يدمج؛ و هو من يقصي أو يحتضن؛ و هو من يكافئ أو يعاقب؛ و عليه لنترك للصندوق و للصندوق وحده النطق بحكمه على الأحزاب السياسية و على الشخصيات التي تمارس أو تطمح إلى ممارسة مسؤوليات سياسية؛ أظن مخلصا أن هذا هو الموقف الذي يليق بالديمقراطية الحقة و بتشبع بمعناها و يحترم كل مقتضى من مقتضياتها. صاحبت الحراك الشعبي عملية مكافحة فساد، هل ترون أن الوقت مناسب للمحاسبة أم أن الأولوية الآن لتسوية الأزمة السياسية، كما يقول بذلك البعض؟ عملية مكافحة الفساد من صنع و من إنجاز الحراك الشعبي؛ فلولا الحراك الشعبي لبقيت ملفات الفساد حبيسة الأدراج كما كان حالها على مدى العشرين سنة الماضية؛ فكما هو معروف من طرف الجميع فإن النظام السياسي نفسه هو من صنع الفساد و هو ضمن له الحصانة و المناعة و هو جنبه المحاسبة و المعاقبة. و بالعودة إلى سؤالكم لمعرفة إن كان الوقت مناسبا أو غير مناسب لفتح ملفات الفساد أصدقكم القول بأنني لا أفهم الجدل المفتعل سياسيا حول هذا الموضوع. مكافحة الفساد من صنع وانجاز الحراك فبحكم مساري المهني أعرف أن عند ارتكاب أي جريمة يتوجب التبليغ بها و الشروع في البحث و التقصي فيها حينا؛ و لا يحق قانونا تأجيل البحث و التقصي لأي سبب كان؛ و ما أعرفه كذلك أن بعد التحقيق و التقصي و تحويل الملف للقضاء فإنه لا يحق له إرجاء النظر فيه مهما كانت الأسباب مع التقيد بالآجال المحددة قانونا؛ و خلاصة هذين الأمرين أنني لا أرى كيف يكون من الممكن للمحقق أو القاضي في ملفات الفساد أن يؤجلا تحركهما لإعطاء الأولوية للاعتبارات السياسية و تجميد كل الإجراءات التي تمليها القوانين إلى حين حل الأزمة السياسية و انتخاب القيادة السياسية للبلد. و كمسؤول سياسي فإنني أعتبر طلب إرجاء ملفات الفساد إلى ما بعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد مساسا بحرية القضاء التي جعل منها شعبنا مطلبا مركزيا من بين كل طلباته القاضية بإحقاق دولة الحق و القانون؛ فالعدالة هي من تحدد الوقت المناسب لتحركها و هي من تضع جدول أعمالها و هي من تفصل في وتيرة نشاطاتها طبقا للقانون. اشتكى رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي من محاولات عرقلة الحوار و رفع سقف المطالب في كل مرة، ما هو السبيل الأمثل لإنجاح الحوار برأيكم و من هي الأطراف التي يجب أن تجلس على طاولة الحوار؟ الكثير يأسف لتعثر أو تعطل مشروع الحوار الوطني و ذلك لسبب بالغ الأهمية و هو أن غياب الحوار سيطيل من عمر الأزمة و أن الإطالة من عمر الأزمة ستزيد الأوضاع تعقيدا و تفاقما و سترفع ضريبة الحل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية إلى مستويات لا يمكن للبلد تحملها؛ و إن تَحَمَّلَهَا سيخرج من الأزمة ضعيفا و مستنزف القدرات و الإمكانيات في وجه تحديات رهيبة تتراكم مع دوام الأزمة.