عندما عادت لويزة سيدي حاكت إلى الجزائر، بعد غربة سنوات، و كشفت عن فكرة مشروعها لبعض المقربين منها سخروا منها و وصفت بالجنون، لأنهم ظنوا أن زراعة الزعفران في الجزائر، و إنشاء مستثمرات فلاحية لإنتاج مستخلص طبيعي عالي الجودة، مغامرة غير مدروسة العواقب و تجربة يستحيل نجاحها، لكنها رفعت التحدي واستطاعت في غضون سنوات قليلة، أن تجعل الحلم حقيقة و تطلق مشروعا نموذجيا أطلقت عليه تسمية «زعفران طريقي»، من حقل صغير بمنطقة ابن باديس بضواحي قسنطينة، ليتوسع وطنيا، ويفتك عددا من الجوائز الدولية. لويزة سيدي حاكت رحلة رسم مسارها فيلم وثائقي قالت السيدة الخمسينية، بأنها لم تدرس الزراعة و لم يكن لها يوما علاقة بالأرض و محاصيلها منذ ولدت في الجزائر، إلى غاية هجرتها إلى فرنسا، لكن فيلما وثائقيا قلب كل الموازين، و أعاد رسم مسار مستقبلها، فقد شاهدت سنة 2009، وثائقيا حول زراعة الزعفران في إيران، فاستلهمت منه فكرة نقل التجربة إلى الجزائر، خصوصا وأن هذه الزراعة كانت موجودة في دول مجاورة كالمغرب و إسبانيا، وهو أول صك ضمان لإمكانية نجاح التجربة، كما قالت، وهكذا بدأت بالقراءة و الاستعلام حول كل ما له علاقة بهذه الزهرة، كما باشرت في الزراعة و الحصاد، حتى قبل أن تلتحق ببرنامج تكوين و تدريب متخصص، تحت إشراف «فيرونيك لافيرا»، أشهر منتجة للزعفران بفرنسا. خلال نفس السنة عندما عادت إلى الجزائر ، اختارت أن تزرع عينات أولية بسيطة في كل من بسكرة و قسنطينة و أم البواقي، لتحديد أفضل منطقة للاستثمار بناء على طبيعة المناخ و نوعية التربة، فاتضح بناء على تحاليل مخبرية أجرتها لاحقا في فرنسا، بأن بلدية ابن باديس بقسنطينة « الهرية»، هي المكان المثالي لزرع شتلات الزعفران، خصوصا بعدما بينت العينة، بأن المستخلص يحتوي على نسبة تعادل 274 جزيئا في الزهرة الواحدة، و يعد من أجود الأنواع في العالم ككل، و يتجاوز بكثير نوعية ما ينتج في المغرب وإسبانيا و إيران، وهكذا قررت توسيع رقعة الاستثمار في المنطقة المذكورة لتشمل 1 هكتار . أخبرتنا المعنية، بأن صديقا لها منحها قطعة الأرض من أجل الانطلاق في المشروع بعدما آمن بالفكرة و أحبها و قرر تشجيعها، فاستطاعت بفضل ما أنتجته هناك طيلة خمس سنوات، أن تقتنص مناقصات مشاريع خاصة بالجالية الجزائرية في الخارج، و تفتك أربع جوائز دولية و وطنية في مجال زراعة و إنتاج الزعفران بين سنوات 2013 و 2015 ، بينها جوائز قدمها الاتحاد الأوروبي. برنامج تطوير علمي بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي تملك حاليا محدثتنا، أرضا فلاحية خاصة بها في ذات المنطقة، بالإضافة إلى حقل آخر بمنطقة جبل الوحش، كما أنشأت عدة حقول للزعفران على مستوى الوطن، أين تقوم سنويا بعملية تجديد البصيلات، بالاستعانة بمحصول أراضيها الخاصة التي تنتج زهورا بيولوجية عالية الجودة. لا تتعدى مساحة المستثمرة الواحدة في العموم الهكتار الواحد، وذلك بالنظر إلى صعوبة زراعة هذه الزهرة والعناية بها و ما تتطلبه عملية الجني من توظيف لليد العاملة، أما عن حجم المحصول، فقد أوضحت المستثمرة، بأن كل هكتار ينتج حوالي 1.5 إلى 3 كيلوغرامات من الزعفران الخام و الطبيعي « بيو»، وهي كمية جد مقبولة، حسبها، خصوصا وأن عملية الإنتاج تستمر لحوالي شهرين تقريبا، فالبصيلات، كما شرحت لنا، تغرس في الأرض و تجدد كل أربع سنوات، لكنها تتفتح سنويا بعدد مضاعف، و كلما كانت التربة أخف زاد العدد. و بما أن فترة الإنتاج تتوقف عند هذا الحد، فإن المنطقة المزروعة تتحول مباشرة إلى مشتلة تنقل منها البصيلات نحو أرض خصبة و جديدة ، لتزرع بدورها و تنتج زعفرانا مثاليا خلال أربع سنوات أخرى، و هكذا تحديدا وسعت لويزة، مساحة مشروعها الذي يحصي اليوم 500 حقل عبر الوطن ، كما تعتزم هذه السنة تطوير المشروع ليضم ولايات جديدة، بعدما أنشأت العام الماضي 25 حقلا بمدينة تيزي وزو وحدها. سمحت هذه التجربة لها، كما أخبرتنا، بفتح باب التكوين في مجال زراعة الزعفران للكثير من الشباب، كما وظفت في إطار الجني الموسمي عشرات الطلبة الجامعيين و تلاميذ الثانويات، من جهة ثانية، فإن جودة زعفران طريقي، و خاصيته البيولوجية، مكنتها من التفوق سنة 2019 في برنامج « بريما»، التابع للاتحاد الأوروبي، والذي يهدف إلى دعم البرامج الفلاحية، بالتعاون مع خمس دول هي إسبانيا وإيطاليا و ألمانيا و البرتغال و فرنسا، وذلك لمدة ثلاث سنوات كاملة، من أجل ابتكار تقنيات جديدة لتطوير هذه الزراعة. حسب المتحدثة، فإن هناك عملا بحثيا علميا مكثفا سينطلق نهاية شهر جويلية القادم، على مستوى بعض حقول زعفران طريقي، سيشمل المتابعة التقنية و التحاليل الخاصة بالنوعية والرائحة و الذوق، وغيرها من الجوانب التي تساعد على الحفاظ على جودة المنتج وإيجاد سبل بيولوجية لعلاج البصيلات عند تضررها، زيادة على إدماج الزعفران في الصناعات التحويلية الغذائية، وهو نشاط يشارك فيه مركز للبحث الجامعي ببسكرة، بالإضافة إلى جامعة بجاية. حلم كلفته 100ألف أورو وكثير من الإصرار عن تكلفة مشروعها قالت محدثتنا «عندما أتيت إلى الجزائر في البداية، لم أترك باب مسؤول محلي أو وزير لم أطرقه، لكنني لم أحظ بالترحيب في أي مكان، حينها كانوا يقولون لي أنت مجنونة ما تطمحين إليه مستحيلا، وقد سخروا من فكرة خوض سيدة مغتربة لتجربة الزراعة، لكنني لم أفقد شجاعتي، و لم أتخل عن الإيمان بمشروعي و بإمكانية نجاحه، بل بالعكس، كنت مصرة جدا على خوض المغامرة، ومن هنا تحديدا تعلمت لاحقا أهمية الإيمان بالشباب وبأفكارهم». و أضافت «انطلقت من الصفر و أحضرت معي بصيلات الزهرة من فرنسا، وهي شتلات مكلفة وصلت قيمة زراعتها على امتداد أول هكتار استثمرت فيه إلى 100 ألف أورو، طورت مشروع زعفران طريقي، تماما كما خططته له، و قد تمكنت قبل أربع سنوات فقط، من شراء وثيقة «إيزو» لمطابقة الجودة دوليا، كما دفعت الكثيرين إلى الاستثمار في ذات المجال، لذلك يمكنني أن أعتبر نفسي أما لأول زهرة زعفران ولدت على أراضينا منذ 2009. نجاح مشروعي في استقطاب الشباب الجزائري، و انتشار حقول زراعة الزعفران عبر مختلف مناطق الوطن، دفعني أيضا لإنشاء هيكل يجمعهم من أجل تبادل الخبرات ومناقشة القضايا التي تهمنا كمزارعين، فأسسنا بذلك «الجمعية الوطنية لمنتجي الزعفران»، التي تضم 300 منخرط لحد الآن، أين نعمل على تطوير الزراعة وتقديم الإرشادات والنصائح المرتبطة بنوعية التربة والشتلات لتحقيق إنتاج جيد، كما نسهل كذلك عملية تسويقه ، فنشاط بيعه لا يطرح كإشكال بالنسبة إلي، مقارنة بغيري من المزارعين، لأنني أقوم عادة بعملية تدوير بصيلات الزهرة بين حقولي المنتشرة عبر الوطن، و هكذا أغطي العجز و أوفر الطلب» . و تابعت « أحيطكم علما كذلك، بأن الكثير من المزارعين في الجزائر، يتلفون الزهور بعد جني المحصول و يتخلصون منها، بالمقابل استخدمها أنا في صناعة مستحضرات التجميل البيولوجية، باعتباري حاملة لشهادة في هذا المجال، الذي يعد واعدا جدا و متقدما بأشواط في الخارج، ما أنتجه من زعفران لا يوجه فقط للاستهلاك، بل للصناعة الطبيعية كذلك، لأن هذه المادة تعد من أغلى محاصيل العالم، بفضل فوائدها الكبيرة في مجالات الصحة والجمال، فالزعفران مضاد للاكتئاب ومهدئ قوي و صديق رائع للبشرة» . كورونا يوقف محاولات التحايل لتكسير المشروع واصلت محدثتنا كلامها قائلة « منذ سنتين كانت هنالك محاولات لتكسيرنا، من قبل تجار استوردوا 60 كيلوغراما من الزعفران الإيراني عن طريق تركيا و كانوا يسوقونه على أساس أنه زعفران جزائري، و قد تحايلوا علي في البداية، بعدما اتصل بي بعضهم وقالوا بأنهم زبائن يريدون شراء كمية معينة طلبوا معها الحصول على تحليل الجودة، ثم استخدموه للترويج للمنتج المستورد، لكنني تفطنت للأمر سريعا، و تواصلت مع الوزارة الوصية بخصوص الموضوع و نحن بصدد التحضير لتنظيم إجراءات عملية تسويق الزعفران محليا وذلك بمجرد عودتي إلى الجزائر، خصوصا وأن هؤلاء التجار باعوا الكمية المستوردة لمنتجين محليين مزجوها مع زعفران جزائري، و شكلوا خليطا مغشوشا أعيد تسويقه مجددا، كمنتج جزائري وبأسعار تتعدى تكلفته الأصلية». و استرسلت « الزعفران المغربي و الإيراني أقل جودة وسعرا من الزعفران الجزائري، الذي يبقى من بين أفضل الأنواع في العالم، و هذا المنتج عموما يتساوى بالذهب لقيمته العالية، حيث يقدر سعر الغرام الواحد منه في الجزائر ب حوالي 4000 دج، فيما يتراوح في السوق العالمية بين 30 إلى 50 ألف أورو للغرام، لذلك وجب علينا الحفاظ عليه». لويزة، قالت أيضا بأن جائحة كورونا ورغم تبعاتها المدمرة على اقتصاديات العالم، إلا أنها خدمت الزعفران الجزائري، فقرار غلق الحدود، حال دون استيراد كميات جديدة من الزعفران و أوقف الغش، كما سمح بالحفاظ على الإنتاج الوطني و تسويقه محليا. نشاط نسوي و لكن.. صاحبة المشروع، أكدت بأن زراعة الزعفران نشاط نسوي في كل دول العالم، لما له من خصوصية تتطلب التعامل برفق مع الزهور والتحلي بالكثير من الصبر ومراعاة النبتة، لكن الجزائر تبقى البلد الوحيد الذي يصنع الاستثناء، فرغم انخراط بعض السيدات والشابات في المجال، إلا أن الرجال لا يزالوا يسيطرون عليه، و لعل للأمر علاقة ، كما قالت، بالنظرة الدونية للفلاحة عموما، فقد أخبرتنا، بأنها حاولت في بداياتها دعوة رفيقات لها وسيدات، للمشاركة في عملية حصاد المحصول، لكنها صدمت بردة فعلهن وتعاليهن عن النزول إلى الأرض وملامسة التربة.