مكنت "الثورات العربية" الاسلام السياسي من العودة إلى الواجهة من غير سوء هذه المرة، ومن غير خوف، فشيخ تونس الذي حاز قصب السبق في الوصول إلى السلطة (وقد تركوه يصل) بدا سمحا ومسح بابتساماته وتصريحاته ما لصق بالتيارات الدينية طيلة عقود وفوق ذلك سمح للغزلان البيضاء التي غنى عنها قديما فريد الأطرش بالتصور خلف كتفيه الكريمتين. وأمريكا التي حاربت الجماعات الإسلامية في السنوات الأخيرة أبدت ترحيبا طيبا بالإسلاميين الخارجين من الصناديق والمتأهبين للخروج بما في ذلك إخوان مصر. وتركيا الطامحة إلى استعادة إرثها المفقود طمأنت العرب على مستقبلهم مع الإسلاميين. وفي ليبيا برهن الإسلاميون على تفتحهم الذي وصل إلى حد التعاون العسكري الوثيق مع الناتو الذي كان رمزا للكفر في أدبيات السلف من الإسلاميين غير الأذكياء. هذا الوضع يؤكد أن المستقبل سيكون أخضر في العالم العربي الذي سيصل فيه الإسلاميون إلى الحكم عبر ديموقراطية تنجبها الثورات وليس عن طريق التنظيمات الإسلامية المسلحة، وهو معطى جديد لم يكن في حسبان المحللين والمتتبعين والمستشرفين الذين توقعوا نهاية الإسلام السياسي خصوصا مع ثورتي تونس ومصر اللتين لم يكن الإسلاميون وراءهما، لكنهم جنوا الثمار في نهاية المطاف، وذلك علامة نضج وحصيلة تكتيكات صائبة. هذه النتيجة تكشف عن واقع سوسيولوجي مغفل وبعيد عن عيون النخب الحالمة بديموقراطية ودول مدنية تخرج من بطون الديكتاتوريات بعمليات إجهاض قسري. أي أن الديموقراطية هي النتيجة المنتظرة من سقوط الديكتاتورية. التجربة العربية تبين أن هذه النظرية غير صحيحة بالضرورة، وتؤكد صواب وجهات نظر كبار المثقفين العرب كهشام شرابي وأدونيس اللذين ظلا يؤكدان بأن التغيير في العالم العربي لن يتأتى إلا بتغيير البنى العميقة للمجتمع. وطالما أن تغيير البنية لم يحدث فإن كل تغيير سيقتصر على تغيير سلطة بسلطة، بمعنى أن الحركات الإسلامية سترث الأحزاب الوطنية التي ورثت بدورها الأنظمة الكولونيالية، وأصبحت بعد عقود طويلة من الاستقلال مدعوة بدورها إلى الرحيل، وربما سينتظر العرب نصف قرن آخر حتى يحصلوا على طلاق بائن مع الشيوخ الذين يكتشفون متعة السلطة الآن. سليم بوفنداسة