أ- أصل الحضارة فكرة دينية: يتضح مما سبق أن ما يتفق عليه المفكران أن الحضارة يبلغها الإنسان عندما يصل إلى درجة السمو الروحي والأخلاقي والفكري، هذا السمو الذي يطوّر الحياة في مختلف جوانبها، والحضارة بهذا المعنى لا تتكون إلاّ بفعل التغيير الذي يشهده الإنسان في حياته الذاتية الفردية الداخلية أولا، ثم خارج هذه الحياة ثانيا. والتغيير بهذا المعنى هو ما يعرف بالتجديد الحضاري، وهذا الأخير له شروطه وميادينه ومراحله وأهدافه ومراميه، ويكون وراء أية نهضة تاريخية، ومحرك أية دفعة حضارية. ومثال ذلك الحضارة الإسلامية، فكان وراءها التغيير الذي شهده المسلمون الأوائل في أنفسهم وفجّر التغيير الذي شهدته حياتهم، فشهدوا تجديدا لا مثيل له في عصرهم، هذا التجديد التي أنتج حضارة راقية عامرة بالإيمان، وزاخرة بالعلوم والفنون والصناعات، كان ذلك بفعل الإسلام الذي بنى ذاتا إنسانية إسلامية، دخلت التاريخ من بابه الواسع بعد العزلة، كما بنى مجتمعا إسلاميا قويا عرف الحضارة والمدنية بعد سذاجة وبداوة، وهذا يدلنا إلى أن التغيير السابق على كل صحوة حضارية يستهدف بناء الإنسان، وقولبة ذاته ووجوده الفردي أولا وقبل كل شيء، ثم بناء المجتمع وتحويل الواقع لخدمة مرامي الإنسان وغاياته القريبة والبعيدة. ولا نستطيع أن نميز بين فلسفة إقبال ونظرية مالك بن نبي حول دور الدين في بناء الإنسان والحضارة والتاريخ، فإقبال يعتبر الإنسان المسلم، المتحلي بأخلاق الله هو الإنسان الكامل، لأجله وجد كل شيء، هو إنسان القوة والحضارة والتاريخ، وما سواه زيف وباطل. والحياة في أصلها روحية وفي مصيرها روحية ذلك ما قرره الإسلام، ويبيّن إقبال الدور الذي يلعبه الدين، وتلعبه الفكرة الدينية في تحريك التاريخ، وتشكيل الحضارة من خلال الدور الذي لعبه الإسلام في التاريخ فيقول: الإسلام بوصفه حركة ثقافية... ونظاما عاطفيا يقول بوحدة الكلمة، يدرك قيمة الفرد، من حيث هو فرد، ويرفض اعتبار قرابة الدم أساسا لوحدة الإنسانية... ولا يتيسر التماس أساس نفساني بحت لوحدة إنسانية إلا إذا أدركنا الحياة الإنسانية جميعا روحيا في أصلها ومنشئها... ولهذا كان أمرا جدّ طبيعي أن يشرف نور الإسلام بين قوم سذج لا يعرفون شيئا من ثقافات العالم القديم، وتقع بلادهم في رقعة من الأرض تلتقي فيها قارات ثلاث، وتجد الثقافة الجديدة في مبدأ “التوحيد" أساسا لوحدة العالم كله. والإسلام بوصفه دستورا سياسيا ليس إلا أداة عملية لجعل هذا المبدأ عاملا حيّا في حياة البشر العقلية والوجدانية". ويؤكد مالك بن نبي أفكار محمد إقبال حول دور الدين في بناء الإنسان والتاريخ والحضارة، بأسلوبه، ومعجميته، وفي إطار منهجه، ونظريته التي تعتبر الحضارة حاصل جمع العناصر الثلاثة، وهي الإنسان والتراب والوقت. ولكن هذه العناصر لا تجتمع وتتآلف وتتكامل إلا بفعل الدين الذي يركّب فيما بينها، إذ يقول في ذلك: “فدورة الحضارة إذن تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة أو “عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين Ethos " على حد قوله كيسرلنج، كما تنتهي حينما تفقد الروح نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة والمكبوحة الجماح"، ويقول كذلك: “فالفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة، وإما بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، في التركيبة المتآلفة لحضارة ما. وفي تشكيل إرادتها". لا يختلف محمد إقبال عن مالك بن نبي في نظرته إلى العلم والتاريخ، باعتبار كلاّ منهما مهم وأساسي في الحضارة، فالعلم والتجارب العلمية عند الأول ميدانها الواقع والتجربة الواقعية، وهي وسيلة لبلوغ الحقيقة. أما الدين والتجربة الدينية ميدانها الروح، وهي وسيلة لبلوغ الحقيقة، فهما معا لا يتعارضان بل يتكاملان ولهما الهدف نفسه، هو الكشف عن الحقيقة، التي هي في أصلها روحية. أما التاريخ فهو مصدر من مصادر المعرفة إلى جانب الرياضة الروحية والطبيعة. والتاريخ أو بتعبير القرآن أيام الله، هو ثالث مصادر المعرفة الإنسانية بناء على ما جاء في القرآن. ويشكل العلم بمفهومه الواسع محرك النهضة وصانع الحضارة عند مالك بن نبي، والطابع الذي تتميز به الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة علمي محض. أما التاريخ فهو عنده الإطار الشامل لكل فعل حضاري ولكل حركة نهضة تدخله، فالتاريخ هو الإنسان والمجتمع والحضارة والتقدم والرقي في الحياة. قام كل من محمد إقبال ومالك بن نبي بفحص وتمحيص واقعه المعيش، فكريا واجتماعيا واقتصاديا ودينيا، وقام بالمراجعة والتقويم للفكر الإصلاحي الذي شهده عصره، وانتهى إلى غياب الرؤية الفلسفية إلى الإنسان والتاريخ والحضارة، وانصبت فكرة الإصلاح والتجديد عنده على مراجعة وتقويم ونقد جوانب عديدة من الفكر الإسلامي القديم، مثل فكر ابن خلدون ونظريته في الدولة، وعلى المحاولات الإصلاحية لزعماء الإصلاح والتجديد في العصر الحديث، مثل دعوة جمال الدين الأفغاني، ودعوة محمد عبده... وغيرهما، خاصة دعاة المسالمة مع الاستعمار والفكر الغربي. قام محمد إقبال بنقد جوانب كثيرة من الفكر الإسلامي وأخرى في الفكر الغربي، كما انتقد الحركة الإصلاحية الحديثة وفي العالم الإسلامي، وكتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام" يدل على ذلك وكان يقتبس من الفكر الغربي ولا يرى في ذلك حرجا، مادام لا يتعارض مع القيم والمبادئ التي يؤمن بها، ولا تتعارض مع الإسلام كما انتقد بشدة الفكر الإلحادي الغربي، وسار في طريقه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي. كلاهما استطاع بمحاولته الفكرية الإصلاحية ونظريته الفلسفية أن يقدم رؤية فلسفية للإنسان والتاريخ والحضارة، وكلاهما له فكر قوي، وفلسفة تميزت بالمتانة والدقة والعمق. ففلسفتهما تلتقيان في الفضاء النظري والمنبت والمبتغي. هذا المبتغى الذي يحدده إقبال بقوله: “فعلى المسلم اليوم أن يقدّر موقفه، وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية، وأن يستنبط من أهداف الإسلام، التي لم تتكشف بعد إلا تكشفا جزئيا، تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده". وهو مبتغى ومقصد مالك بن نبي الذي يقول فيه: “وإنما لا يجوز لنا أن يظل سيرنا نحو الحضارة فوضويا، يستغله الرجل الواحد، أو يظلله الشيء الواحد، بل ليكن سيرنا علميا، عقليا، حتى نرى أن الحضارة ليست أجزاء مبعثرة ملففة، ولا مظاهر خلاّبة، وليست الشيء الوحيد، بل هي جوهر ينتظم جميع أشيائها وأفكارها وروحها ومظاهرها، و قطب يتجه نحوه تاريخ الإنسانية". ب- الحضارة بين النظرة الفلسفية الصوفية والتفسير العلمي المعاصر: إذا كان فكر محمد إقبال قد التقى في أكثر من نقطة مع أفكار مالك بن نبي، ومع رؤيته إلى التاريخ والحضارة، وهو أمر طبيعي جدا له أسبابه وظروفه الموضوعية، لأن الأمر يتعلق بمحاولتين فكريتين فلسفيتين لمفكرين من عصر واحد، ولهما مشاكل وهموم واحدة، ولهما انتماء ديني وتاريخي واحد، ولهما تطلعات وآمال واحدة. وإذا كان المحيط الثقافي والاجتماعي الذي يظهر فيه فكر المفكر أو فلسفة الفيلسوف يترك بصماته وبقوة، في الاتجاه المؤيد أو في المسار المعارض على ذلك الفكر، وعلى تلك الفلسفة، فإن الفكر الإصلاحي في العصر الحديث في العالم الإسلامي، وفي أيامنا هذه من إنتاج البيئة الذي يعيش فيها زعماء الإصلاح ودعاة التجديد. ويرتبط هذا الفكر كذلك بزعمائه ودعاته، وبشخصياتهم ومواهبهم وعبقرياتهم في دراسة الواقع، وحصر دواعي الداء، وتحديد كيفيات العلاج، وأسلوب الدعوة ومنهج التجديد وطبيعته والتحكم فيه، فكل هذا ينطبق على فلسفة إقبال وفكر مالك بن نبي، وعليه ففلسفة إقبال تختلف عن نظرية الحضارة والتجديد الحضاري عند مالك بن نبي في أكثر من نقطة، رغم ما يجمع الشخصيتين من روابط تاريخية ودينية متينة، هذه الروابط التي تجلّت وبوضوح في فكر كل منهما، من حيث مرجعيته الفكرية والتاريخية والاجتماعية والعقدية، ومن حيث المشكلات التي واجهته وعالجها، ومن حيث المبادئ والأسس والمنطلقات التي انطلق منها، ومن حيث العديد من النقاط التي تخص المنهج المتبع في البحث والدراسة، أو في اقتراح الحلول للمشكلات، ومن حيث الأهداف والغايات التي كان يسعى إليها. إن التماثل الفكري والتقاطع الفلسفي بين فلسفة محمد إقبال وفكر مالك بن نبي لم يمنع الاختلاف بينهما في أكثر من مسألة، وفي أكثر من حل، وفي المنهج وأمور أخرى. وإذا كان فكر المفكر مرتبط بمحيط صاحبه الاجتماعي، حقيقة ثابتة، فإن بيئة محمد إقبال الاجتماعية في الهند تختلف بعض الشيء عن محيط مالك بن نبي الاجتماعي في شمال إفريقيا، هذا الاختلاف في بعض العادات والتقاليد والأعراف، وعند قراءة حياة إقبال في الهند وسفره إلى الخارج ونقرأ حياة مالك بن نبي وتنقلاته من خلال كتابه “مذكرات شاهد للقرن" وهو يروي قصة حياته بشيء من التفصيل والدقة يتضح التمايز بين الشخصيتين الناتج عن التباين الطفيف بين الوسطين الاجتماعين، وسط إقبال ووسط مالك. وطبيعي أن إقبال تأثر بالظروف المحيطة به في الهند وباكستان، كما تأثر كغيره بظروف العالم الإسلامي وما تميز به من ضعف وتخلف وانحطاط، وبظروف العالم الأوربي الغربي وما تميز به من تقدم علمي وتكنولوجي وتحضر. ومالك بن نبي هو الآخر تأثر بالظروف المحيطة به في الجزائر وفي العالم العربي والإسلامي، وبما يجرى خارج الجزائر والعالم الإسلامي، ذلك التأثر انعكس في فكر كل واحد منهما وبان في فلسفته. يتبع