بقلم: الدكتور يحيى أبو زكريا كالنار في الهشيم انتشرت ظاهرة الإرهاب في العالم الإسلامي وبات عنوانا ملازما للمشهد العربي والإسلامي في خط طنجة - جاكرتا. تمادت وسائل الإعلام والمواقف الرسمية في الغرب في غيها عندما ربطت ومزجت بين الإسلام والإرهاب، حتى بات الإسلام الحضاري المحمدي الأصيل في قفص الاتهام كدين منتج وصانع للإرهاب، وأصبح أتباعه في موقع الدفاع دوما عن دينهم وحضارتهم..علما أن هذا الغرب أدى تقاتل بنيه في الحرب الكونية الثانية إلى إزهاق أرواح ستين مليون نسمة في الجغرافيا الأوروبية. والواقع أن الإرهاب مرّ بتطور تاريخي من العصور القديمة (الإغريق، الرومان، الفراعنة، الإرهاب اليهودي ومرورا بالعصور الوسطى) الإرهاب في أوربا، الحروب الصليبية، محاكم التفتيش، عصر صدر الإسلام وصولا إلى الإرهاب في العصر الحديث (الإرهاب الصهيوني والغربي ممثلا في الحركات الاحتلالية والاستعمارية. قبل أن يرتبط الإرهاب بالإيديولوجية كما في الحركات اللادينية (الماسونية والشيوعية) والتيارات الدينية (تنظيم الجهاد الإسلامي وتنظيم التكفير والهجرة). ومدلول الإرهاب في الإسلام من خلال كلمة رهب ومشتقاتها تكررت في القرآن الكريم 8 مرات تؤكد كلها نبذ الإسلام للإرهاب. والذي أصبحت الإرادات الغربية ومن خلاله تشوه صورة الإسلام وتنفر منه ناهيك عن الإساءة للمسلمين وتحطيم روحهم المعنوية، وتضليل الرأي العام العالمي والسيطرة عليه، وتبرير الأعمال الإسلامية ضد المسلمين، وزعزعة الأمن والاستقرار في الدول الإسلامية. وفي الثلث الأخير من القرن العشرين مزج بعض المسلمين بين الإسلام والإرهاب وحوّلوه إلى أكبر دين معادٍ للبشرية مفرغين مصطلح الجهاد من محتواه الفعلي.. لم يتحوّل دين من الأديّان إلى موضوع للإثارة والأخذ والردّ والجدل مثلما أصبحت عليه اليوم حال الإسلام في الجغرافيا التي تدين بالإسلام وفي الجغرافيا الغربيّة بل في جغرافيّا المذاهب الدينيّة والمذاهب الإنسانيّة على حدّ سواء، وإذا كان الإسلام في مراحل نموّه وامتداده ارتبط بالتحضّر والفكر والثقافة، فإنّه في الثلث الأخير من القرن الفارط وبدايات القرن الحالي ارتبط أو أريد ربطه بالإرهاب والقتل والاعتداء والاختطاف وتمّ تجريده من كل القيّم الحضارية التي كرسّها هو في الفكر الإنساني، وقدمّ الإسلام على أنّه دراكولا الجديد الذي لا يؤمن إلاّ بالقتل والتجني على الآخرين والسطو على أموالهم وخيراتهم وساهمت ممارسات المحسوبين على هذا الدين السلبيّة والمشوهّة في تكريس مفهوم الإسلام دراكولا الذي تعمل مؤسسات ذكيّة على أن نشر هذه الصفّة وتعميمها. وإذا كانت إستراتيجيات الآخر الذي يهمّه وأد الإسلام وتجريده من أبعاده الإنسانية والفكرية والحضارية واضحة ولها ما يبررها بحكم أنّ الصراع الفكري والمذهبي والديني صفة ملازمة لحركة الإنسان والتاريخ منذ بدايتها، فإنّ ما يدعو إلى التأمّل هو قيام مجموعات من المحسوبين على الإسلام على التساهل في موضوع القتل وأخذهم من الإسلام ما يبررّ هذه المسلكيّة العدوانية والتي لا يقرّها لا الإسلام ولا نصوصه القرآنية ولا نصوصه النبويّة ولا إجماعات العلماء المتقدمين والمتأخرين. مبدئيّا تجدر الإشارة إلى أنّ الأصل في وجود الإسلام وقيامه هو البناء لا الهدم، التكامل لا التناقص، الإحياء لا القتل، تقديس الروح البشريّة لا إمتهانها، حرمة الدماء والأموال والأعراض لا انتهاكها، إقامة العدل وتحقير الظلم، ولم يحتط الإسلام في شيء مثلما احتاط في الدماء وجعل إزهاق الروح الواحدة كإزهاق أرواح البشر جميعا، ولم يشرّع الإسلام التعدّي على الآخرين اللهمّ إلاّ بمقدار الدفاع عن الأرض والعرض وحتى في حالات الدفاع عن الأرض والعرض هناك مجموعة شروط يجب الالتزام بها منها حرمة التعدي على النساء والأطفال وحرمة قطع الأشجار وإلحاق الرعب بالآخرين. والذي حدث بعد وفاة رسول الإسلام - ص- أنّه تمّ التجاوز عن النص إلى التأويل، وتمّ التجاوز عن سيرة المصطفى _ ص- إلى سيّر بعض أدعياء العلم والفقاهة، وبهذا الشكل كثرت المذاهب والطوائف والملل والنحل والتفسيرات والتأويلات حتى أصبح الإسلام إسلامات والدين ديانات والرأي آراء والوحي الواحد الذي يمثلّه جبرائيل مجموعات من الوحي، وأصبحت كل طائفة وكل ملة وكل نحلة تقتبس من مصادر التشريع القرآن والسنة على وجه التحديد ما يقوّي موقف هذه الطائفة وتلك الملّة وذينك النحلة، وأصبح القرآن الذي وجد ليكون أساسا للرؤية الكونية مطيّة لتبرير التصرفات الطائشة للكثير من المسلمين، ويؤكّد التاريخ العربي والإسلامي أنّ ما اقترفه المحسوبون على الإسلام في حق إسلامهم أكثر ممّا اقترفه الفرنجة والمغول في حق الإسلام، ومن يقرأ كتب الملل والنحل للشهرستاني والفرق بين الفرق للإسفراييني البغدادي والملل والنحل لإبن حزم الأندلسي يدرك كم كان المحسوبون على الإسلام يتقاتلون بسبب تأويل خاطئ هنا، وفتوى باطلة هناك، وتفسير غير ناضج لهذا النص وهكذا دواليك. ومع مرور القرون تشكلّت رؤى إسلامية ونظريات إسلامية ومفاهيم إسلامية مردّها ومرجعها قرون التفتتّ والافتراق والتقاتل والتباغض، وبدل أن نعود إلى إسلام الوحي الذي أوجد المنطلقات التي جئنا على ذكرها في بداية الحديث العدل وتقديس الروح الإنسانية وعدم جواز الاعتداء على الآخر، تغيرّت المنطلقات، وأصبح قتل المسلم جائزا لأنّه لا يؤدي الصلاة وإحراق وجه المرأة مباحا لأنها لا ترتدي الحجاب، وقتل الفرنسي أو الأمريكي مستساغا لأنّهما مسيحيان، وما إلى ذلك، ولو كان المولى عزّ وجلّ يعامل خلقه بهذا المنطق لأبادهم من أول وهلة أوجدهم فيها، بينما اختار خطّ الإقناع والمحاججة والتبليغ الحكيم وأرسل لهذه المهمّة عشرات الآلاف من الأنبياء والرسل وكلفهم بفتح حوار طويل مع البشرية حول قضايا الوجود وما بعد الوجود، وماهيّة الإنسان والهدف السامي من إيجاده وما إلى ذلك من التفاصيل. وهذا ما يفسّر رفقة رسول الإسلام محمد بن عبد الله _ ص _ بمشركي قريش والعفو عنهم لدى فتح مكة وإحسانه للنصارى ومبادرته لمساعدتهم ماديّا وحياتيا، وحتى اليهود عاشوا في كنف دولته في المدينة المنورّة حياة كريمة قبل أن يبادروا إلى حركة سرية لتدمير المجتمع الإسلامي في الداخل الإسلامي فعوقبوا لتصرفاتهم لا ليهوديتهم. إنّ انحراف قطاع كبير من المسلمين عن مقاصد الشريعة الحقة ولجوئهم إلى التأويلات الناشئة في عصر الفتنة وإسقاطهم تلك التأويلات على واقعنا المعيش هو الذي ألحق الأذى الكبير بالإسلام وحولّه من دين حضاري إلى دين يصادر الحضارة. والعجيب أنّ الذي يتيح لنفسه قتل المسلم أو غير المسلم لم يرق ولن يرقى إلى درجة الاجتهاد التي تتيح له صناعة الفتوى أو استنباط الحكم الشرعي اللازم لمثل هذا الفعل أو ذاك، فمعظم الذين يقومون بأعمال عنف هم مثيقفو أشرطة لبعض الغلاة الذين يقدمون الإسلام على أنّه دين سيف وليس دين قلم، دين امتهان الروح وليس دين تقديس الروح، دين صدام وليس دين حوار. إنّ في القرآن الكريم أروع صور الحوار بين الله والشيطان، بين الله وآدم وبين الله وجميع أنبيائه، وإذا كان الحوار بين الله والإنسان جائزا بمنطق القرآن، فإنّ الحوار بين الإنسان والإنسان واجب بل أشدّ وجوبا. وما جئنا على ذكره لا يلغي مسؤولية العديد من السلطات العربية والأجهزة الأمنية العربية في الترويج لإسلام القتل والذبح والتجاوزات حتى تبررّ استمرار حالات الطوارئ، وتؤكّد أن إيديولوجيتها الإشتراكية أو البعثية أو الليبيرالية هيّ أولى بالاتبّاع من الإسلام الحضاري الذي ظلمه بنوه الذين حولوه إلى دكّان للارتزاق، ومصيبة الإسلام في واقعنا الراهن أنّه أبتلي بقلة الرجال الذين يرتقون إلى مستوى حضاريته، ولا يمكن للإسلام أن ينزل إلى مستوانا المنحّط، فإمّا أن نرتفع إلى مستواه فنعزّ ونرتفع، أو نبقى في الحضيض مع إسلام من صناعة أوهامنا وساعتها ماذا سنقول لرسول الإسلام - ص- عندما يسأل يوم القيامة قائلا: أمتي، أمتي!!