النقد الأكاديمي تراجع في الجزائر والنقد الصحفي تطغى عليه المجاملات هل هناك نقد أدبي أكاديمي في الجزائر؟، وما ملامحه وخصوصياته ومستويات تلقيه وتداوله وحضوره في تماسه مع النص الإبداعي الجزائري، خاصة النص الجديد منه، وفي ظل تسارع النشر والإصدارات الأدبية الجزائرية، هل واكب النقد هذه الأعمال، أم تركها لمصير الصمت والإهمال ولم يتناولها بالتمحيص والدراسة، بمعنى آخر هل المنتوج الأدبي يخضع حاليا إلى فحص ومعايير نقدية حقيقية ومواكبة، وهل ما يقوله أهل الإبداع من أن النُقاد غير آبهين بتحولات النص الإبداعي الجزائري، وغير منتبهين له، صحيح؟، ولماذا هذا التعالي من النُقاد على المنتوج الأدبي؟. وهل حقا النقد الصحافي هو سيد المشهد ويحتل حيزا أكبر من النقد الأكاديمي، وما أوجه الاختلاف والتطابق بين النقد الأكاديمي وغيره من مستويات وأوجه النقد الأخرى كالنقد الصحفي مثلا؟. هذه أسئلة حول النقد الصحفي والأكاديمي في الجزائر، يطرحها كراس الثقافة في ملفه لعدد اليوم، وهنا إجابات ومقاربات من نُقاد وأكاديميين يشتغلون في حقل النقد، ولهم ما يقولونه في هذا الشأن النقدي المتشعب. استطلاع/ نوّارة لحرش سعيد بوطاجين/ كاتب وناقد ومترجم وأستاذ بجامعة مستغانم اللوبيات الثقافية دفعت النقاد إلى الانسحاب من المشهد النقد الصحفي والأكاديمي يتماسان أحيانا ويختلفان، وهذا لا يضر بالممارسة النقدية بقدر ما يثريها. ربما اختلفت الأدوات الإجرائية وطبيعة المقاربات لأسباب لها مسوغاتها المرجعية وغائياتها. بيد أن وجودهما ضروري رغم تأسيسهما على مقاصد مختلفة. وقد تكون غير علمية وغير منزهة من الزلل إن ارتبطت بالظرف وعملت على تكريس موقف لا علاقة له بالقضايا الفنية. وذاك ما يحصل في السنين الأخيرة. لقد تبوأت الآراء الذاتية وتراجع النقد الأكاديمي بمفهومه الجامعي. لا يمكن المغامرة بتقديم موقف علمي تفاديا لمتاعب التهميش والتكتلات، وتلك حقيقة مغيبة، مع أنها كاسحة. هناك نُقاد انسحبوا من المشهد أو أصبحوا يهتمون أكثر بالآداب الوافدة. أو أنهم لجأوا إلى القراءات الواصفة التي تتوقف عند عتبة العرض، ليس إلا. أما التقييم، بمستوياته المركبة فقد أوشك على الإنمحاء الكلي بفعل هيمنة مجموعة من اللوبيهات الأدبية التي تقنن الساحة الثقافية الجزائرية. وقد يسهم هذا الواقع في ترسيخ نوع من المرجعيات الزائفة التي ستكون المعيار الفني الوحيد الذي وجب تزكيته. ذاك ما حققناه في العشرية الأخيرة. ولا أعتقد أن النقد سيسترجع سلطته بالنظر إلى ما يحصل حاليا. من هنا وجب التمييز بين استعلائية النقد وبين انسحابه من المشهد. هناك في البلد كفاءات عالية لا تريد المغامرة في حقل غير محمود العواقب، وهي إذ تتخذ هذا الموقف الذي يبدو انهزاميا، فلأنه، بالنسبة إليها، المنقذ الوحيد من البؤر المتأزمة. لا يمكن القفز في النار بغباء، بروح دونكيشوتية لا تعرف مكونات الحاضر النقدي والأدبي. ثمة دائما حدود للمغامرة، مهما كانت أهدافها العلمية. هناك من يقرأون كثيرا ويمتنعون عن الكتابة، سواء بالإيجاب أم بالسلب، وقد يكونون محقين في جهة ما. لا يوجد مناخ للتعبير عن المواقف الأكاديمية العارفة بشؤون الفن. وإذا حدث ذلك لاحقا فإنه سيتسبب في تخريب عدة صور ومعايير، لكن الأمر يبدو متعذرا الآن، إن لم يكن مستحيلا. الظاهر أن النقد المحترف سيتراجع أكثر فأكثر أمام الممنوعات الجديدة. هناك طابوهات تتكاثر، وليس من السهل الإشارة إليها. قد يبدو الأمر سرياليا، لكنه حادث. إنني أنظر إلى الآفاق النقدية بكثير من التشاؤم المبني على معاينات وحيثيات، وأكاد أجزم بأن النقد غير ضروري لأعمالنا الإبداعية من حيث إنها مكتفية بذاتها، وبما يكتب عنها من مجاملات، رغم أن هناك أعمالا مهمة تستحق التنويه بقيمتها الكبيرة التي تُشرف أدبنا، وحتى في هذه الحال فإن الناقد لا يضمن شيئا أمام خطر التكتلات المبرمجة. وتلك مشكلة حقيقية لا يمكن تخطيها إلا بتصويب جذري للعلاقة الإفتراضية بين النقد والأدب. عامر مخلوف/ ناقد وكاتب وباحث جامعي أمام الصمت النقدي بات يكفي أن تضع كلمة رواية على كتابك لتصبح روائيا لا يشق له غبار النقد لم يعد يشغل الناس فيما أرى، ومنذ وقت مبكر انصرف الكُتاب الجزائريون إلى الإبداع شعرا ونثرا، بل إن منهم شعراء انتقلوا إلى تجريب الكتابة الروائية في العهد الأخير، بيْنما نادرا جدا ما نجد شخصا بعيْنه قد انقطع للممارسة النقدية ولا شك أن لذلك أسبابا. من ذلك أن كثيرين مازالوا يُجرْجرون فكرة بالية موْروثة تَعُدُّ الناقد تابعا يقتات على ما يتساقط من موائد المبدعين في الوقت الذي يصرِّح فيه بعض المبدعين أنْ لا حاجة لهم بالنقد وإنما هم يكتبون لأنفسهم أو لقارئ محتمل بينما هم يُضْمرون – في واقع الحال- رغبة جامحة في أن يُكتب عن إنتاجهم وقد يميل بعض منهم إلى أن يتوسَّلوا ذلك بواسطة علاقات تحكمها المجاملات. يُضاف إلى ذلك أنه وسط زحمة وسائل الاتصال التي نشهد تطوُّرَها بشكل مذهل، زهد المثقفون أنفسهم في الإقبال على المطالعة، ناهيك عن الجلوس إلى عمل إبداعي وقراءته مرات ومرات مع ما تشترطه الممارسة النقدية اليوم من جهد استثنائي تفرضه المدارس النقدية المعاصرة. فأما النقد الأكاديمي فصار في معظمه مرتبطا بالسعي لنيْل الشهادة وبمجرد الحصول عليها ينصرف صاحبها إلى ما يراه أفْيد، ما يتعلق بحياته اليومية ومستقبله الذي أصبح مضمونا بفضل شهادة قد تحمله أكثر مما يحملها. فإذا ما أُنجزت أعمال يمكن أن تُدرج في الحقل النقدي حقا، فإنها غالبا ما تبقى بعيدة عن القارئ، إما لعدم نشرها أو لسوء توزيعها. وأكثر الدراسات التي تظهر اليوم على الساحة تنحو نحو التنظير فتجترُّ المصطلحات الجديدة والآراء الوافدة إليْنا منبتَّة عن جذورها فلا هي تطال النص موضوع الدراسة ولا هي تقدم إضاءة تلائم بين النظرية والنص المكتوب بالعربية بقدر ما تزرع الوهْم وتشيع الانبهار. ثم تأتي ظاهرة أخرى نشهدها اليوم في الساحة الأدبية وهي أن الأدب بمجمله قد اختُزِل في الرواية بحيث أخذت كل حظوظها من الإشهار والتكريم. ويكفي أحيانا أن يثبت المؤلف كلمة "رواية" على صفحة الغلاف ليصبح روائيا لا يُشق له غبار. تحضرني هنا قصة الكاتب "حنا مينة" حين جاءته فتاة بكومة من الأوراق تطلب إليه رأيه في محاولتها الروائية فطَرَحَ عليها جملة من الأسئلة منها: هل أنت متزوجة؟، قالت: لا، هل سبق لك أن سافرتِ وتجولتِ؟ قالت: لا، هل أحببْتِ يوْما؟ قالت: لا. هل سبق أن قبَّلك رجل؟ قالت:لا. فقال لها: عندما تجيبين عن كل هذه الأسئلة ب "نعم" جرِّبي كتابة الرواية. وأعاد إليها أوراقها. فلم يبْقَ – والحال هذه- إلا النقد الصحفي وإنه وإنْ هو لا يعدو أن يكون انطباعات كثيرا ما تشوبها السطحية والتسرُّع إلا أنه ضروري من حيث إنه يسهم في التعريف بالإصدارات الجديدة ويقدِّم إشارات قد توجه القارئ إلى ما يحب أن يقرأ فضلا عن كوْنه يدفع الكاتب إلى المزيد من الإنتاج. فلعل النقد الصحفي- في غياب الدراسات النقدية الجادة- أن يكون خير مواكِب للحركة الأدبية في انتظار أن تحتضن المجلات الجامعية ممارسات نقدية تهتم خاصة بالنص الجزائري وتستفيد من منجزات المدارس النقدية المعاصرة عن وعي لا أن تُحلّقِ في التنظير، وتزهو بإقحام مصطلحات تبقى غريبة عن طبيعة النص. وبالنظر إلى هذه الصعوبات وغياب الحوافز التي تدفع إلى النقد، يتضح أن الممارسة النقدية لا بد أن تكون قناعة راسخة تنبني على الإيمان بضرورة خدمة الأدب الجزائري للوقوف على الأعمال المتميزة فيه، والارتفاع بها لتنال حضورها اللائق في الساحة العربية والعالمية. عمر عيلان/ باحث وناقد وأستاذ التعليم العالي -مخبر البحث في الترجمة وتحليل الخطاب- في جامعة خنشلة النقد الصحفي يصنع رأيا عاما أدبيا، ويؤثر بصورة أكبر في المبدعين وحتى في النقد الأكاديمي النقد الأدبي هو خطاب في جانبه المعرفي متعلق بنقد الأدب، وهو خطاب متعدد يرتكز على خلفية أو خلفيات معرفية للبحث عن الجوانب الفنية للنصوص الأدبية، ويسعى أن يكون علميا قدر الإمكان وعليه فهو مبحث غير ثابت لا يقبل الحلول الصارمة والدقيقة التي توجد في العلوم الأخرى، لأنه ببساطة لا ينطلق من مرجعية ثابتة وواحدة، ولا نضعه بذلك في إستراتجية واحدة التي تمثل إتجاها أحاديا للبحث، فالنقد الأدبي لا يقبل بوحدانية المنهج بل يستفيد من العلوم الأخرى كالفلسفة، علم النفس، علم الإجتماع، التاريخ...إلخ وهو موضوع متعدد المباحث، والنقد الأدبي لا يقبل بالحدود الصارمة، فهو كلٌ، وفي نفس الوقت ليس هو الكل "أي يشمل كل المعارف فلسفة، علم إجتماع، علم النفس، علم الجمال.. لكنه ليس هذه العلوم المجمعة فيه". يشمل نقد النص الأدبي مجموع المعارف لكن في إطار ضوابط خاصة به. لأن النص الذي يدرسه محكوم بالأدبية، أو مجموع الخصائص التي تجعل من نص ما أدبا، فالنقد خطاب عن خطاب أدبي، وبذلك لا يمكن أن يكون النقد متشابها في إجراءاته وإستراتيجياته ومنهجياته، لأنه كما قلنا ليس أحاديا بل متعددا، فالنقود تختلف بإختلاف مرجعياتها ومعارفها وأهدافها وإجراءاتها كما يمتاز النقد الأدبي بالدينامية، فمجال المعرفة مجال متحرك يختلف بإختلاف النصوص والمتون الأدبية وبإختلاف المقاربات النقدية، والنقد الأدبي يؤمن بالاختلاف يقوم على آلية الاختلاف هذه الآلية لا تنفي التعارض فالنقد هو خطاب إشكالي، دينامي، متعدد يقبل الاختلافات. وإعتبارا من الخصائص والمكونات السابقة فإننا نتعامل مع ما يُسمى بالنقد الأكاديمي أو النقد الصحفي على هذا الأساس. فالتسميتان في حد ذاتهما تبناهما نُقاد يسعون إلى الوصول إلى تصنيفات خاصة. فرولان بارت على سبيل المثال أطلق تسمية النقد الجامعي أو الأكاديمي على النُقاد الذين يرفضون الأفكار الجديدة، ويلتزمون بحرفية المنهج. في حين صنف معارضوه من النُقاد المنتسبين للجامعة النقد الصحفي على أنه لا يمسك بجماليات الكتابة والإبداع الأدبي وفق تصور ورؤية منهجية، وأنه يُحدِث خلخلة وانتقاصا من الكلاسيكيات الأدبية المتعارف عليها. إننا نرى بأنه يجب التمييز بين النقد الأدبي المستند إلى أسس منهجية ومعرفية ملمة بجماليات الكتابة، وبين نقد أدبي مختلف من حيث الغايات والأهداف. فالنقد الصحفي يمتاز بكونه في أغلب الأحيان بأنه خطاب متحرر من هيمنة النظرية وسلطتها، ويتحاشى الصرامة المنهجية والمفهومية ويتوجه لجمهور واسع من المتلقين والقُراء مما يجعله يمتاز بالتبسيط أحيانا، غير أنه بالمقابل متابع دائم للفعل الثقافي والأدبي، مما يُمكنه أن يُقدم أفكارا جديدة ويصنع رأيا عاما أدبيا، ويؤثر بصورة أكبر في المبدعين وحتى في النقد الأكاديمي. ويمكننا أن نعد النقد الصحفي رافدا أساسيا من روافد الإبداع والكتابة الأديبة، من خلال إفساح المجال للمتابعات الآنية للنقاش والحوار حول القضايا التي تتناول الموضوعات والقضايا الأدبية. وقد كانت الساحة الثقافية في الجزائر قد عرفت هذا النوع من النقد الذي خلق ديناميكية ثقافية خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، مثلته جملة من المنابر التي عرفتها مجمل الصحف الجزائرية من مثل: الأفق الثقافي لجريدة النصر، والملاحق الثقافية لكل من جريدة الشعب، وجريدة المجاهد وجريدة الجمهورية وغيرها. كما يمكننا أن ندرج في سياق النقد الصحافي ما يمكن أن نسميه الصحافة الأدبية المتخصصة من أمثال مجلة آمال ومجلة الثقافة. ونظرا لكون النقد الصحفي يمتاز بالحرية والانتشار الواسع والتداول الكبير بين القُراء، فبإمكانه أن يؤسس ويخلق مفاهيم ومصطلحات نقدية، تثير حولها نقاشا كبيرا. ومن أمثلة ذلك مصطلح "ما بعد الحداثة" الذي هو مصطلح من ابتكار النقد الصحفي، غير أنه فرض نفسه في الساحة النقدية وتناوله وتداوله النقد الأكاديمي فيما بعد. وبالمقابل فإن النقد الصحافي بإمكانه أن يسقط في التبسيطية التي لا تنفذ إلى عمق وأسس النظريات النقدية والأدبية مما يجعله يشوه تلك النظريات ويجعل الحكم عليها حكما غير سليم، وهو ما يمكن التمثيل له من رد الفعل الذي واجهته النظرية البنيوية عندنا في الجزائر في مطلع الثمانينيات. وبمقابل الحيوية التي يمتاز بها النقد الصحافي، فإن النقد الأكاديمي هو نقد معرفي بالأساس لذلك فهو يرتبط بالرصانة والثبات والتركيز حول جملة النظريات والمفاهيم والمصطلحات والمسارات الإجرائية في تعامله مع النصوص الأدبية. فالجهد الذي يقدمه النقد الأكاديمي هو جهد تأسيسي لمعرفة موثقة خاضعة لأهداف ورؤية تسعى لخلق حوار علمي يبحث في الجماليات من منظورات محددة. كما أن النقد الأكاديمي باستناده للمرجعيات المعرفية سواء أكانت في مجال اللغة أو الفلسفة أو علم الاجتماع أو علم النفس أو التاريخ.. فإنه يقارب النصوص الأدبية من منظور المعرفة المزدوجة: معرفة بجماليات الأدب ومعرفة بحقول المعرفة الأخرى ليقيم مدى التفاعل القائم بين كلتا المنظومتين، أي المنظومة الجمالية والمنظومة المعرفية. وهو بذلك يخلق ثراء وتنوعا في الأطروحات والتصورات وبالتالي في القراءات المتعددة للنصوص. ولعلنا في الجزائر نجد أن النمط الوحيد الذي يُواكب الحركة الأدبية ويعمل على دراستها وتثمينها والبحث في خصوصياتها وجمالياتها، هو النقد الأكاديمي، في غياب النقد الصحفي الذي اختفى تماما عن ساحة الفعل الثقافي في الجزائر. فالصحافة الجزائرية لا تمنح مجالا للحوار الثقافي والأدبي، في الوقت الذي تمثل الجامعة الفضاء الوحيد للنقاش حول القضايا النقدية التي تتناول الإبداع والكتابة الأدبية في الجزائر سواء أكان ذلك عبر الأبحاث الجامعية من مذكرات ورسائل ماجستير أو دكتوراه، أو من خلال الندوات والملتقيات العلمية. محمد بن زيان/ باحث وناقد الاشتغال النقدي الأكاديمي ظل محصورا في النطاق الجامعي ولم يلتفت إلا إلى الأسماء المكرسة الحديث عن النقد مركب ويحيل إلى إشكاليات مختلفة ومتقاطعة، فالنقد مرتبط بمنظومة تربوية غيّبت النزعة النقدية فتشكلت علاقة ملتبسة بكل ما تحيل إليه عبارة النقد، وربما هذا ما تفصح عنه بعض السِجالات التي تعرفها المنابر الإعلامية والردود الحادة على الآراء. النقد مستوى من التلقي، وهو في حد ذاته يتشعب إلى مستويات متعددة من التلقي وتتعدد أرضياته النظرية والإجرائية. وبدون ريب يعتبر التعاطي الأكاديمي محوري بالضبط المنهجي والتوليد المفاهيمي. في بلدنا يوجد ما يُسمى بالنقد الأكاديمي وهو مرتبط بما تراكم. النقد التبس بخصوصيات المراحل المتعاقبة والتأثيرات التاريخية والأيديولوجية، ومع التراكم تبلورت إشتغالات متعددة في استثماراتها للمنجز النقدي المعاصر بمختلف تياراته وفي تفعيلها للرصيد التراثي، لكن الاشتغال الأكاديمي ظل محصورا في النطاق الجامعي باستثناء بعض الأكاديميين الذين كسروا الطوق. الاشتغال الأكاديمي ظل غالبا محصورا في دائرة إشتغالاته فلم يلتفت إلا إلى الأسماء المكرسة. وربما الأمر الذي يجدر طرحه في هذا السياق هو مدى الإضافة المنجزة نقديا؟، فالكثير من التوظيفات للمناهج النقدية تتم بدون وعي سياقات إنتاجاتها وبدون ربطها بالمنظومات القيمية التي تتأسس عليها، توظيفات لا تثمر ما يستولد أفاقا من النص، ولا تبدع إضافة معرفية وإبداعية للنقد. طبعا لا يمكن أن نتجاهل وجود متابعات لما يصدر من إبداعات، متابعات مستمرة من طرف أكاديميين وكُتاب وإعلاميين عبر المنابر الإعلامية، والحديث عن علاقة النُقاد بالمبدعين لا يمكن أن يتم بمعزل عن الإشارة إلى افتقادنا إلى فضاءات نقاش وإلى مجلات أدبية وثقافية وإلى غياب تسويق الكِتاب المطبوع والمنشور. وفي ظل الوضع المذكور لم تبقَ إلا بعض المنابر الصحفية التي لا زالت تحتفي بالأدبي والثقافي تفتح منابر تتيح النقاش والحوار. والنقد المُسمى بالصحافي كان دوما محوريا ومحركا، خصوصا وأن أكبر المشتغلين بالنقد كانوا ينشرون متابعاتهم عبر المنابر الإعلامية. ومن الطبيعي أن يحتل النقد الصحافي الحيّز الأكبر لأن للنقد الأكاديمي خصوصيته النخبوية. النقد الأكاديمي مرتبط بمناهج ويوظف إجراءات في التعاطي النقدي، وهو اشتغال مرجعي لا يمكن أن يستغني عنه المشتغل بالنقد خارج السياج الأكاديمي، وبهذا الاعتبار فهو ليس مختصا في المتابعة للنص بالتوازي مع إصداره، إنه اشتغال علمي مضبوط. أما النقد الصحفي فهو متابع للنص المبدع ومرافق له، متحرر من الصرامة الأكاديمية. لكن النقد الصحفي لا يمكن أن يقولب في قالب جامد أو بعبارة أخرى يمكن التمييز عند الحديث عن هذا النقد بين مستويات: متابعات انطباعية. قراءات تتوخى قدرا من المنهجية. وما يُنشر من دراسات ذات طابع أكاديمي. وما يُنشر صحفيا يمكن أن يكون بتوقيع إعلامي مُهتم أو أديب أو ناقد أو أكاديمي منخرط في الفعل الثقافي والإعلامي. بن ساعد قلولي/ قاص وناقد النقد الأكاديمي محدود الانتشار والنقد الصحفي مكبل بالقيود من الأهمية بمكان أن تفرق أولا بين الدراسة الأدبية والنقد الأدبي على ما بينهما من اختلاف وتمايز، ذلك أن الدراسة الأدبية هي عمل يمكن أن يقوم به أي دارس بحكم وظيفته المهنية وتوقه إلى التحصيل الدراسي والعلمي والمهني، بينما النقد الأدبي هو ممارسة وهمٌ ثقافي وأدبي يستمد قوته وثراءه من الاستعداد الفطري للناقد المبدع ومخزونه القرائي وموهبته الأساسية ورغبته المحمومة الملحة في القراءة والمتابعة واستكمال ملف الكتابة الإبداعية وإضاءة مضمراتها على مستوياتها المتعددة وبينهما وبين النقد الصحفي من جانب آخر الذي هو مجرد قراءات يقوم بها صحفيون بحكم المهنة يعتمدون فيه لغة مباشرة لا تريد أن تذهب بعيدا إلى البواطن التي تُحيل إليها وعليها النصوص الإبداعية قصة وشعرا ورواية ربما بسبب المساحة المُخصصة له والفضاء المحدود الذي يؤطره حتى ولو كان هناك نُقاد وكُتاب يقومون بهذا النوع من النقد ولكنهم ورغم ذلك فهم أيضا لا يتجاوزون هذه "الخطوط الحمراء" ويكتفون بالتلخيص والعرض النقدي. نعم هناك نقد أكاديمي ولكنه قليل جدا وغير منشور على نطاق واسع في حدود وسياقات مختلف المواقف والتوجهات الفكرية السابقة منها أو الراهنة وما أنتجته في زمنها وبيئتها من منظومات فكرية ومعرفية متباينة تبعا لتحولات تجربة الكتابة النقدية وإحالاتها التاريخية والإيديولوجية بعيدا طبعا عن أي عجرفة عمياء عاجزة عن مساءلة الهامش في أقصى عزلة له على اعتبار أن الهامش الذي يتحرك فيه ومنه سؤال النقد والاختلاف حسب عبارة عبد الكبير الخطيبي هو "هامش يقظ حتى ولو كانت تسود بعض نماذجه حالات من -التدجين المعرفي- و-المأسسة النقدية-"، أي تحول العمل النقدي إلى ما يشبه الضنك الوظيفي المهني في تكريسه لقيم الامتثال والاتباعية والخضوع للتقاليد والمقاييس والإلزام القسرية في تناغمها المفضوح مع ثوابت ثقافة الوصايا التي لازالت هي السائدة بأقسام اللغة العربية وآدابها إلا في ما ندر، وطبعا من حق المبدعين والكُتاب أن يشتكوا من غياب النقد الأدبي عموما، لكني شخصيا أتصور أن هذا العدد الهائل من النصوص والمنشورات بصرف النظر عن تباين مستويات إبداعيتها لا يمكن أن يتصدى لها ناقد أو باحث جامعي مهما بلغ من الأهمية ومن الكفاءة النقدية والعلمية ومهما تيسر له من وقت وإمكانات، إنه في حاجة إلى فريق بحث، كل يتناول تجربة ما من هذه التجارب أو بعضها من الزاوية القريبة من مجال تخصصه أو تلك التي تثير شهيته النقدية وحسه الإبداعي طالما أن القراءة النقدية أية قراءة تبدأ أولا من الإحساس بمكامن الجمال في النص الإبداعي، ثم تأتي بعد ذلك المعرفة والقدرة على التحليل واستخدام المفاهيم كوسائط إجرائية ليس إلا، دون أن تنحرف العملية النقدية برمتها عن مهمتها الأساسية وهي "تفكيك رموز النص الأدبي" بفعل فلسفة التطابق والتماثل التي يفرضها المنهج المستخدم بوسائطه الإجرائية على مستخدمه أو مستخدميه والتي عادة ما تلزمه (أي الناقد) على الانصياع لمتعالياتها المدرسية قصد التعامل مع هذه الوسائط بمرونة ما أمكن ذلك خدمة للنص الإبداعي وللمهمة التي وجد من أجلها النقد طالما أن النقد هو (بناء لفهم خاص لعصرنا) مثلما يرى رولان بارت، وفي ذلك يكمن جوهر الكتابة النقدية خلافا لمهام ومسالك أخرى شبيهة بالعمل النقدي هي من صميم الأدوار البحثية الجامعية بالمعنى المؤسسي للكلمة لما لها من غايات مهنية معيارية بالأساس طبقا لما تتطلبه الإملاءات البيداغوجية وثقافة التماثل المدرسية والمطابقة و(الاتباعية) بتعبير أدونيس والخضوع للتقاليد الجامعية والمقاييس المدرسية بما يعني من موالاة لكل تمظهرات (المأسسة النقدية) التي قضت على الجزء الأكبر من الكتابة النقدية، وهنا الفرق بين ما يُسمى النقد الأكاديمي والنقد الأدبي النصوصي في سياقاته المتعددة وأعتقد أنه لو تتخلى بعض المؤسسات الثقافية الرسمية عن كرنفالياتها وفولكلوريتها لتكرس لنظام الورشات النقدية المتخصصة لتفعيل الملتقيات الأدبية التي تنظمها لتضع الباحثين والنُقاد أمام مسؤولياتهم التاريخية والنقدية في تناول بعض التجارب الإبداعية احتفاءً بها وتمنحهم الوقت الكافي بالاتفاق المسبق وتثمن جهودهم ماديا ومعنويا بدل الارتجال السائد والمزاجية والشللية التي تميز جل الملتقيات الأدبية التي تنظمها مختلف المؤسسات الثقافية، ودور النشر هي الأخرى تتحمل جزءا من المسؤولية الملقاة على عاتقها إذ لا زالت تعتقد أن عملها ينتهي بمجرد صدور الكِتاب وخروجه من موقد المطبعة، هذا خطأ جسيم في اعتقادي، بوصفها شريكا أساسيا ولا غنى عنه في معادلة وصول الكِتاب إلى القارئ والتداول الإعلامي والنقدي له، وأتساءل لماذا لا تبادر دور النشر المعنية أساسا بنشر الكِتاب الأدبي على وجه الخصوص بإبرام اتفاقيات وعقود شراكة ثقافية مع وسائل الإعلام المكتوبة التي تتوفر على ملاحق ثقافية تستكتب فيها النُقاد المعنيون بتحولات تجربة الكِتابة الأدبية في الجزائر، وعلى هذا النحو نخفف على الأقل من وطأة غياب النقد الأدبي ومحدودية تأثيره وتواجده لتحصل المنفعة المزدوجة لرفع الغبن أولا عن المبدع صاحب الكِتاب والرفع من معنوياته وتشجيعه على فعل الكتابة والاستثمار في الإنسان والمخيال الثقافي الجزائري والحد من أزمة المقروئية المغيبة بفعل عدم التخطيط ومضاعفة مبيعات الكِتاب التي تَصُب في مصلحة الناشر لإعادة لحمة القطائع المفتعلة بين الناشر والمبدع والناقد والمؤسسات الإعلامية، وهي بدائل أرى أنه من الممكن أن تساهم في ردم هذه الفجوات القائمة لو تخلص النوايا وتتوفر على الإرادة الصادقة. عبد القادر ضيف الله/ كاتب وناقد انتشار طريقة احتفالية دعائية ضيقة تكرس ثقافة النقد الشللي النقد الأدبي الأكاديمي موجود ولكن!، رغم أنه يشهد تراكما لا يمكن إغفاله على مستوى مدونة النقد الجزائري لكنه للأسف لازال يفتقد للنشر والتوزيع خارج أسوار الجامعة، فالمشكلة الأولى هي ليست في غياب هذا النوع من النقد بقدر ما هي في غياب حلقة التواصل بين متلقي هذا النقد والمتن النقدي الأكاديمي المتمثل في البحوث المنجزة في مخابر الجامعات أو في رسالات التخرج لما بعد التدرج، وكذلك لاعتماده الاشتغال على التنظير أكثر من التطبيق من خلال تُغليب أدوات المنهج العلمي النخبوي على حساب القراءات التي تقدم النصوص للقراء غير الأكاديميين. أما من حيث المواكبة فأعتقد أن هناك هوة كبيرة بين ما يصدر من نصوص أدبية في الساحة وبين ما يصدر من دراسات تطبيقية لبعض النُقاد الأكاديميين الذين بدأوا يبحثون عن قُراء خارج أسوار الجامعة من خلال نشر قراءاتهم في الصحف والمجلات المتداولة أو على مستوى المواقع التفاعلية، ومن المآخذ التي تُسجل أيضا على هذا النوع من النقد هو بقاءه على مستوى تكريس الأسماء المعروفة وعدم التفاته بصورة واضحة وجلية لإنتاجات الجيل الجديد إلا فيما ندر مما يجعلنا نقر بظاهرة النقد الصحفي الذي أصبح يمثل البديل المتاح في السنوات الأخيرة رغم تسرع هذا الأخير في تقديم النصوص واعتماده على الانطباعات الذاتية في التعامل مع النصوص بطريقة تبتعد عن المعنى الحقيقي للنقد التي يتوفر عليها النقد الأكاديمي والذي يُنتظر منه أن يساعد الإبداع على الارتقاء والتحسن، لكن ما نراه للأسف الشديد هو تقديم النصوص إما بطريقة احتفالية دعائية ضيقة تكرس ثقافة النقد الشللي وإما بطريقة الرفض الذي يتم عبر الإهمال لغالبية المنتوج الأدبي المنشور، وهنا يشترك هذا النقد الصحفي مع النقد الأكاديمي باستثناء تلك القراءات التي يقوم بها بعض الروائيين الذين لهم خبرة في السرد والذين توفرت لهم أعمدة على مستوى بعض الصحف اليومية، وهنا يمكن الإشارة إلى مجهودات الروائي الحبيب السايح التي تتابع منتوجات الكُتاب الشباب خاصة، رغم أن الكثير من النصوص الجديدة سواء لكُتاب الجيل الجديد أو لبعض المخضرمين ترهص بتبدلات على مستوى جمالية النص وتشكيله في الجزائر ورغم ذلك مغيبة في قراءات النقد الصحفي والنقد الأكاديمي على السواء.