مع كلّ مناسبة من مناسبات الجزائر الثورية والوطنية والتاريخية، يتم عرض العديد من الأفلام السينمائية الثورية عبر مختلف القنوات والفضائيات التلفزية الوطنية. كنوع من اِستعادة الثورة/أو الاِحتفاء بها وتمجيدها وتخليدها عبر الصورة، الصورة والمشهدية السينمائية. وهذا ما يطرح أسئلة حول هذه الثنائية «السينما والثورة»: فكيف اِشتغلت السينما على تيمة ثورة التحرير؟ كيف تمثلتها وتناولتها؟ كيف حضرت صورة هذه الثورة في السينما الجزائرية؟ أيضا هل حضرت الثورة في السينما أكثر من الأدب أم العكس. وهل وُفِقت هذه السينما في الاِقتباس من الأدب واِستثماره سينمائيا؟ حول هذا الشأن «السينما والثورة»، كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الكُتّاب والنُقاد. استطلاع/ نوّارة لحرش ففي الوقت الّذي يظن فيه الأستاذ عبد السلام يخلف أنّ حضور الثورة الجزائرية بقوّة كان في الأدب أكثر منه في السينما -إذا تحدثنا عدديًا- أي مُجمل الروايات والقصص والأشعار التي كُتِبت عن الثورة لكن الاِنطباع الّذي نخرج به حين نريد حوصلة الظاهرة فنجد أنّ الجزائريين يتذكرون جملة «علي موت واقف» من السينما أي من فيلم المخرج أحمد راشدي (1969) وليس من رواية «الأفيون والعصا» لمولود معمري. فهناك -حسب الدكتور يخلف دائماً- سبب أساسي هو أنّ الصورة تبقى راسخة بالذهن إضافةً إلى أنّ المقروئية قليلة في الجزائر وبالتالي تظهر قوّة السينما أقوى من الأدب ومن حضوره. أمّا محمّد بن زيان، فيقول «حضرت الثورة في النصوص الأدبية، ولكن حضورها سينمائيًا تجاوز نسبيًا حضورها أدبيًا مع الأخذ بعين الاِعتبار التفاوت في الجانب الكمي بين المنجزين السردي والسينمائي». من جهته يرى الشاعر والصحفي خالد بن صالح: أنّ السينما كما الأدب ليست مهمتهما حفظ الذاكرة كما يجب عليها أن تكون، إنّما كما هي في ما ظهر منها وما خفي، وفيما اِتفق حوله واختلف، وفي كلّ التناقضات والصراعات التي هي الأرضية الخصبة للإبداع. كما يذهب الدكتور بورايو، إلى القول «أنّ الأفلام الجيّدة عن الثورة نجدها مستمدّة من عدد قليل جداً من الكتابات الروائيّة». في حين تؤكد الدكتورة جميلة مصطفى الزقاي: «مثلما اِحتفت السينما بالثورة وسايرتها، فإنّ الأدب كان منبراً مُواكبًا للثورة حتّى قبل اِندلاعها، لكن إذا وازنا بين السينما والأدب في تعاطيهما مع الثورة، سنرفع كفة السينما ليس لأنّها فعلاً أكثر اِستجابةً لها، وإنّما لكون الصورة تقوض كلّ كلام وتتربع بخلد المُتلقي الّذي يُفضل المُشاهدة على القراءة». * عبد السلام يخلف/كاتب ومترجم وأكاديمي نتذكر الصورة ولا نقرأ الرواية إنّ اِشتغال السينما الجزائرية على الثورة الجزائرية جاء من خلال التوجهات الإيديولوجية التي رسمتها الدولة آنذاك وهي النظام الاِشتراكي وبناء الدولة الوطنية التي تقوم على الشرعية الثورية وهذا يتطلب التركيز على خلق رموز للثورة وتخليد المآثر التي قام بها المجاهدون والشهداء الذين ضحوا من أجل هذا البلد والتركيز في العموم على الشعب الّذي يُعتبر البطل الحقيقي لثورة التحرير. أعتقد أنّ فكرة «الشعب هو البطل» منحت الثورة قوّة عالمية وجعلتها مرجعًا للشعوب المُناضلة من أجل حريتها. يموت الأبطال وينتصر الشعب هو القيمة الإنسانية التي ترسخت بقوّة في السينما الجزائرية وهذه نقطة تُحتسب لها. فالصورة النهائية للثورة والتي حضرت في السينما هي صورة الشعب الّذي عانى الويلات، وصورة السفّاحين الاِستعماريين الذين اِستعملوا كلّ أدوات القمع والتشريد والتخويف والتقتيل من أجل الحصول على الاِنتصار وذلك لم يحدث. هذه هي الصورة التي ركزت عليها السينما الجزائرية والمُتمثلة في صراع إرادتين، واحدة تعمل على القمع والاِستغلال والأخرى تُناضل من أجل تحرير أرضها ومصيرها من العبودية والذل. إنّ تفاصيل الصراع التي تظهر من خلال مُصادرة الأراضي وقمع السُكان ومُداهمة البيوت والمداشر والحواجز في كلّ مكان وتوظيف الخونة والحركى في مُحاصرة الثوّار والمُتمردين هي خصائص تُبيِّن مدى المُعاناة التي تَحَمَلهَا الشعب الجزائري لأكثر من قرن وذاك يمنح شرعية للثورة التي تُصبح مقدسة وتجلب تعاطف كلّ من يُشاهد هذه الأفلام. «وقائع سنين الجمر» لمحمّد الأخضر حامينة (1974) والحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان الدولي كان لبنة طيبة في هذا المجال بحيث تَمَكن الفيلم من عرض البؤس والمآسي التي تعرض لها الشعب الجزائري والتي لا بدّ تقود للثورة. أظن أنّ حضور الثورة الجزائرية بقوّة كان في الأدب أكثر منه في السينما إذا تحدثنا عدديًا أي مُجمل الروايات والقصص والأشعار التي كُتِبت عن الثورة لكن الاِنطباع الّذي نخرج به حين نريد حوصلة الظاهرة فنجد أنّ الجزائريين يتذكرون جملة «علي موت واقف» من السينما أي من فيلم المخرج أحمد راشدي (1969) وليس من رواية «الأفيون والعصا» لمولود معمري، ويتذكرون مراد بن صافي (لعب الدور عبد القادر حمدي رحمه الله) في فيلم «أبناء نوفمبر» وهو يقول: «لالا عمي العربي وصاني بالاك يطيحوا في يد البوليس» للمخرج موسى حداد (1975) أكثر من أي كِتاب، ويذكرون «دار السبيطار» وجملة «عومار يعطيك كية» من الاِستماع للالة عيني (أدت الدور شافية بودراع) وهي تقولها في الفيلم من إخراج مصطفى بديع (1974) أكثر من اِنتباههم إلى رواية محمّد ديب «الحريق». فهناك سبب أساسي هو أنّ الصورة تبقى راسخة بالذهن إضافةً إلى أنّ الأمية مُستفحلة بشكلٍ كبير وهي من مُخلفات الاِستعمار إضافةً إلى أنّ المقروئية قليلة في الجزائر وبالتالي تظهر قوّة السينما أقوى من الأدب ومن حضوره. لو أخذنا مثلاً رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي التي تمّ عرضها كمسلسل من إخراج نجدة أنزور، ما كانت لتمثل فيلم جزائري عن الثورة لأنّ نظرتنا المُعتادة عن هذا النوع من الأفلام يرتكز على فِعل الثورة كأنّه البطل ولا يقبل للثورة أن تكون خلفية لقصة حب أو ألم. إنّ مسألة نجاح السينما في اِستثمار الأدب مسألة مُعقدة جداً لأنّ السينما تحتاج إلى أموال كبيرة وهو الشيء الّذي تفتقده السينما الجزائرية بسبب اِحتكار الدولة للتمويل وتوجيه الأفلام بالطريقة التي تُرضي أهل السلطة وهذا ما رأيناه في الكثير من الأفلام التي توقفت بسبب الاِختلافات الإيديولوجية وكذا الفنية في عرض شخصية معينة في إطار سياسي مُحدّد لأنّ قضايا الثورة والاِختلافات بين الأشخاص ما تزال موجودة إلى اليوم وهذا ما يخلق صعوبات في اِستثمار الروايات والقصص المكتوبة. إنّ إهمال رواية «اللاز» العالمية للطاهر وطار مثلاً والتي تُعد واحدة من الإشكاليات لأنّ البطل لقيط مُتهور يلتحق بصفوف الثورة وفي الجبل يلتقي زيدان الزعيم الّذي يتم اِغتياله لأنّه لا يريد أن يتخلى عن أفكاره الشيوعية. هذا البُعد الإيديولوجي هو الّذي يقف عائقًا أمام خلق التعدّديّة في النظرة إلى الثورة من كلّ الجوانب. هناك أيضًا مشكلة أساسيّة وهي أنّ السينما الجزائرية لها نظرة مُحدّدة لأفلام الثورة وهي أفلام ترتكز على الرصاص والقتل والسرعة والأدرينالين ولا يوجد دعم للأفلام الهادئة ذات البُعد الجمالي التي تحدث في مرحلة الثورة وهذا أعتقد يُعد عائقًا أساسيًا في اِستغلال الروايات في السينما وكأنّ مرجعية السرد في الرواية ليست هي نفسها في السينما. قد يحدث مُستقبلاً حين تتغير الأجيال. * محمّد بن زيان/ كاتب وناقد وناشط ثقافي حضور الثورة أدبياً كان أَعمق وأدق وأشمل الحديث عن تَمَثُل الأفلام السينمائية للثورة التحريرية، يقتضي اِستحضار السياق الّذي وُلِدَتْ فيه السينما الجزائرية، سينما وُلِدَتْ في جبهة القِتال وانبثقت من رحِم الثورة. واِنطلاقًا من ذلك الاِعتبار كانت الثورة محورية في المنجز السينمائي، خاصةً في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. عقِب اِسترجاع الاِستقلال كانت جُلّ الأفلام مُرتبطة بالثورة، وذلك أكثر من بديهي بحُكم السياق، وأيضًا نتيجة التأثير القوي للثورة في صياغة مجتمع يعيش مرحلة تحوّلات تاريخية حاسمة. بدأت الأفلام بالتركيز على المُواجهات في ساحات القتال وعلى تصوير القمع الاِستعماري، ولكن هناك اِستثناءات قاربت الثورة من زوايا أخرى مثل الفيلم الّذي يعتبر من بدايات سينما مرحلة الاِستقلال أي فيلم «السلم الفتي» للمخرج جاك شاربي الّذي تناول التأثيرات النفسية للحرب على الأطفال ووضع يتامى الحرب عقب الاِستقلال، وفيلم «ديسمبر» للمخرج لخضر حامينة الّذي تطرق للتعذيب ولاِمتحان الضمير الفرنسي. وحضر الأثر النفسي للتعذيب في فيلم «تحيا يا ديدو» لمحمّد زينات. ومن أروع الأفلام التي تناولت الثورة، فيلم «أولاد نوفمبر» للمخرج موسى حداد، فيلم تناول دور الأطفال في الكفاح. ويمكن أن نذكر فيلم «أبواب الصمت» للمخرج عمار العسكري الّذي تطرق لدور جزائريين اِستثمروا عملهم عند الاِستعمار لخدمة الثورة، في حين تناول فيلمه «زهرة اللوتس» العلاقة بين الثورتين الجزائرية والفيتنامية. وكانت مُقاربة ركزت على الجوانب الإنسانية، أي حرّرت تناول التاريخ من القولبة التي تنفي الخصوصية الإنسانية، في فيلمي «حسن طيرو» للمخرج حامينة و»هروب حسن طيرو» لمصطفى بديع، وفيلم «سنوات التويست» للمخرج محمود زموري.. وتعرض فيلم رشيد بوشارب «الخارجون عن القانون» للصراع الدامي بين الأفالان والميصاليين في فرنسا. غلبتْ صورة المعارك والمواجهات بتفاوت وهي غلبة تطبع التعاطي التاريخي الّذي لم يلتفت كما ينبغي لبقية الجوانب وركز على الجانب الحربي. وله بطبيعة الحال أهميته وفي الأفلام المُخصّصة للشهداء التي أُنجِزت مُؤخراً نمطّت السِيَّر ولم يتم التعمُق بتوليد الدلالات الرمزية الثرية والمُلهِمة. حضرت الثورة في النصوص الأدبية، خصوصًا التي اِقترنت ببدايات تبلور الأشكال السردية القصصيّة والروائية، ولكن حضورها سينمائيًا تجاوز نسبيًا حضورها أدبيًا مع الأخذ بعين الاِعتبار التفاوت في الجانب الكمي بين المنجزين السردي والسينمائي. ولكن حضور الثورة أدبيًا كان أعمق وأدق وأشمل من حضورها سينمائيًا. ومع ذلك لا زالت الثورة لم تُصَغْ كما يتناسب مع محوريّتها التّاريخيّة وكثافة دلالاتها. السينما في الجزائر لم تستثمر النص الأدبي وعدد الأفلام التي اِرتكزت على نصوص أدبية محدودة جداً، ولا تشذ أفلام الثورة عن ذلك ومن الأفلام التي تمّ اِقتباسها من نصوص روائية «الأفيون والعصا» للمخرج أحمد راشدي عن رواية مولود معمري، وهو الفيلم الّذي كان تلقيه كبيراً ولا زال.. وهناك اِقتباس لقصة «نوة» للطاهر وطار من طرف عبد العزيز طولبي وهي تتناول فترة تعتبر مفتاحية لاِستيعاب الثورة، كما أَنْجَزَ عبد الرحمن بوقرموح فيلم «الربوة المنسية» بالأمازيغية من رواية لمولود معمري والتي صدرت قبل الثورة. وأقتبس ألكسندر أركادي سينمائيًا رواية «فضل الليل على النهار» لياسمينة خضرة. ولقد تألقت الأفلام التي تمّ اِقتباسها من نصوص أدبية وتُعتبر من أهم ما في ريبرتوار السينما الجزائرية. * خالد بن صالح/ شاعر وصحفي في الأدب كما السينما لا يكفي الوصف الأفلاطوني بِمَا أنّنا لسنا، في اِعتقادي، بحاجة إلى فتح باب المُفاضلة بين السينما والأدب وأيّهما كان سباقاً أو أكثر اِقتراباً من «الثورة» الجزائرية وقضاياها التاريخيّة والإنسانية؛ فإنّنا في الوقت نفسه لا يمكن أن ننكر الهوّة التي تفصل بين النص الأدبي الجزائري رغم تميّز الكثير من الأعمال الروائية والقصصية، والاِقتباس إلى السينما كعملية فنية لها شروطها الخاصة ورؤى أصحابها الفنيّة. وليحضر عرضاً من قائمة قصيرة جداً فيلم «الأفيون والعصا» الّذي أخرجه إلى السينما أحمد راشدي سنة 1969 عن رواية مولود معمري، ولعلّ الإجابة عن سؤال لماذا لم تنشغل السينما بالنص الأدبي الّذي تناول ثورة التحرير؟ تضعنا أمام إشكاليات عديدة، ليس أقلّها أنّ غالبية المخرجين الجزائريين لا يتقنون اللّغة العربية، في ظل غياب جسور الترجمة، خاصةً من العربية إلى الفرنسية والعكس، بالإضافة إلى أنّ عدداً من الروايات والقصص قاربت الثورة من زوايا أخرى، باِنتصاراتها وخيباتها، مُغايرة للخطاب الرسمي والتمجيد المُطلق، وهو ما يقع تحت طائلة الرقابة والمنع طالما أنّ التمويل لا يخرج عن الدوائر الرسمية. إشكالية أخرى، لا تقل أهمية، وهو غياب النقاش العام والمُتخصص حول مفاهيم الاِقتباس، والمُعالجة السينمائية للنصوص الأدبية، وكيفية تحويلها إلى سيناريوهات تصلح كأفلام، ويمكن للرواية الواحدة أن تُعالج سينمائياً بأكثر من سيناريو ورؤية فنية مختلفة. هناك فقرٌ في المفاهيم وأدوات الإنتاج والأفكار الخلّاقة التي تتجاوز فكرة خيانة المخرج للكاتب، والفيلم للرواية، وتضعُ حداً لتدخل الكاتب في مجالٍ غير مجال إبداعه، وتُلزم المخرج بتطوير أدواتهِ لقراءة مُتفحصة للنّص الأدبي الأصلي. لا شك أنّ الإشكالية الأكبر، تقع في دائرة الرقابة، وطالما أنّ التمويل حكومي فهو يحتكم إلى مُحددات تكرّس الخطاب الرسمي والعام على الرؤى الفنية الخاصة، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ الأعمال السينمائية التي تُنجز في الخارج وتُحظى بتمويل أجنبي، تخضع هي الأخرى لمسارات وتوجهات أيديولوجية تُلقي بظلالها على العمل. وأخلصُ إلى أنّ آليات التعاطي مع الأدب كما السينما في اِهتمامهما بثورة التحرير بوصفها أيقونة للنّضال والكفاح ضدّ الإمبريالية الاِستعمارية لدى كلّ الأحرار في العالم، لا يجب أن تقتصر على هذا الوصف الأفلاطوني، في الوقت الّذي تحفر الأعمال الخالدة الأدبية والسينمائية وما بينهما في التجربة الإنسانية ككلّ، بأخطائها ومزاياها، حتّى وإن تناولت تفصيلاً واحداً كمادة للاِشتغال. على مستوى آخر، تبقى المُلتقيات الأكاديمية التي تهدف إلى خلق فضاء للنقاش والتفاعل بين المشتغلين في المجال الأدبي والسينمائي عقيمةً، ما لم تتحوّل إلى ورشات عمل في الميدان، وأن يتوسع النقاش ليشمل مشاريع التعاون وآليات الاِقتباس والخطاب الروائي والسينمائي وغيرها، لأنّ السينما كما الأدب -أعود وأكرّر- ليست مهمته حفظ الذاكرة كما يجب عليها أن تكون، إنّما كما هي في ما ظهر منها وما خفي، وفيما اِتفق حوله واختلف، وفي كلّ التناقضات والصراعات التي هي الأرضية الخصبة للإبداع. * جميلة مصطفى الزقاي/ أستاذة وباحثة أكاديمية وناقدة مسرحية وسينمائية المتلقي يفضل المشاهدة على القراءة كثيراً ما تداول في الشأن النقدي للسينما الجزائرية مصطلح «الأفلام الثورية» فهل هي ثورية أم ملحمية؟ والجواب عن هذا السؤال يعود بالباحث إلى معاينة ريبرتوار أفلام السينما الجزائرية التي واكبت حرب التحرير الجزائرية؛ حيث استخدمت السينما سلاحًا لتدويل الثورة التحريرية وكسب الرأي العام العالمي عن طريق عرض تلك الأفلام في تلفزيونات الدول الاِشتراكية التي اِحتفت بواحدة من أهم الثورات التي عرفها تاريخ البشرية. مع العِلم أنّ السينما الجزائرية تميزت بخصوصية ميلادها وانبثاقها من رحم الثورة صنوة للبندقية وكلاهما تصدى لعنجهية المُستدمر، فتبنت النضال المُستميت ضده مميطة الغطاء عن جرائمه الشنعاء، وهي بذلك سينما النضال لأنّ غايتها القصوى تمثلت في توعية أطياف الشعب الجزائري وشحذ هِممه من أجل المطالبة بحقه المشروع في الاِستقلال مع مُسايرة التحولات الاِقتصادية والسياسية وتقريب القِيم الاِجتماعية التي ترتكز على التلاحم والوحدة بغية تعزيز الروابط بين أبناء الوطن الأم. وهذا ما جعل السينمائيين الجزائريين يلتزمون بخدمة تلك القِيم من خلال تبنيهم قضايا ووقائع حرب التحرير باِعتبارها مادة دسمة لإنتاجهم السينمائي، سواء كانوا جزائريين أو فرنسيين، فقد ترجموا تلك الأحداث في ثلة من أعمالهم السينمائية التي لا تزال الذاكرة السينمائية الجزائرية تحتفظ بها. وعليه تناولت تلك الأفلام الصراع الّذي دارت رحاه بين الجزائريين والقوّة الاِستدمارية المقيتة، مع رفض سطوتها على الشعب واستغلالها لثرواته. ولتجسيد أهداف الثورة وفضح مخططات الاِستدمار تمّ إنشاء فضاء للتكوين السينمائي سنة 1957. ومن أبرز الأفلام الجزائرية الأولى «بنادق الحرية، والجزائر تلتهب» التي نوّهت بالثورة وعملت على تبيان عظمتها، وهذا ما أعطى دفعًا قويًا لتكوين مصلحة السينما التابعة لجيش جبهة التحرير الوطني وقد تعهدها كلٌّ من جمال الدين شندرلي وحناش ومحمّد لخضر حمينة وبيار كليمون وأحمد راشدي... ومثلما اِحتفت السينما بالثورة وسايرتها، فإنّ الأدب كان منبراً مُواكبًا للثورة حتّى قبل اِندلاعها شِعراً وروايةً وقصةً وغيرها، لكن إذا وازنا بين السينما والأدب في تعاطيهما مع الثورة، لا غرو سنرفع كفة السينما ليس لأنّها فعلاً أكثر اِستجابةً لها، وإنّما لكون الصورة تقوض كلّ كلام وتتربع بخلد المُتلقي الّذي يُؤثِر ويُفضل المُشاهدة على القراءة فتأخذ بِلُبه وتتربع الصورة بِمَّا تعرضه من أحداث بذاكرته فَتُؤَثِر فيه وتؤدي الرسالة المنوطة بها. ولولا عقد الوفاق بين الأدب والسينما ما كانت الكثير من روائع الأدب عُرِفَت ولا اِشتهرت، فانتقلت من الورق إلى فضاءات المُشاهدة، وبعدما كانت سجينة دفتي كِتاب صارت جزءاً مُهِمًا في كلّ بيت وذلك بفضل الشاشة الكبيرة. مع العِلم أنّ السينما الجزائرية بدأت تسجيلية ومنها «اللاجئون» لبيير كليمون، و»الجزائر الملتهبة»، و»الهجوم على مناجم الونزة»، و»بنادق الحرية» وغيرها. أمّا الأفلام التي اِرتكزت على أفلمة الرواية أو اُستُمِدت من الإبداع الأدبي فكان لها دورها في تمجيد بطولات الشعب الجزائري بكلّ أطيافه وهي على هذا الأساس أفلامٌ ملحمية تُخلد وقائع الثورة المُظفرة على غرار فيلم «الأفيون والعصا» لأحمد راشدي الّذي اُستُمِدَ من رواية مولود معمري وغيره. وهذا لا يعني أنّ الفيلم الروائي القصير لم يكن موجوداً في السينما الجزائرية، وفي هذا الصدد تبرز السلسلة المكونة للفيلم الجماعي «لجهنم عشر سنوات» التي تحوي لما... جنيت ليوسف عقيقة، و»بالأمس شهود» لعمار العسكري؛ هذين الفلمين الذين رآهما النقد آنذاك على أنّهما متفردان باِعتبارهما فيلمين روائيين قصيرين نظراً لإعدادهما الجيد ولأنّهما يُوظفان اِستثماراً في السينمائية الّذي لا يعثر عليه في الأفلام القصيرة، ذلك أنّه تمّ الاِهتمام فيهما بالكتابة السينمائية بكامل بناء المشهد واللقطة كعنصر يستخلص من خطاب للفيلم حول التاريخ بحسب جمال الدين مرداسي. صفوة القول إنّ السينما الجزائرية والثورة التحريرية يرتبطان بعقد وفاق ليس فقط مع ميلاد السينما وبعتبة الاِستقلال، بل إلى غاية اليوم لا تزال الثورة التحريرية رفيقة للسينما الجزائرية وغالبًا ما تُكلل تلك الرفقة بالنجاح والفلاح. * عبد الحميد بورايو/ كاتب وباحث أكاديمي مختص في التراث سلطة السينما تجاوزت كثيراً سلطة الكتاب قد يكون عدد الأعمال الروائيّة أكبر من عدد الأفلام، بل قد نجد أنّ الأفلام الجيّدة عن الثورة مستمدّة من عدد قليل جدا من الكتابات الروائيّة، وبالتالي من منظور كميّ لا يمكن المقارنة بين عدد لا بأس به من الروايات التي عالجت الثورة وبين عدد قليل جداً من الأفلام حول الثورة. غير أنّ سلطة السينما في فترة ما بعد الاِستقلال تجاوزت كثيراً سلطة الكِتَاب، لعدة أسباب من بينها ضُعف المقروئيّة، وانتشار الأمية خاصةً في العقود الأولى من الاِستقلال، وتقديم الأفلام في التلفزيون الّذي أصبح وسيطًا جماهيريًا لا يستغني عنه أيّ منزل. كلّ ذلك جعل مشاهدة أفلام الثورة يفوق بدرجة كبيرة قراءة الروايات، بحيث لا يمكن المقارنة بينهما. ويظل طبعًا هناك فرق بين السينما كأداة لتصوير الثورة، من حيث كونها محدودة زمنيًا أكثر من الكِتاب، واعتمادها على الصورة والصوت والديكور كإمكانيات محدودة أيضا لتجسيد الوقائع، بينما تتميز الرواية بإثارتها للتخييل وحرية بيان التفاصيل وتقنيات السرد والوصف سعة الفضاء الورقي، وإمكانية اِستعادة المعلومة وسعة المُراوحة بين الأمكنة والأزمنة اِلخ... تجدر الإشارة إلى أنّ سينما الثورة في الجزائر اِستفادت كثيراً من عفويّة الشخصيات التي اِضطلعت بتمثيل أدوار الفاعلين في الثورة، ومعظم هؤلاء لم يكونوا ممثلين محترفين، بل كانوا أُناسًا عاديّين تم اِختيارهم للتمثيل، وكانوا قد عايشوا الثورة، فتمكنوا من القيام بالأدوار بصدق وقدرة عالية على التعبير -مثلما هو الحال في فيلم معركة الجزائر-، وقد أسهمتْ عفويتهم في إنجاح هذه الأفلام حتّى وإن كانت قد أُسنِدت لهم أدوار ثانويّة. ويمكن أيضًا رصد مثل هذه العفوية والقدرة على التمثيل عند ممثلين محترفين كانوا قد عايشوا وقائع الثورة. مثل هذه الخاصية التي ساعدت كثيراً مخرجي الأفلام على تقديم أعمال جيّدة، لا تتوفّر بالنسبة للروائيّ الّذي عليه أن يعتمد على نفسه فيكدّ ويجتهد في بناء شخصياته وعالمه الروائي الّذي يُجسّد وقائع الثورة والفاعلين فيها.