مولود معمري.. صلح الذاكرة فضّل المشرفون على الاحتفالية بمئوية ميلاد الكاتب والمفكر مولود معمري في ملتقى نظم نهاية الأسبوع بوهران، اختيار العلاقة التي ربطت الباحث الراحل بالسينما سواء عن طريق إقتباس مؤلفاته أو مساهماته هو شخصيا فيها، وأجمع المشاركون على ضرورة اغتنام فرصة هذه الإحتفالية للإنطلاق في العمل من أجل جعل تراث مولود معمري ذا بعد وطني مشترك في الذاكرة الجماعية لكل الجزائريين، وكذا لجعل أعمال مولود معمري في الأنثروبولوجيا والبحث والأدب، ملهمة للمثقفين الجزائريين لتناولها في دراسات من شأنها إبراز الأبعاد الثقافية والتراثية الأمازيغية التي تعد أحدى مقومات الهوية الجزائرية. ورغم توافق الرؤى حول أهمية تنظيم احتفالية مئوية ميلاد مولود معمري، التي تستمر لعدة أشهر وتقام بمختلف ولايات الوطن، إلا أن ملتقى وهران عرف جدلا متعدد الأطراف تباين بين اللغة والسينما والقيم الفكرية. دسترة الأمازيغية أخرجت معمري من «ربوته المنسية» تقاطعت آراء المحاضرين والجمهور خلال الملتقى حول ضرورة العمل من أجل إعادة بعث أعمال مولود معمري التي تكاد القطيعة الإبستيمولوجية أن تبقيها في "الربوة المنسية"، وفيما تساءل الجمهور عن إيجاد آليات أكاديمية وفكرية وكذا ثقافية لتجسيد هذا المسعى، دعا المحاضرون لتضافر جهود جميع الفاعلين من أجل بلوغ هذا الهدف. فكما أوضح الأستاذ محمد بن صالح فإن النص الدستوري رسّم الأمازيغية لغة رسمية، إلا أن إعادة الإعتبار وتأهيل الثقافة واللغة الأمازيغية لتكون إرثا مشتركا بين جميع الجزائريين مثلما أرادها معمري، تتطلب اليوم العمل أكثر على عدة أصعدة منها مثلما ركز المتدخل، إعادة دراسة وتقييم الكتابات التي أنجزها عدة باحثين أنثروبولوجيين وسوسيولوجيين جزائريين حول مولود معمري وهذا بهدف إعادة هذه القامة الفكرية للساحة والاستفادة من أعماله، واقترح الأستاذ بن صالح إطلاق تسمية مولود معمري على جامعات أو مؤسسات في ولايات الوطن حتى تكون مؤشرا للطلبة أو المواطن العادي لكي يتساءل ويبحث عن هذه الشخصية كي لا يطمسها النسيان، وطالب أيضا بدراسة إمكانية نشر ما كتبه معمري من كتابه الأخير الذي مات ولم ينه تأليفه، وهذا تكريما له. وقال بن صالح أنه تعرف على مولود معمري في السبعينيات عندما جاء لجامعة وهران لتقديم محاضرة، مشيرا أن الإحتفال بمئوية مولود معمري هي فرصة لإعادة إحياء فكره وأعماله. بينما تناول الأستاذ عبد المجيد بالي وهو أيضا عضو اللجنة العلمية للملتقى، مسألة ترسيخ الأمازيغية في التراث الثقافي الجزائري المشترك، مبرزا أنه رغم دسترة الأمازيغية لغة وطنية، إلا أن هذا المكسب يتطلب الوعي أكثر بضرورة مواصلة العمل وإستكمال المسار للحفاظ وترقية هذا التراث الذي يشترك فيه كل الشعب الجزائري بعيدا عن كل الأحكام المسبقة، داعيا في الوقت نفسه الباحثين للإرتكاز على الطرق العلمية في تدوين والحفاظ على هذا التراث المشترك خاصة وأن اللغة الأمازيغية متوفرة عبر الوسائل التكنولوجية الحديثة، مضيفا أن إحياء مئوية مولود معمري رغم أنها ستدوم على مدار السنة الجارية من خلال العديد من الفعاليات الفكرية عبر مختلف جهات الوطن، لا يجب أن تكون غاية في حد ذاتها، بل لا معنى للإحتفالية إذا لم ترمِ لإستعادة جماعية لأفكاره وأعماله ونضاله من أجل إعادة الإعتبار وترقية البعد الأمازيغي في الثقافة الوطنية مثلما أرادها والتزم بها معمري من خلال مؤلفاته. وثمن المخرج أحمد بجاوي من جهته، مسألة إحياء مئوية مولود معمري في عدة ولايات من خلال مختلف الإحتفاليات، واعتبر هذا النشاط مكسبا لكل الجزائريين يعمق البعد الأمازيغي في الثقافة الوطنية، وركز المتدخل على أنه يجب على المخرج السينمائي خلال إقتباسه أو إسقاطه لأحداث الرواية، مراعاة ليس فقط لغة الرواية بل حتى اللغة الضمنية للكاتب مثلما يمكن أن نستشفه من روايات معمري المكتوبة بالفرنسية وتخفي بين طياتها لغة أمازيغية غير معلنة يجب على السينمائي إبرازها وإعطائها مكانتها حتى تنجح الأعمال، وحسب بجاوي، فإن جيله قدم ما عليه ولازال يواصل، ولكن "الثورة الفكرية الهادئة" يحدثها الشباب المبدع مثلما أحدثها معمري منذ كان سنه 20 سنة، داعيا الجيل الجديد للإهتمام بأعمال معمري وإعادة إنتاجها في قالب عصري يعتمد على التكنولوجيات الحديثة مثلا كإعادة إنتاج فيلم "العصا والعفيون" برؤية جديدة تواكب الوقت الحالي وهكذا بالنسبة للأعمال والنصوص التي تركها "الدا المولود" والتي تستدعي تمحيصها واستخراج ابداعات فنية وثقافية معاصرة. مبدعون وسينمائيون يبحثون عن «لغة» لمخاطبة الجزائريين حصرت الأستاذة الباحثة مالحة بن ابراهيم بن حماوش وهي عضو اللجنة العلمية للملتقى، مداخلتها في التركيز على المفاهيم التي جعلها مولود معمري محورا لتحديد توجهه الفكري من أجل الدفاع عن الثقافة والحضارة الأمازيغية التي صمدت على مدار العصور ، مشيرة أن هذا التوجه ظهر جليا في كتابات معمري منذ نصه الذي كتبه وهو لم يتجاوز 20 سنة، والمتمحور حول المجتمع البربري وكان هذا سنة 1938، ومن خلاله تطرق معمري لثلاثة ركائز لغوية ذات أبعاد حضارية وهي «أوال، أموسناو، أسفرو» بمعنى «الكلمة،رجل المعرفة والحكمة،القصيدة»، جعلت منه محاميا للمسألة الأمازيغية في أبعادها الثقافية والحضارية التي صمدت أمام كل محاولات محوها من طرف الإستعمارات المتتالية على المنطقة عبر العصور المختلفة، ودعت المتدخلة لضرورة تناول هذه المفاهيم الهوياتية بشكل موسع من طرف الباحثين والأكادميين. وقد أثارت مسألة اللغة جدلا خلال الملتقى، حيث أكد متدخلون أن معمري لم يكتب بالأمازيغية بل بالفرنسية حتى يتسنى لشريحة عريضة من القراء الإطلاع على مؤلفاته خاصة في تلك الفترة التي كانت فئة المهتمين بالرواية والمؤلفات الفكرية تتخذ من اللغة الفرنسية لغة قراءة وخطاب، واستند هؤلاء على ما قاله معمري في مقالات وحوارات أجراها للرد على من انتقده كونه كان يكتب باللغة الفرنسية، وأثناء فعاليات الملتقى، وجد المخرج السينمائي أحمد راشدي نفسه أمام أسئلة من ذات الفصيل، حيث طرح عليه المشاركون مسألة لماذا أنجز فيلمه «العفيون والعصا» باللغة العربية وهو الفيلم الوحيد الذي تم إقتباسه أو إسقاطه سينمائيا من رواية لمولود معمري، فكان رد راشدي أن الظرف الذي تم أثناءه تحضير الفيلم كان يضطره للإستناد للغة العربية مضيفا أنه حتى السيدة المسنة التي جسدت دور والدة «علي» والتي لا تعرف سوى الأمازيغية كان السيناريو يطالبها بإجابة «رويشد» بالعربية ولكنها رفضت وبالتالي تم حذف الكلمات من السيناريو. وظلت مسألة «لغة الجزائريين» محور نقاش خلال فعاليات الملتقى، لدرجة أن المخرج السينمائي بلقاسم حجاج إعترف أنه كلما بدأ في تحضير عمل فني يصطدم بإشكال اللغة مبرزا في هذا الصدد «كلما أردت إنجاز فيلم سينمائي أصطدم بحاجز اللغة، لا أدري أي لغة اختار كي يفهمني كل الجزائريين» مبرزا أن الفيلم السينمائي الناجح هو الذي يستطيع من خلاله المخرج وكاتب السيناريو إعادة تأسيس لغة الحوار بين الجمهور والعمل الفني، ليعرج في رده على بعض التساؤلات لماذا لا يلجأ السينمائيون الجزائريون للدبلجة، إلا أن هذه الأخيرة ذات بعد تجاري من أجل تسويق الفيلم في عدة بلدان حتى يتسنى لجمهور تلك البلدان مشاهدة العمل بكل أريحية، ولكن الدبلجة تخضع لشروط فنية وتقنية. «العفيون والعصا».. راشدي يفصل في جدل السبعينيات كانت مداخلة المخرج أحمد راشدي خلال الملتقى عبارة عن مرافعة كشف فيها حقيقة اللبس الذي لازم فيلمه «العصا والعفيون» لعقود من الزمن والمتمثل في أن مولود معمري لم يكن راضيا عن الفيلم وأن راشدي استثنى شخصية «عميروش» من السيناريو وغيرها من الأمور التي طرحت على المخرج من طرف الحضور، حيث قال أن أول لقاء له مع مولود معمري كان بالعاصمة حين طلب راشدي لقاءه من أجل أن يكتب له تعليقا لفيلمه الوثائقي الذي كان بصدد تصويره في إيطاليا والذي يتناول الحرب التحريرية، ويضيف راشدي أنه بعد تردد كتب معمري 9 صفحات بخط اليد لخص من خلالها بشكل مبهر وفق راشدي كل ما حمله الفيلم الوثائقي من أحداث رغم أن معمري لم يكن قد شاهد هذا العمل، ومن هنا بدأت العلاقة تتوطد بين الرجلين اللذان تجاذبا الحديث لاحقا حول تحويل العفيون والعصا من رواية لفيلم، على طاولة لعبة «الدومينو»، وأكد راشدي أنه لم يتفق مع معمري على بعض التفاصيل لأن الفيلم السينمائي يحمل بصمة مخرجه ولكن معمري لم يمانع بل انتقد بلغة مسالمة مثلما قال راشدي، الفيلم عندما صدر قائلا «أنا كتبت رواية رومانسية وأنت أخرجت فيلم واستيرن»، مبرزا أن معمري هو الذي أرشده للقرية المناسبة في منطقة القبائل أين يمكنه أن يصور أحداث الفيلم التي حضرت والدة أحمد راشدي تصوير آخر مشهد فيها واستاءت لمقتل «علي» الذي أدى دوره المرحوم سيد علي كويرات. وبخصوص ما قيل بأن راشدي «حذف» دور الكولونيل عميروش من السيناريو، فهذا غير صحيح مثلما أكد المخرج لأن النص الأصلي لمعمري لم يتحدث عن الكولونيل عميروش بل عن شخص أسماه عميروش وأضاف راشدي أن المؤلف بحد ذاته سبق وأن أجاب عن هذا السؤال ونفى أن يكون قد أدرج الكولونيل عميروش في كتابه، ومن هنا أفاد راشدي أن شخصية الكولونيل عميروش تستحق أن ينجز لأجلها فيلم خاص وأنه إذا أتيحت له الفرصة وساعدته الظروف سينجزه لإعطاء عميروش مكانته الحقيقية عبر أحداث فيلم سينمائي، وواصل راشدي تطرقه لهذه النقطة، بأن صديق له أصدر خلال السنوات الماضية مؤلفا تضمن أن راشدي تلقى أوامر من رئيس الجمهورية آنذاك من أجل حذف عميروش من الفيلم، وإمتعض راشدي كثيرا لهذا التصريح الذي مات صاحبه، ونفى نفيا قاطعا أن يكون لحذف دور المواطن عميروش أية علاقة بالسياسة أو بحسابات أخرى مشددا «الدور يتعلق بشخص عادي يقطن القرية واسمه عميروش ويتدخل لمدة 30 ثانية فقط في الفيلم، وحذفه أمر عادي للضرورة الدرامية»، بينما إنتفض راشدي من خلال رده على أسئلة الحضور خاصة إحداها المتعلق بوجود مشروع لدبلجة الفيلم للغة الأمازيغية، حيث أوضح المتحدث أنه سمع عن هذا المشروع ولكن لا أحد استشاره وهو صاحب الفيلم، مبديا عدم اعتراضه على ذلك ولكن مع حفظ الحقوق وكذا مراعاة القوانين الدولية التي تمنع الدبلجة دون موافقة أصحاب الفيلم، وكذا مراعاة السياق الدرامي والتقني للفيلم حتى لا يحيد عن مغزاه الأصلي. وطرحت على راشدي أيضا أسئلة أخرى متعلقة ب »العصا والعفيون» منها سؤال يخص إختيار الممثلة «ماري جوزينات» حيث اعتبرها الحضور فرنسية وكان من الأجدر إختيار ممثلة جزائرية، وهنا برر راشدي إختياره بأن «ماري جوزينات» والدها جزائري، ومن جهة أخرى الدور كان يليق بها. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرّم مولود معمري في طبعته العاشرة كشفت محافظة مهرجان وهران للفيلم العربي مؤخرا، أنها ستكرم القامة الفكرية الجزائرية مولود معمري بمناسبة مرور قرن من الزمن على ميلاده في إحدى القرى القبائلية بآث يني في تيزي وزو سنة 1917، ويأتي تكريم معمري لعلاقته بالسينما التي جاءت عن طريق تحويل روايته "الأفيون والعصا" لفيلم سنة 1969 بعد أربعة سنوات من اصدارها حيث تولى أحمد راشدي إخراج العمل الذي سجل في تاريخ السينما الجزائرية، وسيتم تكريم معمري خلال فعاليات المهرجان على مساهمته في إلهام السينما بمؤلفات وصل صداها للعالمية. وأكد المخرج أحمد بجاوي خلال لقاء وهران، أنه لا يمكن الحديث عن السينما الأمازيغية دون التطرق لمولود معمري الذي يعتبر أحد روادها، مشيرا أنه سنة 1963 كتب معمري سيناريو "القرية المحروقة" وهو على شاكلة "العفيون والعصا"، وهذا ما يعكس حسب بجاوي، الإهتمام المبكر والخاص لمولود معمري بالسينما، وقضى عقود من الزمن في الكتابة والبحث إلى أن وافته المنية إثر حادث مرور قرب عين الدفلى عام 1989.