"رواد الأعمال الشباب, رهان الجزائر المنتصرة" محور يوم دراسي بالعاصمة    القرض الشعبي الجزائري يفتتح وكالة جديدة له بوادي تليلات (وهران)    مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: بوليفيا تدعو إلى الالتزام بقرار المحكمة الجنائية        ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 44211 والإصابات إلى 104567 منذ بدء العدوان    الجزائر العاصمة: دخول نفقين حيز الخدمة ببئر مراد رايس    فترة التسجيلات لامتحاني شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا تنطلق يوم الثلاثاء المقبل    العدوان الصهيوني على غزة: فلسطينيو شمال القطاع يكافحون من أجل البقاء    الكاياك/الكانوي والباركانوي - البطولة العربية: الجزائر تحصد 23 ميدالية منها 9 ذهبيات    أشغال عمومية: إمضاء خمس مذكرات تفاهم في مجال التكوين والبناء    الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائرتتوج بالذهبية على حساب الكاميرون 1-0    "كوب 29": التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغير المناخ    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    قرعة استثنائية للحج    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    المخزن يمعن في "تجريم" مناهضي التطبيع    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    دخول وحدة إنتاج الأنابيب ببطيوة حيز الخدمة قبل نهاية 2024    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نور الدين بوكروح للنصر: كورونا أحدث في نظامنا العقلي خرقا ستنفذ منه أفكار وفلسفة وخطط لحياة جديدة
نشر في النصر يوم 28 - 04 - 2020

يدعو المفكر نور الدين بوكروح إلى منح الكوكب بأسره والجنس البشري نظاما أخلاقيا عالميا مستوفى من أفضل ما جاد به الفكر الإنساني، لتجاوز آثار كورونا ويؤكد أن الشعوب قادرة على تجاوز هذه الفترة المؤلمة إذا لم تنصّب على رؤوس دولها دعاة الحرب والمتعصبين قصيري النظر والشعبويين والديماغوجيين، ويخشى من تدمير النظام الاجتماعي الذي طوّرته الإنسانية بصعوبة خلال آلاف السنين، كما يقدم في هذا الحوار الذي خصّ به النصر قراءته لواقع المسلمين اليوم إلى جانب قضايا أخرى.
حاوره: إلياس بوملطة
الأكيد أن فيروس كورونا الذي ضرب العالم كان حدثا بارزا سيترك دون شك أثره ، كيف تتصورون عالم ما بعد كورونا؟ إلى أين يتجه العالم و هل نحن على أبواب عصر جديد؟
- حتى اليوم كانت الأمراض و الأوبئة و الجفاف و المجاعة و الأزمات الاقتصادية و الحروب و الزلازل و الفيضانات و التسونامي و غيرها من الكوارث الكبرى التي أصابت البشر طوال تاريخهم تقع بشكل دوري أو متقطع، وتحل على بلد أو منطقة من العالم. لكن لم يحدث منذ الطوفان في زمن نوح أن ضربت إحداها جميع البشر والبلدان في وقت واحد.
هذه هي الخاصية الأولى لفيروس كورونا، أمّا الثانية فهي أن هذا الكائن المُعدي ليس قوة من قوى الطبيعة الجبارة أو ظاهرة من الفضاء الخارجي للأرض، بل هو شيء بالكاد موجود و حجمه يقاس على سلّم ما لا نهاية من الصغر، هو ليس حتى كائنا حيا ولكن مجرد بروتين لا نعرف إن كان طبيعيًا أو اصطناعيًا.
أمّا الميزة الثالثة و التي تثير أكثر الدهشة فهي أنّ أكثر ما يرعب البشر منه ليس الخسائر التي يتسبب فيها بالأرواح فقد عرفوا أسوأ منها من قبل، بل هو ما يتسبب فيه من تدابير اتخذوها للدفاع عن أنفسهم، فنحن اليوم نوجد في وضع يكون فيه الحلّ أسوأ من الإشكال، و هو ما يضيف إلى المصيبة في حد ذاتها خطر فقدان العقل جراء ما تتطلبه من حلّ للتغلب عليها.
الإنسانية لم تستوعب بعد كونها تقف فاقدة للحيلة كما كانت في عهد بداية ظهورها، عارية من وسائل الحماية و مضطرة إلى الترقيع بقطع القماش و الخيط و المطاط، لتحاول إيقاف تفشي مرض ألحقَ بالاقتصاد العالمي خسائر تفوق ما فعلته الحرب العالمية الثانية خلال ست سنوات من القصف العنيف و المتواصل بمئات ملايين الأطنان من المتفجرات، وعشرات الملايين من الجنود وعشرات الآلاف من الطائرات والدبابات و المدرعات والسفن والغواصات، بالإضافة طبعا إلى قنبلتين ذريتين.
و تستشيط غضبا عندما تتذكر أنها قادرة على تدمير الأرض والقمر وكواكب أخرى في لحظات، و محو جميع أشكال الحياة الموجودة في بضعة أيام فقط، لكنها لا تستطيع القضاء على فيروس يجبرها على أن تفكك بأيديها الوسائل اللوجستية اللازمة لضمان بقائها على قيد الحياة، بحيث أنها حتى إن لم تمُت من فيروس كورونا فإنها ستموت من جراء عواقب إستراتيجية الدفاع التي فرضها عليها.
الحقيقة مريرة: فنحن لا نمثل إلا القليل و نخشى مما يخبأه لنا المستقبل إذا ما استمر الوباء لأزيد من العام، قادة العالم مرعوبون من فكرة أن يفلت من بين أيديهم مجرى الأحداث و يفقدوا السيطرة على الكوكب، و أن ينتهي الأمر بالشعوب إلى الانفجار و بذلك، في نهاية المطاف، تدمير نظام اجتماعي طورّ بصعوبة بالغة خلال آلاف السنين من التجارب و الجهود.
فعلا! فآلاف السنين من المعرفة والاختراعات والعمل الجاد والصراع من أجل البقاء، قام بتفكيكها في بضعة أسابيع خصمٌ حرمنا من حرياتنا الأساسية وأسدل علينا ظلام حظر التجول و جعل جوّا من نهاية العالم يسود في كل مكان.
كيف يمكن بعد كل هذا ألا تتزلزل رؤية البشرية لنفسها وللعالم الذي تسكنه؟ سيتعين عليها حتما أن تغيّر طرق تفكيرها وتنظيمها وعملها وتصورها للمستقبل، فعندما يكون التهديد عالميا فإنه يستوجب ردّا نظاميا شاملا لجميع البلدان و البشر و الأقاليم و لجميع مواردها.
كما قلتم في السؤال، نحن على أبواب عصر جديد، فقد حدث خرق في نظامنا العقلي و قناعاتنا التي سبقت عهد جائحة فيروس كورونا، وحتما ستنفذ من هذه الفتحة أفكار وفلسفة وخطط لحياة جديدة، فحتى إذا تمكنا من النجاة من هذا التهديد فهناك تهديدات أخرى أكثر فتكاً و تدميراً يمكنها أن تظهر في أي وقت. يجب لذلك الإسراع في هذا !
إذا كنا قد لاحظنا خلال أزمة كورونا توجها عالميا نحو التضامن و تبادل المساعدات، هل سيكون عالم ما بعد كورونا على نفس العقيدة، أم نحن بصدد الاقتراب من صراع ومواجهة شرسة بين مختلف القوى المؤثرة في هذا العالم على المستويين الاقتصادي والسياسي؟.
- كلتا الفرضيتين ستكون لهما نفس حظوظ الانتصار إذا ما لم يتخذ العالم، بسرعة و بمجرد إخماد الحريق الحالي، المسارَ والقرارات الصّحيحين، إذا أردنا أن تسود الفرضية الأولى فإن قادة العالم بأسره وحكماءه من جميع البلدان، و مطوّري التكنولوجيات العالية ومصمّمي شبكات الاتصالات الكبيرة، والجهات الفاعلة في الأسواق المالية وغير هؤلاء من مختلف الآفاق يجب عليهم أن يفكروا في تنظيم جديد للعالم يكون هذه المرة عالميا بالفعل.
يتطلب الأمر فتح مشاورات دولية طويلة المدى حول فكرة عمل مشترك يهدف إلى منح الكوكب بأسره والجنس البشري بأكمله في يوم ما، نظامًا أخلاقيًا عالميًا مستوحىً من أفضل ما جاد به الفكر الإنساني (الفلسفات، الأديان، الحكمة، القيم الأخلاقية، الإنسانية، الفنون)، لكن ذلك ينبغي أن يتم في إطار أنسب من ذاك الذي تمكّنه الأمم المتحدة في شكلها الحالي، هذا ونحن لا نزال في فجر الألفية الثالثة.
في بداية أزمة الفيروس التاجي، لُعبت ورقة التضامن و تبادل المساعدة بصفة عفوية بين عدد من البلدان الغنية لأنها اعتقدت أن الوباء سيقتصر على حدود المنطقة التي ظهر فيها، لكنها ما أن فهمت بأن المرض سوف ينتشر إلى العالم بأسره حتى عادت ردود الفعل القديمة وقانون الأقوى والمركنتيلية لتطفو على سطحها و رجعت لتحتلّ مكانها في العقول و تستولي بأنانية على مخزون الأقنعة و باقي المعدات.
الإنسانية تمتلك قيما أخلاقية واجتماعية وسياسية تسمح لها بإدارة الاقتصاديات و المجتمعات لكن ليس بتنظيم الجنس البشري بأكمله، و هي لا تمتلكها اليوم لأنها لم تحتج إليها من قبل و لم تشعر بالحاجة الماسّة إليها. فكل قطعة من البشرية كانت قد تشكلت من خلال رحلتها الفريدة. كل حضارة و كل دين و كل ثقافة (التي هي فقط طريقة قديمة جدا لتصور الذات والتفكير) و كل أمة كانت ترى نفسها سيدة داخل حدود بيتها، و كانت تسيّر أراضيها وثرواتها ومصالحها وقناعاتها بطريقتها الخاصة و لحسابها الخاص.
و هذه الطريقة التي تتصور من خلالها الشعوب والأمم والثقافات والأديان الأمور، هي التي ضُربَت هذه المرة. فعندما يصاب الجميع في نفس الوقت لن يمكن لأحد أن يفعل شيئا للآخر، و ستتعطل بذلك القيم التقليدية للمساعدة المتبادلة والتضامن و تتوقف عن العمل. الآن يجب أن يكون هناك شيء آخر، دفاع جديد و تنظيم مختلف، و رؤية أخرى للمشكلة و لحلولها.
لا يزال قادة القوى الكبرى واقعين تحت وطأة الصدمة ولم يتمكنوا بعد من لمّ شتات أفكارهم في مواجهة الكارثة الاقتصادية التي ستصبح بعد الفيروس جائحة أخرى. إنهم الآن عالقون بين مطرقة الخوف من ثورة الشعوب عليهم في حال لم يتمكنوا من حمايتها صحياً واقتصادياً، و بين سندان العواقب المأساوية للركود الاقتصادي الذي لا يزال في بدايته. لقد بدأت الحكومات في كل مكان بمراجعة خيار إستراتيجية الحجر الصحي الذي اتخذته لأن الاحتواء الكامل سيعني الإفلاس العام والجنون والفوضى والجوع ثم نهاية الحضارة.
سينتصر البشر في معركتهم ضد الفيروس التاجي شرط ألّا تدوم أكثر من وقت معين. إذا تم احتواء الفيروس فلنقل في نهاية هذه السنة، فإن البشرية ستنجو وتستخلص حتمًا دروسا من هذه المحنة. أما إذا سارت الأمور خلافا لذلك فإن العالم سيجد نفسه في ما لا يمكن تصوره، أين سيصبح كل شيء ممكنا ومسموحا به.
سيمكن اجتياز هذه الفترة المؤلمة والتغلب عليها إذا لم تنصّب الشعوب على رأس دُوَلها دُعاة الحرب والمتعصبين قصيري النظر والشعبويين الديماغوجيين، بل رجالا حكماء و أكفاء، و أصحاب رؤية إنسانية و واقعية.
ف «الطوايشية» لا يوجدون عندنا فقط بل بعضهم يوجد كذلك على رأس العديد من الدول المتقدمة والديمقراطية. و هذا أمر يبعث على اليأس من الشعوب التي وضعت مثل هؤلاء على رأسها.
انتقدتم في مقالات سابقة لكم ضعف إسهام المسلمين في عالم اليوم كما بيّن ذلك وباء كورونا، برأيكم ما أسباب هذا التأخر والضعف؟
- أنا أرافق من خلال كتاباتي أحداث العصر الذي أعيش فيه و ذلك منذ نصف قرن. و قد نشرت حتى الآن ستة مقالات تتناول فيروس كورونا من زاوية مختلفة في كل مرة. واحد منها كان عنوانه «فيروس كورونا والحضارات» و قمت من خلاله بملاحظة أنه، باستثناء مشاركة بعض العلماء والأطباء الذين ينتمون للإسلام في البلدان التي يقيمون فيها، فإننا لا نشعر أن أحدا يهتم بالأمر في معظم البلدان الإسلامية التي يبدو أنها قلقة بشأن مصير الممارسات الدينية في زمن الفيروس التاجي أكثر من اكتراثها بمصير البشرية.
توجد الدول الإسلامية في معسكر الدول المتخلفة بأكثر عدد منه في الدول المتقدمة. فالتقدم قبل أن يكون مسألة موارد اقتصادية ومواد أولية، هو مسألة ذهنية و ضمير مدني و ديناميكية اجتماعية و أداء اقتصادي و مؤسسات سياسية ديمقراطية. و أمّا البلدان العربية المسلمة فهي متطورة جدا من ناحية التديّن الأناني و المتعصب و الظاهر و الشعائري، لكنها متخلفة من حيث الأفكار العصرية والجديدة والمبتكرة والمبدعة.
أسباب تأخر المسلمين عن الحضارات الأخرى هي ذات طبيعة ثقافية و عقلية و فكرية و مؤسساتية و تكنولوجية ... فهم عالقون في الماضي يحاولون تقليد نماذج لم تعد تتحرك، و يجترّون ذكريات لم تتغير منذ سبعة أو ثمانية قرون . إنهم يريدون أن يعودوا للعيش في الماضي و ليس أن يبتكروا المستقبل.
فالمجتمعات التي تنتظم في شكل دول متقدمة فقط هي التي يمكنها تحقيق المصلحة العامة، بينما تحقيق الخير في الأديان متروك لتقدير و حسن نية الفرد، الخير هو ما يضيفه الإنسان إلى خلق الله، إنه التقدم و تحقيق الرفاهية المعنوية والمادية، و لفن الحياة و الكفاءة في العمل.
الله هو الذي خلق الطبيعة بينما الإنسانُ أنشأ الحضارة. كلاهما تتناسق مع الأخرى، و إحداهما تحقق ربح الأخرى و تكمّلها بالعلوم والتقنيات والطب إلخ. الشر ليس بديلاً عن الخير بل هو عدم القدرة على فعله. إنه ليس خيارا بل صفة مرتبطة بحالة الجهل، و قد كان سقراط محقا عندما قال إن: «لا أحد يريد الشر عمدا». أمّا في القرآن الكريم ف»فعل الخير» لا ينفصل تقريبًا أبدًا عن الإيمان بالله، كما أن هدف جميع الأديان هو خدمة الخير، فهي موجودة في سبيله و لخدمته.
التوحيد هو أعلى قيمة توجد في الإسلام: فالله واحد يجب أن ينتج عن ذلك أن العالم واحد و البشرية واحدة، والإنسان في كل مكان هو نفسه، ما الذي سيفعله المسلمون تجاه العالم الجديد إذا ما بقيت عقليتهم تقاوم حتمية مراجعة مفاهيمهم عن الله والكون والدين و غيرهم من البشر و عن سبب وجودهم على الأرض؟ ماذا سيكون موقفهم مما سيكشف عنه مستقبلٌ يهدّدُ بإغراق تصوراتهم العقلية القديمة، والعديد من المعتقدات التي أضافها لدينهم «علم» أصبح مجرد شعوذة و وثنية؟ ماذا سيفعلون و ماذا سيصبحون عندما يرونها تنهار الواحدة تلو الأخرى كالصفائح التي تنفصل عن طبقة الجليد القطبية تحت تأثير الاحتباس الحراري العالمي؟.
لقد فضّل القرآن الكريم الإنسان على جميع المخلوقات: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىكَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (الإسراء آية 70). و يتمثل هذا الشرف الذي أوتي الإنسان إياه في نقل بعض سلطات الله إليه من خلال هبة العقل. و قد كرّمه الله بالنظر إلى المهمة التي أوكلها إليه و هي أن يكون استمرارًا لخلقه و ناشرا للخير الأخلاقي والمادي وللذكاء عبر كامل الكون. أليست هذه هي الصفة التي تقصدها الآيات المتعلقة بالروح التي نفخها الله في الإنسان أليس هذا ما يجب فهمه من الرسالة الإنجيلية كذلك؟.
ليس المسلمون فقط من جعل منهم الله في القرآن الكريم «خليفة له في الأرض»، فهو لم يعيّن لهذه المهمة دينا أو جماعة أو نبيا بعينهم بل الإنسانية جمعاء، أي جميع رجال ونساء الخلق في جميع العصور، مع الإشارة صراحةً إلى أصحاب المعرفة منهم، بمعنى الذكاء.
هؤلاء الذين يسميهم القرآن الكريم «ذوي الألباب» هم العلماء والمخترعون في جميع المجالات التي يعود إليها الفضل في تحقيق تقدم البشرية، و كذلك المفكرون الذين يفتحون آفاقًا جديدة، وبناة الحضارات و رجال الدولة العظماء و الرواد في جميع المجالات، و هو منح لهؤلاء توكيلًا بمواصلة عمله كما فوّض بعض سلطاته إليهم.
لقد فشل «العلم» الديني القديم في مهمته، فهو لم يغير العقول بل أقفل عليها بإحكام. و لم ينتج تفسيرات جديدة للقرآن الكريم والحديث بما يساير الاكتشافات الجديدة في العلوم الإنسانية و الفيزيائية، بينما بالغ في المقابل في توسيع مجال المقدّس.
يقول الله تعالى للإنسان في القرآن الكريم «أنت حر»، لكن العلم القديم يأمره بالخضوع إلى رأي «العلماء». الله يحثه على التحرك و التصرف بينما العلم القديم يوهمه بأن «الله هو الذي يفعل كل شيء». و الله يدفعه إلى «التأمل في القرآن» بينما «العلم» يحذره بأن هذه المهمة ملك حصري ل «رجال الدين»...
لماذا يبتعد البشر أكثر فأكثر عن الدين؟ ليس لأنهم لا يريدون أن يؤمنوا بالله لكن بسبب الصورة التي يعطيها «العلم القديم» عنه، و بسبب تعاليمه التي لا تنسجم مع حقائق أثبتها العلم والتاريخ، وكذلك لأنه يحرض معتقدات البعض ضد معتقدات الآخر ...
بعدَ اكتسابه لبعض المكاسب الفكرية الضئيلة التي انتزعها من الاستعمار، عاد العالم العربي الإسلامي ليضع نفسه مرة أخرى تحت شوكة العلم الديني القديم الذي استبدل المدارس القرآنية بالقنوات الفضائية التي تضمن له جمهورا أوسع و وجودا في قلب منازل المسلمين. لم يعد ينتظر أن نأتي إليه فقد صار هو الذي يزور المنازل ليوصل لنا ظلماته بالمجّان. لهذا السبب صار معظم المسلمين يعيشون و رؤوسهم محشوة بالخرافات والمعارف التقريبية عن الدين والله و عن «الغيب» الذي يخلطون بينه و بين ما هو غير مرئي وغير ملموس. يخشون أن «يكفروا» إذا ما حاولوا فهم شيء أو طرحوا سؤالا أو اعترفوا بعدم ارتياحهم أمام كلام جنوني أو «فتوى» تصطدم بالعقل. يُفرَضُ عليهم الشعور بالذنب باستمرار، يُطَارَدُونَ حتى في أصغر أفكارهم و يشكّون في كل ما لا يحمل الطابع الرسمي ل «الحلال».
أينما توجد مجموعات بشرية تحرص على التقدم والسلام والتناسق الاجتماعي واحترام حقوق الإنسان، فإن الثقافة الاجتماعية و الود والأخلاق الحميدة وفن «العيش معًا» هي التي تُدَرّسُ للشعوب، وليس ثقافة الموت و «عذاب القبر» كما يجري الأمر في مدارس البلدان الإسلامية الابتدائية. لا يوجد شعب في العالم تمكّن من التطور بتعليم أطفاله العيش بأساليب حياة أصحاب موسى عليه السلام أو كونفوشيوس أو بوذا أو المسيح أو أي شخصية عظيمة أخرى من تاريخ البشرية.
العلم الحقيقي يشكك في نفسه باستمرار وهذه أسمى الفضائل فيه، بينما يدعي العلم الديني بأنه الحقيقة المطلقة و هذا أعظم العيوب فيه.
رافعتم من أجل فهم جديد للإسلام وتعاليمه، ومن أجل قراءة جديدة و حديثة للقيم الإنسانية التي جاء بها، وانتقدتم غلق باب الاجتهاد الذي يعني غلق باب التفكير والتنوير والعقل، كيف تنظرون إلى هذه المسألة في ظل الوضع الذي يعيشه المسلمون اليوم؟.
- إذا كان الإسلام لا يزال دون شك جذابا من ناحية القيم الروحية، فإن معظم قواعد التنظيم الاجتماعي والسياسي المرتبطة به لم تعد صالحة للتطبيق. علاوة على ذلك فإن إصلاحا لا يُذكر بصفته الحقيقية قد سبق و فرضَ نفسه عمليًا في جميع الدول الإسلامية تقريبًا، حيث جرى التخلي عن بعض التعاليم القرآنية مثل القصاص ببتر يد السارق، و الجلد في الساحات العامة، و الجزية وتعدد الزوجات.
هذا التطور فرض نفسه تلقائيا و كان بمثابة انتصار سُرقَ من العلم الديني القديم الذي بدوره يتظاهر بأنه لم ير شيئا، فهو لن يقبل أبدا الاعتراف بكون حدود قرآنية لا تقبل التطبيق في كل مكان و زمان. و في المقابل هناك أيضا محرمات لا علاقة لها بالإسلام لكنها أصبحت تعتبر تشريعات دينية.
إنّ المسائل التي تنتظر من المسلمين إجراء مراجعات أساسية و تتطلب منهم أجوبة لا لبس فيها هي تلك المتعلقة بالدولة والسلطات العمومية والعلاقات مع غير المسلمين و حقوق الإنسان والمرأة. يجب عليهم أن يتخلوا من تلقاء أنفسهم عن فكرة الدولة الإسلامية، و أن يستبدلوها بالدولة الحديثة والديمقراطية والمدنية لأنه لم يعد ممكنا في عالم اليوم أن توجد دولة يعيش فيها مجتمع ديني أو عرق واحد فقط. يجب أن يقبلوا بإمكانية أن يكونوا أقلية في بلد ما وأغلبية في بلد آخر، و أن يتبنوا تنظيمًا سياسيًا يقوم على المساواة بين مواطنيهم الأصليين والمقيمين الشرعيين، وهذا الأخير بالمناسبة هو الوضع الذي يطالبون به عندما يجدون أنفسهم عند الآخرين.
القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات بين الدول لا يمكنهم أن يتسامحوا مع تعرض البشر إلى التمييز على أساس الدين.
ليس الإسلام هو الذي يجب إنكاره بل الإسلاموية هي التي يجب تحديها، فالإسلام سيدوم ما دامت حياة البشر على الأرض، بينما الإسلاموية ستمضي. ستختفي تلقائيا عندما تصبح الدول الإسلامية ديمقراطيات و حين تتطور المجتمعات الإسلامية ذهنيا وفكرياً واجتماعياً، و هذا هو الهدف المرجو من التجديد الفكري والعقلي الذي أدعوه إليه وأعمل عليه عبر كتاباتي.
إن العالم يتجه نحو ثورات معرفية و تكنولوجية على نطاق غير مسبوق. و ستتغير خلال القرن الحادي والعشرين ظروف الحياة البشرية متجاوزة كل ما كنا نعرفه و نفعله، و ستفتح في ذات الوقت نافذة فرصة يمكن أن تسمح للمسلمين بالارتقاء إلى مستوى الحضارات المعاصرة، و بتحديث رؤيتهم للعالم و مساواتها مع تلك التي ستنتج عن التغيرات العميقة التي ستمس حياة الإنسانية. كل شيء سيسير بسرعة عظيمة و بتدفق عال جدًا. سيمكننا أن نكون في الموعد إذا ما بدأنا في تجسيد ذلك منذ الآن.
تجديد الإسلام يعني تغيير الخلفية الذهنية للمسلمين، الموروثة من علم ديني لم يجر تحديثه منذ ألف عام. إنه يستلزم تحرير عقولهم من سحر المقدسات التي يرونها حتى أينما لا توجد، و تعريفهم على إسلام سيعيشون ضمنه بارتياح لأنه يتناغم مع واقع عصرهم.
هو أن نجعلهم، من خلال مناهج تعليمية و باستخدام وسائل الاتصال ذات الإشعاع الواسع (التعليم العمومي، الخطب الدينية، الخطاب السياسي، الإنتاج الفكري والسمعي البصري، المناقشات العامة...)، ينظرون بذهنية جديدة إلى مفاهيمهم عن الدين والله، و لرؤيتهم للقرآن الكريم و لسبب وجود الإنسان، ولعلاقتهم مع غير المسلمين و باقي العالم.
تجديد الإسلام هو مراجعة أجهزته المفاهيمية على ضوء التجربة الإنسانية والمعرفة المعاصرة، والتطورات التي هي اليوم في فترة الاحتضان و التي ستقلب أسس الفكر الإنساني والمعتقدات الدينية. باختصار فإن المسلمين إن كانوا يعرفون محل الإسلام من الإعراب في الماضي، فإنه يجب عليهم أن يتعلموا إعرابه في الحاضر والمستقبل.
أثبتت تجربة كورونا انه لا توجد أي دولة قادرة على مواجهة تحديات و مفاجآت الحياة العصرية برأيكم ما هي مجالات التعاون والتحالف الأقرب إلى الجزائر في المستقبل؟
- تخالف أغلب الدول العربية المسلمة بما فيها دول المغرب مفهوما عريقا في السياسة الخارجية والإستراتيجية والدبلوماسية، و هو ذلك الذي ينص على أن سياسة أيّ دولة تفرضها أولا و قبل كل شيء جغرافيتها. أما في المغرب العربي الكبير فإنّ الجميع يسعى لعدم الاعتماد اقتصاديًا على التبادلات مع إخوانه وجيرانه و يلجأ للابتعاد عند البحث عن التحالفات.
يجب على بلادنا أن تعيد النظر في كامل سياستها الخارجية وتعيد توجيهها نحو إعادة تفعيل المشروع المغاربي كمنطقة اقتصادية وتكتل استراتيجي. إن منطقتنا الآن تمثّل مجال مناورة للقوى الأوروبية والأمريكية والروسية والتركية والصينية والإماراتية والقطرية ... و إذا لم تمض دُوَلُنا قدمًا في هذا الملف فسوف تَضعُفُ ويتم التهامها الواحدة تلو الأخرى.
كيف تقرؤون الانهيار الرهيب لأسعار النفط في الأيام الأخيرة؟
- ما يدهشني ليس صدمة النفط الحالية التي شهدت بيع نفط «الصحارى بلند» الجزائري بأقل من 20 دولارًا للبرميل، أي بأقل من كلفته، بل هو كوننا تمكنّا من البقاء على قيد الحياة كل هذا الوقت و نحن نعتمد منذ الاستقلال فقط على هذا المورد. الأمر معروف بأن هذا كان يجب أن يحدث عاجلاً أم آجلاً لكن أولئك الذين حكموا الجزائر في هذه الأثناء كانوا إمّا ديماغوجيين أو جهلة، أو حتى يدمرون البلاد عمداً مثلما فعل آخرهم.
بقي لدينا في عمق الدرج بعض العملة الصعبة التي ستمكننا من قضاء الأشهر القليلة المقبلة لكن ليس أكثر. بعد ذلك سنضع ركبة على الأرض ونوجه النّظر للسماء لأن العالم دخل اليوم في ركود دائم و لن يجب انتظار أي مخطط مارشال منه. لا يوجد من يستطيع أن يفعل شيئا للآخر، فجميع قدرات الأسواق المالية والبنوك الدولية ستُمتصّ، و هي لن تكون بالتالي قادرة بعد الآن على إقراض المال للجميع. تخيلوا أن احتياجاتنا السنوية تناهز 60 مليار دولار من الواردات.
كم تحتاج اقتصاديات العالم من وقت حتى تتعافى من تداعيات أزمة كوفيد 19 حسب تقديركم؟
- الأمر متعلق أولاً وقبل كل شيء بالمدة التي ستستغرقها مطاردة فيروس كورونا لأنه هو الذي يمنع استئناف النشاط في العالم. فالدول تحتاج إلى إعادة بعث الاقتصاد في أقرب وقت ممكن لأنها تستمد منه مواردها المالية الرئيسية، بما في ذلك الضريبة على القيمة المضافة و باقي الضرائب المفروضة على التجارة و الأعمال. الذي ضاع و لا يمكن استرجاعه هو كل تلك النفقات غير المتوقعة، ليس التي صرفت على شراء الأقنعة وأجهزة التنفس بل تلك الأموال التي تُدفَعُ للناس مقابل بقائهم في البيت. فهي كتلة من الأموال التي اقترضت لكن جرى تداولها دون أي مقابل إنتاجي، و هو الأمر الذي سيدفع إلى التضخم و انخفاض قيمة العملة. أمّا التعافي فسيكون صعبًا وبطيئًا ومكلفًا حيث سيتوجب الاستمرار في حمل الاقتصاديات المتوقفة و دعمها حتى تعود مجددا للوقوف على ساقيها. لطالما قورن الاقتصاد الليبرالي بالدراجة الهوائية التي محكوم عليها ألّا تتوقف حتى لا تسقط. أمّا عندما لا يوجد شيء اسمه اقتصاد مثل في حالتنا نحن، و أين يكون كل شيء مسحوبا و مدعما من قبل عائدات النفط والغاز التي ستتخلى عنا قريبًا في طريق مفتوح لكل شيء، فإنه لا يمكن التقدم بأي توقعات. سيبقى لنا اللجوء للدعاء، كما يجري الحال منذ أن أصبحنا حضارة سابقة (قبل ستة أو سبعة قرون)، فقبل ذلك كنّا نتحرك و نفعل و نفكّر، و كنا نمثّل الحداثة والتنمية والمعرفة العلمية و الفخامة. أمّا اليوم فلم نعد نصلح ل «دار الحكمة» بل ل «دار العجزة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.