عبد السلام يخلف الكلمة التي يجب أن تقال في حق قسنطينة أنها كانت تقدم الفنون وجبة دافئة في الوقت الذي بدأت فيه العشرية السوداء بكل تفاصيلها المفجعة التي دفعت فنانا مثل عمار علالوش إلى مغادرة الجزائر والاستقرار في تونس على مرمى حجر من الربوع التي أحبَّ والشوارع التي عهد والأصدقاء الذين اطمأن إليهم. قبل أن يغادر الجزائر تعرفنا على بعضنا في عالم الفنون بحيث كنت صحفيا وكان فنانا يرتاد قاعة ايسياخم بوسط مدينة قسنطينة التي كانت آنذاك تعج بالفنانين بفضل المعارض المتتالية التي كانت تزرع الروح في المدينة من قلبها في باب الواد. بمناسبة المعرض الذي أقامته دار الثقافة محمد العيد الخليفة بقيادة مديرها محمد روابح للفنان النحات الراحل أحمد عكريش في أفريل 1993 التقيت الفنان عمار علالوش وتحادثنا كثيرا حول الفن باعتبار أنه يعرف عكريش جيدا بحكم مناصب المسؤولية الكثيرة التي تقلدها. في معرض حديثنا عن فن عكريش قلت له: «لقد رحل لكن أعماله ما زالت تواصل الحياة كأننا حين نموت فمن أجل الحياة»، فرد دّا عمار قائلا: «حين نتحدث عن الموت فإننا نحاول جعل الحياة مقبولة كما هي، أن نتحمل مسؤولياتنا كأفراد وكفانين لتهوين الذي يحدث كي يصبح التواجد على الأرض ممكنا. تصبح الأرض أحيانا مكانا منفرا بسبب السلوكيات والمقاربات السلبية للبشر فيتدخل الفن كي يصحح بعض الإعوجاج ومظاهر القبح ومثل شعاع الضوء يلفت الأنظار نحو عالم جميل عامر بالألوان والمعنى». دعاني إلى زيارة مرسمه بحي واد الحد /مكانا ساخنا آنذاك/ وكان ذلك في 21 أفريل 1993 واصطحبنا محمد روابح والداوداس. في السيارة طلعت موسيقى أغنية «كل دا كان ليه» لمحمد عبد الوهاب من شريط الكاسيت وراح دا عمار يدندن معها بكل عفوية ثم قال كلماتها بشكل شجي. حين دخلنا المرسم وجدنا عالم الفنان وعشه الذي يأوي إليه حين الضوضاء وصراخ الأطفال في الحي الشعبي ونداء الوحدة التي لم تكن رفيق سوء أبدا للمبدعين. اللوحات في كل مكان، بقايا الأصباغ من كل الأحجام والألوان، رفوف للكتب، قصاصات الجرائد، صور وأوراق كثيرة موزعة بشكل فوضوي لكنه يعرف مضمون كل واحدة وتاريخ دخولها هذا المكان. قبل أن يتحدث عن الفن وعن تجربته ويرينا اللوحات القديمة، أخذ نايًا وراح يسمعنا بعض الألحان الشجية. كنت أسترق النظر للوحات من حين لآخر مصغيا للحن الذي يطلع دافئا ليكمل صورة فنان يحب فريد الأطرش وفيروز ومحمد عبد الوهاب وعيسى الجرموني وخليفي أحمد: كأنه يحنّ إلى طفولته بالميلية، لتلك الوهاد والبراري التي كان يتبع فيها الرعاة وهم يأخذون قطعانهم إلى المروج المستلقية بين الجبال العالية. حين ينهي العزف ويتأكد من أن أرواحنا خرجت سالمة من سفر تلك الألحان العميقة، يبدأ الحديث عن الفن ويقفز من حكاية لأخرى. يتقن جدا فن الحكي ويتلاعب باللغة الفرنسية حتى أنه يغيض أصحابها الأصليين. بدأ من البدايات الأولى: أخرج ألبومات أربع بها رسومات بالصمغ وهو نوع من الحبر البني الذي يصنع يدويا من الصوف المحروقة وبعض الزيوت. رسومات لعالم صوفي (ليس الصوف بل الصوفية) لنوافذ الزوايا والمساجد والمصاحف والحروف الأبجدية في عالم ذي مستويين، الأول هو الموضوع أما الخلفية فهي نوع من الخيال المرسوم بألوان مائية مموهة تتلاشى شيئا فشيئا ولا تترك سوى الإحساس بالرهبة والعمق وكأنها الرداء المقدس الذي يطوق الصحائف والكل اليومي الذي يحياه الإنسان كأنه خرافة أو بعض ذاك العبور الذي دون بوصلة. يحدثنا عن قراءة الكتاتيب حين كان في قريته ينحت بعض حجر الصيصال كي يمسح لوحته الخشبية ويكتب آيات من الذكر الحكيم. هو فنان متكامل يمارس الرسم بكل أنواعه، بقلم الرصاص، بالألوان الجافة، بالماء، بالزيت وكذا النحت. فوق إحدى الطاولات وتحتها مجموعة من المنحوتات الصخرية والبرونزية والرخامية التي تبدأ بالطين ثم يدخلها الفرن الموجود في رواق المرسم. التقطتُ صورة لمنحوتة برونزية صغيرة شدت انتباهي كلية لشيخ يجلس فوق كرسي وهو مطأطأ الرأس، يداه ملويتان أمامه، تجاعيده كثيرة وحزنه وافر وقد لفته خيوط العنكبوت. كان حينها الصمت. رأيت الرسومات الكثيرة التي تقول أن للرجل مسيرة حافلة خلفه من التجارب والتمارين التي يقوم بها في كل الأوقات. يقول: «أنت لا تستطيع أن ترسم لوحة ما لم تتمرن طويلا وترسم الأشكال كثيرا وخاصة جسم الإنسان والأشكال الهندسية كي تتعرف على الأبعاد والأحجام وتقبل على توزيعها داخل الحيز الفيزيائي الذي تمثله اللوحة. أنت تختصر العالم في جملة من الأشياء الصغيرة تماما كما تمتلك بيتا فوق الكرة الأرضية. البيت مجرد تمثيل وعينة للعالم الكبير وكذلك اللوحة التي يجب أن تحمل فكرة محددة أو إحساسا بشأن إنساني أو لمسة تمنحك الطمأنينة». حين يتحدث دّا عمار عن الفن فأنت لا تمتلك سوى الإنصات والتمتع لأنه يقدم خطابه في شكل جاد وساخر في آن وبه الكثير من النكت والطرائف عن الأشخاص والأحداث. تجربته كبيرة وتتيح له اللعب على اللغة والحكايات. غادرنا المرسم من حي واد الحد وتركنا خلفنا الشيخ وهو ينزل من كرسيه كي يتجول بين اللوحات ويطرح على نفسه الأسئلة التي لن يجيب عنها أحد لأن لغتها صامتة لا تسمع بالأذن بل بالحاسة العاشرة التي تقرأ اللون وتعرجات المادة وتوازن الأشكال وتوزيع الأحجام في حيز صغير يبدأ بالأبيض المخيف الفارغ ثم يتحول إلى حكاية مكتملة الملامح ومتاهة يفك طلاسمها العارفون. في الجلسة الثانية يوم 28 أفريل 1993/ اتذكر التواريخ لأنها مكتوبة في كراس للصور/ كان معنا الفنان العصامي محمد الصالح غميرد (الرحمة لروحه) الذي لم يبخل عليه دا عمار بالمساعدة بالأدوات والتوجيه. كالعادة، كان دا عمار وفيا لطقوسه: أخذ الناي وراح يعزف الألحان التي يحسن اللعب بها ومدّها أجنحة كي تحلق في المرسم وتقاسم شجنها مع أرواحنا الهائمة في عوالم عامرة بالأشكال ومتدفقة بالألوان. يتوقف عن العزف، يجلس فوق كرسيه ثم يقول: «الفن مثل الشمعة وأنا أريد أن اشعل شمعتي كي اشارك في طرد العتمة من هذا العالم المظلم الظالم. أريد أن أنير روح الإنسان الذي أرسمه وأظل أرسمه حتى يستفيق من كابوسه». يؤشر عليّ بيده أن أجلس. يضع أمام مرسمه الأدوات طالبا مني ألا أتحرك كثيرا. يبدأ في رسم وجهي نقطة نقطة، ضوءا ضوءا، لونا لونا وهو يتحدث عن الفن والفنانين. أسأله: «لقد عملتَ في نفس المناخ تقريبا الذي عمل فيه ايسياخم وخدة ومسلي ومارتيناز...من هو الأقرب إليك؟» قال: «أنا الأقرب إليهم جميعا. لا أريد أن أكون أحدهم لأنني وددت دائما أن أكون ذاتي لهذا جاءت أدواتي مغايرة ولوحاتي لها طعمها الخاص». أرى لوحاته الكثيرة التي في المرسم، العشرات، المئات المخبأة في الخزائن من دون إطارات، فوق الكرتون، فوق رقائق الخشب، فوق ورق الكونصون تحمل مواضيع مركبة من ألوان غير متنافرة ومن أشكال متوازنة بطريقة ما كأنها معلقة على خلفية ثابتة لا تتحرك هي التي تمنعها من السقوط. الوجوه والأيدي والأدرع المتشابكة والرموز التي عبرت الزمن من هلال وخلالة وأوشام بربرية. يقول: «نرسم الفن لكن يبدو أن العالم يتوجه نحو جعل الفن سلعة وبالتالي كل ما هو مرتفع الثمن فهو جميل وأنا أقول أن الفن هو الفن بعيدا عن البضاعة والتسويق». يتوقف قليلا، يركز ناظره على وجهي ثم يواصل: «أنا دائما أقول وأكرر أنني بقدر ما أود رسم لوحات تشبهنا بقدر ما أنادي بفن جديد يبدأ من الحداثة ثم يمر إلى العالمية». يبدأ رسمته دائما من وجه الإنسان وشكله الخارجي ويحوله إلى لغة تشكيلية معقدة تنهل من جذورنا التراثية المحلية والمغاربية وتتوجه بخطابها إلى كل الثقافات لأنها تستطيع ان تحوّل العالم الصغير الذي في اللوحة إلى أسطورة يفهمها الجميع في كل الثقافات. هذه هي قدرة الفنان على التعاطي مع المكونات التشكيلية والهندسية والبنائية للوحة الفنية. يقول دا عمار: «أستطيع أن أغمض عيني وأرسم من الذاكرة قطعة من الآنية الفخارية التي كانت تصنعها أمي في قريتنا وأضيف إليها وحدات من الفن المعاصر فتأتي النتيجة متناسقة وتتكلم لغة واحدة لا يخطئ في قراءتها أحد رغم أنها خليط من العينات هذا لأن الثقافة الإنسانية واحدة عاشت بالتراكمات والانتقال من مكان لآخر دون أن تحتاج إلى جواز سفر». يتراجع قليلا ثم يطلب مني أن أتقدم كي أرى وجهي: وجهي الذي بموسى الفنان علالوش في ظرف عشرين دقيقة. لم يلمس قلما أو ريشة. إنها براعة العارف وكأنه أراد أن يريني براعته ويسكت أولئك المتقولين في قاعة ايسياخم الذين ينتقدون الجميع دون أن يبينوا قدراتهم. أهداني اللوحة وجلسنا في المرسم نتحادث ليس في شيء غير الفنون. يقول: «ينقسم جمهور الفن إلى نوعين: أما غير العارف باللغة التشكيلية فأحاول أن أمنحه فرصة لدخول عالم الرسم وتذوق اللوحة من خلال وجه الإنسان، فهو يعرف الرجل من المرأة من الطفل وأحاول أن اضع الشخص المرسوم في محيط تبدو بعض تفاصيله واضحة كالباب أو النافذة أو الزربية أو المسجد فأمنح القارئ فرصة التعرف على الأشياء التي في مخيلته وبالتالي تتمكن اللوحة من استدراجه شيئا فشيئا كي لا يضيع. أما النوع الثاني وهو النوع العارف بالفنون ولغة الألوان والأشكال فأحاول أن اقدم له مادة ترقى إلى ذوقه وقدراته في التعامل مع البنية والتوازن والمادة التي تملأ المساحة البيضاء وهكذا يجد القارئ نفسه أمام متاهة يستلذ الضياع بداخلها كي يحاور تفاصيلها ويفاوض خيوطها طالبا الخروج السالم السعيد». يضيف: «أنا لا أقيد نفسي في مقاربة واحدة بل أختار ما أراه صالحا في لحظة معينة ما دام البعد الأخلاقي في الفن هو الذي سوف يفوز في النهاية». أرى أنه بقدر ما يعيد رسم الشكل البشري فإنه يبتعد دائما عن المنظور الأوروبي وخاصة التجريدي منه كي يجمع بين التجريدي ونصف التشخيصي ويخلق عالما خاصا به. الشكل الهندسي في لوحاته هو نوع من السحر الذي ينتقل من الواقع ومن المادة دون أن يعيد إنتاجها ويسمح بالتجول في الزمن والقفز من مرحلة إلى أخرى لأنه غير خاضع لناموس الزمن. الشكل الهندسي وحدة مقدسة ونشيد مترف يستمع جيدا لأنات الروح وبوصلة الذات البشرية. التجريدي بالنسبة إليه حلبة كبرى حيث يصارع البشري ويصرع الوحدة والقلق ويدفع حزنه للتدلي من هاوية لا تقود إلى وجهة آمنة. حتى أنه بعد مرور السنوات اصبحت لوحاته ذات ملامح معروفة وبلغ القمة من خلال دخوله مجلة «لاكوط ديزار» (La côte des arts) التي بها تتحدد القيمة المالية الدنيا للوحة معينة لفنان بعينه. تمر السنوات على دا عمار وقد انتقل إلى تونس فارا من الهمجية التي تقتل الفن والثقافة والكتابة والذكاء وتأتي على كل شيء به جمال. لم ينقطع أبدا عن الإبداع وعن خلق آفاق للتعاون بين الفنانين سواء في تونسوالجزائر أو في حوض البحر الأبيض المتوسط تلك المساحة التي أراد أن يجعلها حوضا للأمن والسلم «جماعة أمنية» كما يقال في العلاقات الدولية وهذا انطلاقا من مضامين لوحاته وخطابه التشكيلي وكذا عناوين المعارض التي يقيمها هنا وهناك مثل «نشيد الحياة والتسامح». يشرح ذلك بفكرة العولمة التي أنقصت من مبدأ السيادة ولم تعد الدول قادرة على ضمان أمنها بالطريقة التقليدية لأن الأمن لم يبق عسكريا فقط بل مس الثقافة والهوية. يقول: «يشهد العالم اليوم نوعا من البربرية المعاصرة وكل البشاعات الممكنة من حروب أهلية وتصفية عرقية وتنامي الأصوليات والعنصرية من كل الأنواع وزيادة أشكال الحقد والكراهية سواء في الخطاب أو الفعل لهذا وجب علينا كفنانين ليس الوقوف في وجه العولمة بل خلق حوار بناء مع الشعوب الأخرى كي نتمكن من تجاوز المحن لأن الحروب والمآسي تكاد تكون هي السائدة. آن الأوان للفن كي يصنع السلم ما دام السياسيون قد عجزوا عن ذلك لأن الفن ليس بذخا ساذجا يسكن في اللغة أو في المقاربات والمدارس الفنية بل بتحويل كل هذا إلى عمل إيجابي يخدم الإنسانية». انتقل العنف إلى تونس فعاد دا عمار إلى الجزائر ثم بقي متأرجحا يجعل من فنه قاربا للنجاة يحمل روح بلدان المغرب العربي وتقاليدها إلى العالمية من خلال الحوار مع الشعوب الأخرى. لم يستهن بالتكنولوجيا ووسائط التواصل الاجتماعي، فجعل من صفحته على فايسبوك حيزا للحديث عن الفنون التشكيلية وطرح الإشكاليات التي تستحق النقاش ونشر لوحاته وبعض صور الذكريات التي جمعته بالفنانين في كل مكان. هو يعرف أن الفن وجد لاستدراج فئة قليلة من الناس، نخبة تعرف هذا المجال وخبرت خفاياه لكنه يبتسم كلما تذكر الجملة التي قلتها في حقه ووضعها في كاتالوج أحد معارضه التي قام بها في تونس: «لا يموت الفنانون لأن بداخلهم ينام ظل الأنبياء». أتمنى أن يتحقق حلمه الأخير: فتح القاعة التي استلمتها «جمعية التشكيليين الجزائريين التي كان يرأسها» وتسميتها باسمه وإقامة معرض كبير له يكون فاتحة خير على المدينة وحفاظا على الكنز الفني الذي تركه لمحبيه. * الفنان التشكيلي جمال لعروق يعد الأب الروحي للتشكيليين الجزائريين و أعماله ظاهرة فنية الفنان التشكيلي جمال لعروق، أستاذ بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالعاصمة، يعد من الأصدقاء المقربين جدا للراحل، بالرغم من فارق السن بينهما الذي تجاوز 26 سنة، كما قال للنصر، معربا عن ألمه و حسرته لفقدانه. و أكد المتحدث بأن علالوش كان بمثابة الأب و الأخ و الصديق، الذي ظل على اتصال دائم معه، معتبرا فنه و أعماله بمثابة «ظاهرة العصر»، و هو بمثابة الأب الروحي للفنانين التشكيليين الجزائريين، نظرا لامتلاكه روحا إبداعية خارقة، ما دفعه لاختيار أعماله لتكون موضوع أطروحة الدكتوراه التي يعدها. و أردف «آخر لقاء جمعني به كان في العاصمة، بمناسبة اليوم الوطني للفنان ، بعد أن اقترحت باعتباري رئيس لجنة مشاهدة الأفلام السينمائية في وزارة الثقافة، تكريمه على المديرة المركزية المكلفة بالتنظيم جميلة زغاي، بحضور جمال فوغالي الذي دعم الاقتراح، و قمت باستقباله عند قدومه للعاصمة ، و قضينا بعض الوقت مع بعضنا و تحدثنا في أمور عدة، و طلب مني قبل حفل التكريم بساعة، التحدث إلى وزيرة الثقافة، فكان له ذلك». و تابع الأستاذ لعروق» رحيل عمي عمار خسارة كبيرة للبلاد و للفن و الثقافة، كنت مقربا جدا منه، فأنا بمثابة أخ و أب و صديق للفقيد نتواصل بشكل يومي، و نتحدث في شتى المجالات، عرفته سنة 1983 و بقينا على اتصال»، مشيرا إلى أن فارق السن بينهما لم يؤثر قط على صداقتهما. و وصفه بأنه إنسان اجتماعي يتمتع بروح الشباب و الدعابة، متسامح إلى أبعد حد، و يتميز بمستوى ثقافي عال، و أبدع لوحات مبهرة، فهو فنان و ناقد في نفس الوقت، يتمتع بإحساس و ذوق رفيعين، و يمتلك رؤية فلسفية في مجال الفن، ما جعله يختار إبداعاته لتكون موضوع أطروحة الدكتورة التي يعدها، و لم يبخل يوما في توجيهه، و تقديم رؤيته للفن . و اعترف المتحدث بأنه لم يتمكن من تصنيف أعمال علالوش في مجال فني معين، سواء كفن تعبيري أو تجريدي، و ذلك راجع لمواكبته للعصر و لكل التطورات، فهو نحات و فنان تشكيلي يجمع صفات الفنان المتكامل، و رغم تقدمه في السن، إلا أنه ظلا شغوفا بالفن و طموحا، و جل حديثه منصبا على مشاريعه المستقبلية، مؤكدا « أعطاني عمي عمار نفسا جديدا و غير رؤيتي للحياة» ، موضحا بأن مرضه لم يؤثر عليه، و لم يحبط معنوياته ، فظل متفائلا إلى آخر يوم في عمره. بلغ وصيته في اليوم الوطني للفنان الراحل و قبل لقائه بوزيرة الثقافة، التقى كاتب الدولة مكلف بالإنتاج الثقافي سليم دادة آنذاك، و تحدثا عن أعماله العالقة في تونس، و اتفقا على استرجاع أعماله، و بعد ذلك استقبلته وزيرة الثقافة و أهداها « كاتالوغا» يضم أعماله، و طرح عليها أيضا المشكل الذي ظل يؤرقه و هو استرجاع أعماله الموجودة بتونس، فوعدته بأنها ستتكفل بذلك بعد التكريم». و عند تكريمه، أكد الفقيد بأنه لم يحضر من أجل تلقي هدية و إنما لتبليغ رسالة للفنانين، فتحدث عن الفراغ الموجود في الساحة الفنية بخطاب فلسفي مؤثر، داعيا إلى وضع قانون يحمي الفنان، مشيرا إلى أنه قضى عمره في الفن و يحلم بأن يجد الجيل الصاعد من الشباب بيئة مناسبة لإبراز إبداعاتهم. و أضاف الأستاذ لعروق» عمي عمار أوصاني باعتباري عضوا في لجنة قانون الفنان، بأن أسعى لحماية هذه النخبة من المجتمع»، و استغل حضوره حفل التكريم، لتقديم توجيهاته لطالبة عرضت لوحة فنية، حيث نصحها بالتخصص في المنمنمات، بدل الرسم. و آخر حديث للراحل مع الأستاذ جمال لعروق ، كان حول تحضيره حصة إذاعية عبر أمواج إذاعة سيرتا، مدتها ساعة و نصف، لدعوة المستمعين إلى رحلة عبر محطات مساره الفني الطويل، و تحليل مضمون لوحاته من سنوات الثمانينات إلى آخر أعماله، من قبل عدد من الفنانين المختصين، و من بين الضيوف الذين اقترحهم، الأستاذ جمال لعروق، هاشمي عامر من مستغانم و كذا الناقد علي حاج طاهر. أسماء ب. * التشكيلي علي دعاس الفقيد هو الفنان المحترف الوحيد الذي عاش من فنه قال التشكيلي علي دعاس للنصر، أن الفقيد قامة فنية كبيرة، و اعتبره الفنان الوحيد المحترف الذي قدم الكثير للساحة الفنية. و أضاف «إنه فنان مخضرم عايش أهم المراحل التي مرت بها البلاد، منذ الثورة المجيدة و فترة الاستقلال، و أحداث أكتوبر سنة 1988 ، و كذا العشرية السوداء و الحراك الشعبي، و هي مراحل انعكست على إبداعاته، و تعكس شخصيته، و بصمته المميزة ، و اعتبره التشكيلي الوحيد المحترف الذي عاش من فنه، و لم يعتمد على مصدر آخر للاسترزاق». و أشار إلى أنه كان يتمتع بروح مرحة، أضفى جوا خاصا على كل لقاء حضره، و ظل لآخر سنوات عمره شابا، في جسد شخص متقدم في السن، بطموحه الكبير، كما كان معروفا بحبه للسفر إلى بلدان أوروبا الشرقية، خاصة يوغسلافيا سابقا، و لا يزال المتحدث يحتفظ بلوحة فنية و مجلة تعود إلى سنة 1969 كانت تطبع بكلية الشعب، ساهم فيها عديد الكتاب و الفنانين، من بينهم الفقيد. أسماء ب. * الفنان التشكيلي ناصر بن ميسي علالوش احتك بكبار الفنانين أمثال خدة و إيسياخم و تأثر بإبداعاتهم أعرب أستاذ الرسم الزيتي و الفنان التشكيلي ناصر بن ميسي للنصر، عن حزنه على رحيل الفنان التشكيلي الكبير عمار علالوش، مؤكدا أن الساحة الثقافية فقدت فنانا من طينة الكبار، فقد عرفه كشخص و كفنان، لم يتأخر أو يغيب عن أي نشاط ثقافي احتضنته المدينة، و حرص على إيصال رسالته و نقل خبراته و تكريس عمره للريشة و الألوان، و تقديم مشاريع من شأنها أن ترتقي بالفن التشكيلي، متمنيا أن يحظى صديقه بتكريم السلطات المحلية، و ذلك بتحقيق حلمه المتمثل في تدشين الفضاء الثقافي الذي سعى لفتحه لاحتضان إبداعات التشكيليين، و إطلاق اسمه عليه، تخليدا لمسيرته الحافلة بالعطاء. الأستاذ ناصر بن ميسي قال بأنه التقى و للمرة الأولى بالفقيد، عندما التحق بمدرسة الفنون الجميلة كطالب سنة 1982، فوجد فيه الأستاذ الحريص على تلقين معارفه للطلبة و تكريس وقته و جهده من أجل توجيه أجيال من الفنانين، فكان يرافقهم في كل نشاط ثقافي ينظمونه، و يحضر كل معرض لإبداعاتهم، و لم يبخل عليهم بالنصائح و التوجيهات. و أضاف المتحدث أن الراحل الذي ترك بصمته في عالم الفنون، يعتبره من أصدقائه المقربين، و ظل على اتصال به من خلال الفضاء الأزرق، بعد تراجع فرص اللقاء المباشر، بسبب جائحة كورونا، مشيرا إلى أنه يتميز بروح الدعابة و الحيوية و النشاط، و لم يهزمه عامل التقدم في السن، فظل يتمتع بروح الشباب و لم يبتعد يوما عن الميدان الثقافي. و تابع الأستاذ بن ميسي، أن صديقه علالوش كان أيضا مفكرا له كتابات عدة سعى من خلالها لتقديم قراءات و إثراء الفن بمعارفه، و احتك بكبار الفنانين و تأثر بما خلدته أناملهم من إبداعات، أمثال محمد خدة و محمد إيسياخم، و ترك الفقيد خلفه رصيدا إبداعيا يشهد على ما قدمه للساحة الفنية، و ورشة تحكي تاريخ و مسار هذه القامة الفنية، فقد كانت الفضاء الشخصي للراحل، يسافر من خلالها إلى عوالم عدة بريشته و ألوانه، كما أنها بمثابة معرض دائم لأعماله. المتحدث يتوجه عبر النصر، بنداء إلى رئيس المجلس الشعبي البلدي لبلدية قسنطينة، من أجل فتح فضاء الفنانين التشكيليين بقلب قسنطينة، لتحقيق أمنية الراحل علالوش التي سعى جاهدا لتجسيد المشروع من أجل لم شمل التشكيليين و تضييق الهوة ، الناجمة عن غياب فرص التواصل، بينهم، و إقامة معارض لأعمالهم، و كذا لتنظيم موائد مستديرة و محاضرات للارتقاء بهذا الفن، و يقترح بن ميسي أن يحمل هذا الصرح اسم الفقيد، تخليدا لاسمه و لمساره الحافل بالإبداعات و التتويجات، مع تدشين اليوم الأول لافتتاحه بمعرض للوحاته. أسماء ب. * الفنان التشكيلي محمد فرماس ساهم في ترسيخ ثقافة فنية غريبة عن الجزائريين قال الفنان التشكيلي محمد فرماس للنصر، أن فقيد الساحة الفنية و الثقافية عمار علالوش، ساهم في إثراء مجال الفن التشكيلي الذي كان يعتبر غريبا على بلادنا كمفهوم و تصور و سلوك، و تمكن من وضع لبنة متينة لأجيال متعاقبة من الفنانين، متمنيا أن تستفيد هذه الأجيال من لمسته و طريقة تعامله مع اللوحة. و أضاف « كنا نقضي وقتا ممتعا في ورشته، التي كان يعتبرها فضاء لإبداعاته و لم شمل محبيه و الفنانين عموما، و كان يحب أن نشاركه لوحاته، و يسمح لنا بوضع لمستنا عليها، ليمنحنا الثقة و يحفزنا». و أكد بأنه كان يطمح للم شمل الشباب، متمنيا أن يستفيدوا من لمسته و طريقته تعامله مع اللوحة، و يتناقلون خبراته، لنتمكن من وضع طابع فني خاص ببلادنا». و أشار المتحدث إلى أن الفقيد كان يدعم كل طلبة الفنون الجميلة في الثمانينات، مؤكدا « كان يتعامل مع كل الفنانين و لم يبخل عليهم بالنصائح و التوجيهات، و كان يعتبر الأسرة الفنية عائلته الأولى..كان يحبني و كان قريبا مني، بحكم انحدارنا من نفس المنطقة بولاية جيجل». فقيد الساحة الفنية كان دائم الحضور و المساهمة في المحاضرات، كما قال محمد فرماس، مشيرا إلى أنه حضر معرضا خاصا بأعماله بالمركز الثقافي الفرنسي، و لاحظ أنه كان يحب أن يسمع رأي الجميع في لوحاته و يحرص على معرفة انطباعهم الأول عند رؤيتها. «عندما سألني عن رأيي قلت له بصراحة، بأنه تمكن أخيرا من التخلص من آثار الحقبة الاستعمارية في أعماله، فعلق « أنت الوحيد الذي قدمت لي رأيا جيدا»، ذكر المتحدث. و اعتبر علالوش من الذين باشروا مغامرة الفن التشكيلي عندما كان غريبا عنا، كمفهوم و تصور و سلوك، و تمكن من إثراء مجال الفن التشكيلي و وضع لبنة لتأسيسه في الجزائر، ليستفيد منه الجيل الحالي و الأجيال القادمة، مؤكدا بأنه تعلم أشياء كثيرة منه. و أضاف أن الفنان الذي فقدته الأسرة الثقافية، استقر في تونس، و حقق مبيعات معتبرة للوحاته هناك، و من بين أشهر الشخصيات التي كانت تحرص على اقتناء إبداعاته، الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.