الخطاب النقدي العربي ظلّ يغرف وينهل من النقد الغربي ومن مدارسه ومصطلحاته وتجاربه. كما ظلت إشكالية هيمنة المناهج النقدية الغربية على الخطاب النقدي العربي حاضرة في الحقل النقدي طارحةً فكرة التبعية والاِتكال. فإلى أي حد هذه الفكرة ذات أسئلة مشروعة؟ وإلى أي حد اِستوعب واستفاد النقد العربي من النقد الغربي ومن مناهجه ومصطلحاته؟ ولماذا لم يخلق تجاربه النقدية ومناهجه ومصطلحاته الخاصة؟ أيضا هل يمكن القول أنّ الناقد العربي في كلّ تجاربه لم يخلق الفضاء الخاص به وبمناخه العربي. وظلّ تابعًا للمدارس/والتجارب النقدية الغربية، ومقيدا بالحركة الغربية. حول هذا الشأن «خطاب النقد العربي وهيمنة المناهج والمدارس النقدية الغربية»، كان ملف «كراس الثّقافة» لهذا العدد، مع مجموعة من النقاد. إستطلاع/ نوّارة لحرش - قلولي بن ساعد: «الاِقتراض النقدي» حتمية مؤقتة و «مديونية المعنى» تبقى قائمة ينبغي أن يكون واضحًا بأنّنا لا نملك مدرسة نقدية عربية في العالم العربي. وأنّنا مجبرون على (الاِقتراض النقدي) حين نتوجه إلى المدارس النقدية الغربية والأوربية على وجه الخصوص لنأخذ منها ما نراه مُناسبًا من مناهج النقد والتحليل بأدواتها المنهجية والإجرائية. على أن يكون ضمن خطة مدروسة تأخذ بعين الاِعتبار على الصعيد التطبيقي خصوصية النص الإبداعي العربي بمكوناته الثقافيّة والهوياتيّة والإنتمائيّة، الخصوصيات التي تتطلب من الناقد العربي اِختبار جهوزية منهج نقدي مرن لا يفرض عنفه الإبستمولوجي على وعي القارئ/الناقد، ولا يلغي المكون الذاتي في الكتابة النقدية، كما حدث مع البنيوية، والمناهج النسقية المغلقة التي بشرت بموت الإنسان وألغت القارئ من جدول أعمالها. لكونها تعاملت مع النّص المقروء بوصفه بنية مغلقة على ما عداها من السياقات الثّقافيّة والتاريخيّة، سياقات تشكل النص الإبداعي العربي والأُطر المرجعية الناظمة لمضمار اِنبثاقه أو أرضنته. هذا ما يضع الناقد أمام محك نسبية كلّ منهج مهما اِدعى الموضوعية أو الرّوح العلميّة، واِنطلاقًا من هذا الوعي المتقدم المُتحرّر نسبيًّا من سطوّة المركز أو اللوغوس المنهجي الراعي الرسمي لفلسفة الوفاء للمنهج لا للنص بِمَا يستجيب لدواعي الولاء النقدي «لنظام الخطاب» في أصوله المركزية أسوةً بِمَا فعله إدوارد سعيد عندما حذّر من «تيه النّصيّة» والمناهج الشكلانية التي قيّدت المعنى ومارست على القارئ إكراهًا، هو الإكراه النّظري، ولم تسمح له بزحزحة الوعي المركزي باِتجاه ما سماه ميشيل فوكو «اِقتسام الفهم» ضمن لعبة هي أشبه «باِستبداد النموذج الغربي»، كما وقف عليه الناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم في كِتابه المُهِم «الثّقافة العربيّة والمرجعيّات المُستعارة». عندما خصّص جزءاً من كتابه هذا لتجربة نقدية، هي تجربة الدكتور سعيد يقطين، من خلال بعض كُتبه ودراساته، خاصةً المُتعلقة منها بالنّظريّة السّرديّة، واصفًا السعيد يقطين بأنّه كان أسير المدرسة الفرنسية وواقعًا تحت سلطة النموذج الغربي. وللخروج من هذا المأزق الإشكالي، هناك بعض الحلول المُقترحة من لدن عدد من النُقاد سواء على صعيد «الاِقتراض النّظري» أو على صعيد ترجمة الإرث النّظري والإبستيمي الّذي يُؤطر نشأة النظريّة في فضاءٍ ثقافيٍّ مُغاير للفضاء الثّقافيّ العربيّ كالدكتور يوسف وغليسي الّذي يقترح عند ترجمة النّظريّة والمصطلح معًا ما يُسميه «حق الاِقتراض وهاجس العوربة» من خلال إحلال مفهوم التعريب محل عمل الترجمة في اِنتظار هَبّة حضّاريّة أو خطة تنمويّة تضع هاجس التّنميّة اللغويّة كما يرى ضمن جدول أعمالها. بينما يقترح المُفكر المغربي محمّد عابد الجابري، مفهومًا آخر، هو «التبيئة»، تبيئة المفهوم للحد مِمَّا وصفه عبد الوهاب المسيري «إمبريّاليّة المقولات»، وحتّى هذه التبيئة فينبغي أن تتم بنوعٍ من «التعديل»، بمفهوم الناقدة الهندية ما بعد الكولونيالية غياتري سبيفاك. التعديل الّذي لا يتجاوز حدود ما يُسميه الجابري «تشويه الواقع أو الاِعتداء على الحقيقة العلميّة»، ويضرب لذلك الجابري مثلاً بحالة الماركسي السلفي عندما ينقل للمجتمع العربي مفاهيمًا وُضِعَتْ لِتُعَّبِر عن واقعٍ مُعيّن، ليس هو الواقع العربي في تركيبته وصيرورته، طالما أنّ التبيئة تعني في منظور الجابري «ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطًا عضويًا، وذلك ببناء مرجعية له فيه تمنحه المشروعية والسلطة». وليس غريبًا أن يلجأ الدكتور عُمر كوش إلى اِقتراح مفهومٍ آخر هو «الأقلمة» في كتابه «أقلمة المفاهيم: تحوّلات المفهوم في اِرتحاله»، وهو مفهومٌ لا يختلف كثيراً من النّاحية الإجرائية عن مفهوم «التبيئة» الّذي اِقترحه الجابري. الحلول والمقترحات كثيرة، ولا يمكن التعرض لها جميعًا، غير أنّها مع ذلك تبقى حلولاً جزئية ليس في اِستطاعتها حل إشكاليّة «مديونية المعنى» بتعبير السوسيولوجي ميشال غوشيه، أو تجاوز البُعد القائم في ما سماه المفكر المغربي عبد الله العروي «قياس المسافة التاريخيّة والحضّاريّة بين فضائي النشأة والاِستقبال»، فضاء نشأة النّظريّة في مهدها الغربي واِنتقالها إلى فضاءٍ آخر هو الفضاء العالم الثالثي وهي مسافة بالطبع حضارية وليست تاريخية فقط. بالنظر لحداثة تجربة الكتابة النقدية العربية وتعثر مشاريع الترجمة والبحث العلمي والتذبذب الحاصل على صعيد مشروعات النهضة العربية التي لم تتمكن من العثور على الوصفة المُلائمة لحل أصناف التخلف الأربعة التي تعرض لها المُفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي وهي: «الاِقتصاديّ والثّقافيّ والسّياسيّ والتربويّ». - محمّد الأمين بحري: الناقد العربي اِستفاد من معاملة النص من وجهة النظر الغربية يُفترض في عصرنا الراهن أنّ عُقدة المصادر جهوية الأدب والنقد قد زالت، وتلاشت. وتجاوزها الزمن. لأنّ سؤال موطن الفن والأدب والعِلم والنقد، هو سؤالٌ إيديولوجي يتعارض مع الرّوح العالمية للفنون والعلوم، ففنون الكتابة مثل الرواية والشِّعر تمثلُ وجوداً فنياً. مهما كان موطنها. فهي تدرس لذاتها ومن أجل ذاتها ولا علاقة لبلدها بالأمر. وكذلك النقد هو وجودٌ معرفي للأدب مهما كان موطنه. وإنّما علينا أن نسأل عن جدواه وقيمته ودرجة عُمقه وقدرته على ملامسة المعالم الحيوية في النّص، وتفكيك أسئلته، هذا هو المهم والمفيد.. في عالم صارت فيه كلّ الفنون عابرة للذوات والبلدان والقارات والهويات، ولم يبقَ لبلد المنشأ والمولد أي اِعتبار في المُمارسة الأدبية أو النقدية. ولم تعد للأديب أو النُقاد عُقدة من أنّ هذا الفن من البلد الفلاني أو هذا المنهج من الفكر الفلاني، وإنّما العِبرة بالتمكن من هذه الصنعة، وهو ما يرفع من شأنها أو يَهوي بها في هاوية النسيان والتاريخ. أمّا إشكالية التبعية والاِستقلال، عن النقد الغربي مصطلحاً ومفهوماً، ومنهجاً، فأعتقد بأنّ الناقد العربي قد اِستفاد من معاملة النص من وجهة النظر الغربية، ويكفينا اِستفادة أن نرى الناقد العربي، يستنبط الإجراء المنهجي من النص، لا أن يُسقط المنهج على النص، مهما كان مصدره. وهنا يمكن أن تبزر لانهائية من المناهج والإجراءات نابعة من نصوصنا، لا من مصادر خارجها، وحين نقرأ هذه الطريقة المُحايثة، لدى عبد الله إبراهيم، أو عبد الفتاح كيليطو، أو محمّد مفتاح، وغيرهم كثير، نتأكد من أنّ مسألة التبعية المفاهيمية قد اِنتقلت من فضاءات التنظير والأدلجة، إلى التبعية للنص والإصغاء إلى وجيبه، كي يعطينا المنهج الأصلح والإجراء الأنسب والمصطلح الأكثر أصالة في دراسته ونقده. وهذه أفضل تبعية حصلت وتحصل بين الناقد العربي ومدونته النّصيّة والولّادة. لكن ما يقع من تزييف وتسطيح ومسخ للنقد الأدبي؛ نظريات وإجراءات ومناهج، يحدث في الجامعات في ما يُسمى بالنقد الأكاديمي الّذي بات خطراً على العملية النقدية بأسرها، حينما تم تحديد المذكرات الجامعية بعدد الصفحات، وكأنّ الدراسة بات تُعامل معاملة السلع والمعلبات التي لا يجب أن تتعدى المدون المكتوب على العلبة. دون مراعاة لطبيعة النص المدروس ونوعية منهج تحليله. وبالتالي تم اِختزال وتتفيه العملية بأسرها، في جملة إجراءات ونقاط منهجية جوفاء، لا علاقة لها بأصولها الفكرية والفلسفية ولا بمتغيراتها المرحلية، وتطوراتها الفنية بين مدرسة وأخرى، ومنظر وآخر. هذا دون أن ننسى بأنّ غاية النقد الأكاديمي من خلال كلّ ما يُوظفه من إجراءات، ليس الفن والأدب والإبداع بحد ذاته، وإنّما ينظر لدراسة الإبداع نفسه مجرّد وسيلة لنيل درجة أو رتبة علمية أو شهادة.. وحين لا يكون الإبداع هدفاً وحيداً ومركزاُ فريداً للعملية النقدية. تنتفي وظيفة الدراسة النقدية، هويةً واشتغالاً من الساحة. لكلّ هذه الاِعتبارات والمحاذير، يبقى النقد الأكاديمي عملاً غير ناضج، ولا مكتمل لأنّه درجة في سُلم دراسي، وحلقة في مسار أكاديمي. ولا يشتغل خالصاً للأدب ذاته ومن أجل ذاته، كما هي غاية الدراسة النقدية المحترفة غير المتعلقة بالشهادات ونيل الرتب العلمية. ومنتهى هذه الأخطار في نظري هو طبع المذكرات الأكاديمية التي تدرس الإبداع الأدبي كما هي. دون تحوير يُعدل غاياتها ووسائل اِشتغالها ويُعيد توجيه إجراءاتها التحليلية نحو النص باِعتباره محوراً فريداً لها. وهذا في اِعتقادي ما أضر حقاً بالنقد الأكاديمي وأبقاه قاصراً في زاوية الشهادة أو الدرجة التي يبتغي الباحث نيلها، بعيداً عن روح النص الأدبي. ومحاورته الثنائية. لأنّ النص في منظور النقد المحترف، لا ينتظر من الباحث تطبيق منهج خارجي عنه، بل ينتظر منه أن يستخرج منه المنهج الّذي سيصبح تجريباً يكسر السابق من القواعد، ويُجدّد سُلم القيم والتقييم الفني في الدراسات كما فعلت نصوص الشِّعريات والسرديات الكُبرى التي اِستنبط منها نُقادها مناهج ونظريات سارت لعقود في خدمة الأدب والأكاديميا. وعلينا ألاّ نصدق بأنّ نصوص اليوم قد عقمت، وإنّما النقد هو الّذي عقم ونضب. بفعل التكلس الأكاديمي الّذي شلَّ جميع أوصاله. وجمّدَ كلّ اِجتهاد مفترض بين النص والإجراء. - عبد القادر رابحي: الخطاب النقدي في صورته العربية سيظل خاضعًا لتصورات لم يبدعها بين ما أجْهَد الدكتور أحمد مطلوب نفسه وأفنى عمره في إحصائه وتبويبه وإرجاعه إلى أصوله النقدية والمفاهيمية في كتابيه «معجم المصطلحات البلاغية وتطورها» و»معجم النقد العربي القديم»، وما اجتهد فيه الدكتور عبد العزيز حمودة وهو يحاول أن يشرح الأبنية المُعْتدّة بأعمدة غيرها في ثلاثيته النقدية «المرايا المحدبة» و»المرايا المقعرة» و»الخروج من التيه» ويعيد أفكارها المضبّبة، نظراً لِمَا طَالَها من تشويه في الخطاب النقدي العربي، إلى أصولها الغربية، مسافةُ آلاف الفراسخ الفكرية الخاطئة والمُخطِّئة، وجبالٌ من الأسئلة العالقة في طريق الوعي بالذات المتمسكة بتلابيب الآخر الفكرية والفلسفية كما لو أنّ الآخر هو الحل في كلّ الحالات وليس هناك حلّ غيره. لقد حاول الأوّل، بجهد نقديّ لا يُضاهى، أن يُحصي ما اختلقه النُقاد العرب القُدامى من مصطلحات نقدية كانت وليدة بيئتها وظروفها وإبداعها لا يمكن لناقد راهن يطلع عليها اليوم أن يُصدق ما استطاعت العرب أن تختلقه في نقدها الّذي نُصرُّ اليوم على وصفه بالقديم، من تصورات منهجية لمعالجة النصوص الأدبية نقديًا، وما استطاعت أن تنحته من مصطلحات دونها ما زرعه ديكرو وكريستيفا وغيرهما في أرض الناقد العربي الراهن المتروكة بوراً مشرعة على الرّيح من كلّ جانب وعلى كلّ إيديولوجية، بينما حاول الثاني أن يضع أمام أعين الأجيال النقدية القادمة مقدار التهالك العربي على المناهج النقدية الغربية الّذي ميّز الحطاب النقدي العربي منذ بداية عصر النهضة، وخاصةً في فترة اِكتشاف النقد العربي لِمَا يمكن أن تحمله المناهج اللسانية والنصّانية من إمكانات تجاوز للعقد المنهجية التي راكمتها التصورات السياقية التي طغت على الخطاب النقدي العربي ووجهت مآلاته إلى وجهات إيديولوجية لم تساعد على نشر الوعي بالممارسة النقدية بوصفها فِعلاً ضروريًا لتطور ثقافة المجتمعات وطريقًا لخروجها من التخلف والأمية والجهل. لقد حاول أحمد مطلوب أن يُثبت إمكانية تحقيق اِكتفاء منهجيّ واصطلاحي مُتأصل من دون اِنغلاق أو شرود طالما شككت فيه التصورات التنويرية التي اتخذت القطيعة مع ذات سمة بارزة لبحثها عن حل لمعضلات التخلف وراحت تُشكك في هذه الإمكانية واستحالة تحقيقها في واقع يطبعه الجهل والاِستعمار وانعدام الوعي وغياب الحرية وانعدام المبادرة، بينما حاول عبد العزيز حمودة أن يُثبت أنّ مقدار التسارع الّذي سار به هؤلاء على اِنتهاج منهج الغير بدون وعي كاف وتمثل عميق لجديرٌ بتعميق الغربة النقدية التي عاشها ولا يزال يعيشها الخطاب النقدي العربي وهو ينهل بغير حدّ من المناهج الغربية بحجة ما تقتضيه ضرورة مسايرة العصر من دون طرح سؤال الخصوصية والذات والهوية. يُحيل ما اصْطُلح على تسميته بإشكالية المنهج وإشكالية المصطلح في المنظومة الثقافية العربية، بِمَا تحمله عمومًا من تخصصات في مختلف العلوم، إلى سؤال الذات مباشرة، وإلى دورها في صياغة جوهر اللحظة الوجودية التي تقطعها، كغيرها من الأمم، بِمَا يتوفر لها من ممكنات تفكير ولوازم فِعل. إذ لا يمكننا تصوّر مسار حياة أمة من الأمم من دون محددات وعوالم وإحداثيات توجه التصورات التي تتحكم في صيرورة أزمنتها الثقافيّة والوجودية. ولعله لم يعد مجديًا التذكير الملحّ، في كلّ مرّة، بِمَا تعانيه الثقافة العربية من أزمة بنيوية في ما يُشكل عضدها الفكري وسندها الوجودي في بناء هذه الصيرورة، ألاَ وهو فشلها الذريع في مواكبة العصر بِمَا يستلزمه من زاد منهجي واصطلاحي يعكس قدرتها على الإبداع والتجديد.لقد أصبح مجرّدُ طرح إشكالية هيمنة المناهج النقدية الغربية على الخطاب النقدي العربي مُمِلاًّ في العديد من أوجهه التي قُتلت بحثًا جراء تكرارها في الكثير من الملتقيات والمؤامرات والمؤلفات على مدى عشرات السنين، أي منذ بداية القرن العشرين وبداية تبلور سؤال النهضة والتخلف في عُمق الذات الثقافية العربية، بسبب إلحاحية الطرح وحِديّة الألم الناتج عن جرح اِكتشاف الذات المستعمرة الرابضة في الباحة الخلفية للتاريخ كما كانت تطبعه الأمم القوية بالبصمة الكولونيالية التي تعودت على تثبيت أيقوناتها في الأنساق الثقافية والإبداعية للشعوب المستعمَرة. كلّ ذلك، من دون أن يؤدي طرح هذه الإشكالية إلى بريق أمل يُمَكِّن من إيجاد حلّ منطقي عقلاني يُوقف ما تُعانيه الأنساق الثقافية للخطاب النقدي العربي من اِختراق من طرف المناهج الغربية، بِمَا تحمله من تصورات مفاهيمية ورؤى منهجية وتقانة إجرائية وعتاد اِصطلاحي. ذلك أنّ السؤال نفسه صار مُفخخًا في العديد من أوجهه هذه، وفي العديد من المقاربات التي حاولت أن تجد مخرجًا يتلاءم مع ما يُنتجه السؤال نفسه من مطبّات من خلْفِها مطبّات تحيل دائمًا، وفي كلّ الحالات، إلى سؤال الذات وعلاقتها بالآخر، وإلى ما يحمله العصر(الغربي بالضرورة) من إمكانات إبداع صارت تسير بسرعة رهيبة تحمل في كلّ مرّة رياح تجديد كفيلة برمي قناعات اللحظة الراهنة في أرشيف التاريخ المنسيّ، فما بالك بقناعات بدايات القرن العشرين بِمَا حمله من تصورات منهجية ومنظومات اِصطلاحية لا يزال الخطاب النقدي العربي يجترّ مصطلحاتها ويتخبط في إدراك بعض غوامضها المحيلة إلى قواعدها الفكرية والفلسفية التي لم تكن، في يوم من الأيّام، محلّ درس وفهم وشرح وتحليل من طرف المثقفين والمبدعين والنقاد العرب بصورة تُمكّنهم من تجاوز مناطق الحرَن المنهجي التي لا تزال تُسبِّبُها هذه المناهج داخل ما تراكم من كتابات لا تُحصى لا يزال يزخر بها الخطاب النقدي العربي إلى يومنا هذا. لكن لماذا فشل الخطاب النقدي العربي في إنتاج بصمته الفكرية ونسْغه المنهجي وجدارته الاِصطلاحية بعد مضي ما يُقارب القرن والربع قرن مِمّا سُميّ بعصر النهضة العربية؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا الفشل؟ وإلى أي حدّ يمكن إدراج الخصوصية الحضارية في صياغة تصوّر نقدي مُتحرّر من عوالق النقد الآخر والفِكر الآخر والمنهج الآخر؟ وهل للمناهج هوية أو هويات كامنة تُحرك آليات تجلي الخطاب النقدي في الواقع الإبداعي لأمة من الأمم أو حضارة من الحضارات؟ وإلى أي حدّ يمكن اِعتبار هذه الأسئلة المُلحّة في واقعنا النقدي المأزوم بسبب تأزم واقعنا الحضاري مُتَجَاوَزَةً بالنظر إلى الواقع الفكري والفلسفي في طبعته المُعولمة، والّذي لا يتوانى في الذهاب بأقصى سرعة ممكنة إلى الأقاصي الفكرية والفلسفية لأجل اِكتشاف ما يمكن أن يصير رؤية منهجية وشريعة اِصطلاحية في مستقبل الأيّام من دون أن ينتظر أحدا؟ لا يمكننا أن ننتظر إجابة شافية على هذه الأسئلة الإشكالية وعلى غيرها في هذه الورقة المقتضبة. ذلك أنّه بقدر ما يفرض الراهن، بِمَا يحمله من مستجدات فكرية وفلسفية، ضرورة الاِندراج السريع في قاطرته المُتجهة نحو المستقبل، بقدر ما تطرح الذات سؤال الوجود بوصفه تحققًا هوَوَيًا داخل المنظومة الشاملة لحركة التاريخ الثقافي. إذ لا يمكن أن تكون موجوداً داخل هذه القاطرة بهويّة غير التي تُحيل إلى وجودك كجزء لا يتجزأ من منظومة أشمل تتشكل من هويات متعدّدة أنت جزء فاعلٌ منها وفيها. وأنّ أي تصوّر لمشاركة فاعلة في سيمفونية الثقافة الكونية بآلة موسيقية ليست من صنعك ولا تجيد العزف عليها -وحتّى وإن أجدت العزف عليها- سيحيلُ بالضرورة إلى السؤال المطروح حول إشكالية المنهج والمصطلح في الخطاب النقدي الّذي تنتجه الذات بمواصفات لا تنطبق مع محدداتها ولا تنسجم مع العزف العام الّذي تطمح إلى تحقيقه سيمفونية الراهن المُقْتَرَحة على الشعوب المُستعْمرَة سابقًا كما يجب أن تحققه العولمة، لا كما يُراد لها تحقيقُه بمُسبَقاتٍ مصلحية، من خلال تعميم التصورات المنهجية والاِصطلاحية المُهيمنة على «المناطق النقدية» المعزولة، بتوجيه المعرفة النقدية وزراعة صورة القناع الإنساني في الأنساق الشاغرة لِمَا صار يُسمى بالثقافات المحلية. وطالما لم تجد المُساءلات الجوهرية التي تطرحها هذه الثقافات الموصوفة بالمحلية، في عالم تصنعه الثقافات المهيمنة بقوّة الواقع، إجاباتٍ حقيقيةً لمكانتها في كونسيرتو العالم من خلال اِفتكاك حقّ الشراكة بالبصمة والاِندراج بالذات في الثقافة الكونية، فإنّها لن تجد إجابة مقنعة لسؤال غياب المنهج، وستبقى عاجزة عن توليد المصطلح، وستتلعثم في النطق بأوراد الطريقة النقدية التي تعكس الإبداع في محليته المُحيلة إلى الوجود في شمولية ما يحمل من صور متعدّدة ومُبهرة، وسيظل الخطاب النقدي في صورته العربية، كما تُروج لها الاِقتناعات المشوبة كالعادة بالشحنات المخدِّرة للإيديولوجيات المتعاقبة، خاضعًا لتصورات لم يبدعها، ولأخيلة لم يرسهما، ولأنسجة لم ينسجها، ولمعالم لم تخطر بباله. ذلك أنّ المنهج، قبل أن يكون نقديًا بجهازه المفاهيمي وإجراءاته التطبيقية التي تروم تسليط الضوء على النصوص الإبداعية بمختلف أشكالها، هو منهج حياة في جوهره وفي حقيقته، ولا يمكن أن يستقيم منهج النقد ومنهج الحياة أعوج. والمُراد هنا ألا يمكن للنقد أن يجد له دواءً لعجزه من دون حرية وجود تكفل له مصارحة الذات الحضارية بِمَا يقف في وجه تجاوزها العقلاني لمطبّات التخلّف الثقافي والألسني والمنهجي. - محمّد بكاي: لا يمكن إنكار حركة التأثير التي مارستها المدارس النقدية الغربية على سيرورة النقد العربي بالطبع لا يمكن إنكار حركة التأثير التي مارستها المدارس النقدية الغربية على سيرورة النقد العربي، الّذي تحوّل من الاِنطباعية والإنشائية والبساطة التأمّلية إلى التّسلح بالرّوح العلمية والعدة المفاهيمية والإجرائية الجديدة. وقد تطوّرت هذه المقاربات النقدية تحت تأثير الموجة الكوبرنيكية التي طالت الإنسانيات الغربية؛ نذكر على سبيل المثال الطفرة التي شهدتها اللّسانيات أو تأسيس السّيكولوجيا والسّوسيولوجيا وصولاً لبروز الأنتروبولوجيا، ومدى حضور هذه العلوم في فهم النصوص السّردية والشّعرية والمسرح. وهو ما خلق حقلاً دقيقًا وصارمًا لدراسة الخطابات الأدبية خِلافًا لِمَا كان سائداً مع الرومانسية والواقعية أو الأطياف المثالية لقراءة النصوص، وقد ألقى هذا التحوّل البراديجمي بظلاله على المتابعة النقدية العربية التي مالت أكثر للمقاربات البنيوية والجديدة منذ أربعين سنة تقريبًا. فالإفادة العربية من التيارات النقدية الغربية واضحة، تتجلّى عبر الاِجتهادات المقدّمة مشرقًا ومغربًا، لكن تشوبها بعض التشويشات واللّبس وفوضى المصطلح والفشل أحيانا في إقناع القارئ بنجاعتها التطبيقية (Praxis) في رسم المعنى الأدبيّ بطريقة جادّة ومختلفة، فبعض المقاربات العربية كانت موسمية وبعضها الآخر اِكتفى بركوب الموجة الجديدة وإتباع صداها دون تقديمٍ عميق لحيثيات النصوص الغربية، التي اِستغرقت قرونا لتكوينها ابستيميًا، حيث عرفت محطات معرفية هامة جعلتها تؤول إلى ما هي عليه من كثافة وتعقيدات. كما قلت، حدث نوعٌ من الاِنخراط الجماعي للنّقاد العرب في إتباع الموجات النقدية الجديدة (البنيوية، السيميولوجيا، التأويلية،...)، وهو نوعٌ من التهافت الّذي أعمى بصيرتهم عن رسم معالم نقدية تُلائِم أسطقة النّص الإبداعي في تميزه وفرادته. الكتابة النقدية لا تكتفي بهَمّ التنظير فقط -مع أنّنا بحاجة ماسّة إلى إحاطة منهجية تلبي حاجتنا لمعرفة النظريات النقدية الغربية في محاضنها وتتبع شبكاتها المُتداخلة من جيلٍ إلى آخر-. كتابة النقد عليها أن تكون متذوّقة لتيمة النص المكتوب، على دراية بالنواة العميقة التي تحركه، على اِستعداد تأويلي لتعبئة بياضاته، إذْ يستحيل ليّ عُنق النص بِمَا يُناسب المقاربة التحليلية بنيوية كانت أو سيميولوجية أو التقمص بمقولاتهما. فما اِرتكبه بعض النُقاد سابقًا يُعَدُّ تشويهًا للنقد معرفيًّا وللنّص الإبداعي جماليًّا. أمّا مسألة خلق -فضاء خاص- بالنقد العربي، فليست علة راجحة في حدّ ذاتها بالنسبة لي، عِلمًا أنّني على بينة بأهمية الدّور الّذي يُمارسه المناخ عربيًا كان أم غربيًا في تأثيره على رسم جغرافيا الفكر النقدي. ففي ظلّ موقعه غير المُنتج للمعرفة النقدية (علينا تحقيق مشاريع عربية خالصة حقًا وليس مجرّد اِدعاءات ووعود جوفاء)، يظلّ الحديث عن طرح نقدي عربي أصيل وجريء مجرّد دغدغة لمشاعرنا الجمعية اللاّواعية، فلازلنا نقترب باِستحياء من النصوص وأحيانًا عن جهل مُركّب. بعيداً عن جَلْد ذواتنا، فما أميل إليه هو الاِهتمام بالبُعد الكوني أو الإنسي للفكر النقدي عمومًا، فالتجربة الإنسانية –التي تُحرّك النصوص- واحدة رغم كثرتها؛ فما بحثه الإغريق حول فنون الشِّعر أو العرب القُدامى حول فلسفة الأدب شِعراً ونثراً أو ما قدّمه المُحدثون في مدارسهم المختلفة رومانسية أو سريالية أو وجودية، يمثل رؤية إنسية كلية، تتقاطع شذراتها هنا وهناك، على الرغم من تلوّن الجغرافيات أو تباعد الأزمنة فيما بينها. طبعًا هذا دون المُغالاة في الإخلاص لفكر أحادي شمولي حتّى لا نقتل روح الاِختلاف التي تطبع كلّ مذهب أو ملة. على النقد العربي أن يُؤلّف بين مواقفه المنشطرة، بالاِعتماد على مُواكبة فضاء المعرفة النقدية المُعاصرة المعقدة والمتجدّدة والمتراكمة معرفيًّا، ومحاولة المواءمة بينها وبين خصيصة النّص العربي لسانيًّا ومجازيًّا وثقافيًّا طبعًا. ما يهم -في رأيي- هو السّعي لاِستدراك كُنه النقد الغربي الحديث والمُعاصر بالحفر في منعطفاته وتحوّلاته، يعني عودة جينيالوجية إلى التراث الإغريقي والقروسطي وكشف حلقات الوصل التي بُعِثَ منها النص النقدي الجديد، بذلك يُمكننا التعرف على الهيئة المعرفية التي اِتّخذها مسار النقد لديهم، وبالتالي يمكننا اِستثمارها في إثراء نقدنا العربي، من جهة ثانية، علينا الإلحاح بالعودة إلى تراثنا النقدي لِمَا يحمله من تكوين عقلي مختلف وعريق، لا يقلّ أهمية عن التراث الإغريقي أو المد الحداثي. من هنا، ستكون الرؤية النقدية موسوعية ومهمة في الوقت نفسه لخلق إستراتيجية إجرائية ونحت معجم نقدي عربي يخدم اللفظ والمعنى.