كريستن سكوت هي واحدة من الأصوات الشعرية الأمريكية المهمة التي اختارت الكلمة كسلاح ضد الظلم والقبح والتمييز العنصري، لم تكتف بتدبيج القصائد وإلقائها، بل راحت، استجابة لنداء روحي خفي وتوقا لحرية أوسع وفضاء مديد لفنون القول كما تقول، تؤسس لمنابر أدبية وثقافية نشطة وفاعلة في الميدان، بحيث استقطبت جماهير واسعة من الأدباء و القراء المتذوقين، على غرار مجلة « KNOT Magazine. « الإلكترونية التي عمرت طويلا وصمدت رغم كل المعوقات المادية والمعنوية، و لا تزال إلى غاية اليوم تمارس حضورها البهي المتألق. وقد صدرت للشاعرة حتى الآن عدة مؤلفات منها مجموعتان شعريتان في انتظار مجاميع أخرى وعدت بنشرها قريبا، كما أن قصائدها نشرت في عدد معتبر من الأنطولوجيات العالمية، وللشاعرة اهتمامات أكاديمية أيضا، حيث تعكف على إتمام أطروحتها للدكتوراه و كانت رسالتها لنيل درجة الماجستير (التي تعادل درجة الدكتوراه Ph.D )حول الكتابة الإبداعية، وتتويجا لكتاباتها الزخمة حصلت سكوت على عدد من الجوائز، منها جائزة عن دراسة لها حول شعر فيديريكو غارسيا لوركا، وفي هذه المقابلة سنستطلع رأي الشاعرة كريستن سكوت بشأن مسارها الشعري والإعلامي فضلا عن قضايا أخرى ذات صلة.. حاورها : رشيد فيلالي لقد تعرفت عليك وتابعت نشاطك الأدبي الحثيث، الذي لم يصبه الكلل رغم كل الظروف الصعبة ، وذلك منذ أكثر من 15 عاما ، أريد أن أعرف من أين تستمد الشاعرة كريستين سكوت هذا الشغف غير المحدود إلى كل ما هو ثقافي؟ - أولاً ، ويا لدواعي سروري أن أعرفك على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية ، وأشكرك على هذه الأسئلة.. إن شغفي بالتعددية الثقافية يأتي من عدة جهات مختلفة، أتصور أن أحدها مصدره نزعة الفضول لدي تحديدا، كنت متعلمة فضولية واستمتعت بالحكايات القادمة من الأراضي البعيدة حتى عندما كنت مجرد طفلة محدودة الوعي بالحياة عموما.. ما زلت أشعر بالفضول الطاغي ولدي عطش لا يرتوي للمعرفة، كما أن شغفي منبعه توقي إلى العدالة والمساواة، فضلا عن نفوري الكبير من الظلم بسبب الجهل الثقافي.. أخيرًا ، أضيف إلى أن والدتي تعتبر مسؤولة جزئيًا عن حبي لكل ما هو ثقافي ككل. لقد نشأت في وسط محب للموسيقى والبرامج الإذاعية المختلفة وهو ما جعلني أنغمس في تأملات ثقافية ثرية، حيث كنت محاطة بكل هذا الزخم الفذ. على حد علمي ، لقد نشرت مجموعتين شعريتين حتى الآن. هل يمكننا معرفة أسباب عدم قيامك بنشر مجموعات شعرية أخرى ، مع العلم أنك ما زلت تكتبين الشعر بغزارة؟ - على مدى السنوات السبع الماضية ، كانت ربة الشعر لدي تجيء وتذهب.. لدي لحظات أكتب فيها بغزارة لمدة أسبوع ، ثم أصاب بالعقم فلا أكتب شيئًا لمدة عام.. بالنسبة لي ، يأتي الإبداع على شكل موجات متعاقبة ، وعندما أنفقها كلها على الطلاب ، فإنها لا تتحول بسهولة إلى كتابات.. أنا حاليا مشغولة جدا بالعديد من المشاريع المختلفة ، ومن الصعب إيجاد وقت كاف أمارس فيه شغفي بكتابة الشعر.. لكن شكرا لك على طرح هذا السؤال.. سوف أجعل من بين أهدافي القريبة إصدار ديوان شعري جديد. لقد واجهت صعوبات في مسيرتك الأكاديمية ولهذا السبب لم تكملي أطروحة الدكتوراه ، فهل هناك أي جديد حول هذا الموضوع؟ - لم أواجه صعوبة في مسيرتي الأكاديمية؛ و الأمر بالأحرى له صلة بمحدودية الوقت.. وكلما أجد كفاية منه ، أشتغل على إكمال رسالة الدكتوراه ، لكن في كل مرة أصطدم بمسؤوليات «الحياة» ، وهو ما يفرض علي تأجيل العمل لفرصة أخرى وهكذا دواليك.. أنا متأكدة من أنني سأحصل على درجة الدكتوراه وذلك خلال العامين المقبلين إن شاء الله! وقد أخبرني أحد العرب الحكيمين ذات مرة أنه كان عليه أن يسرق الوقت للكتابة والحصول على شهاداته ، وأنا أجد ذلك صحيحًا في حياتي.. ومع هذا أذكر بأن لديّ ماجستير في الكتابة الإبداعية ، وهو ما يعادل درجة الدكتوراه. هل كريستن سكوت لديها إطلاع على الأدب العربي عامة والأدب الجزائري خاصة؟ - في الحقيقة عندما كنت في بواكير الطفولة قرأت ألف ليلة وليلة باللغة الإنجليزية.. لقد شاهدت أيضًا كل فيلم من أفلام سندباد يُعرض لأول مرة على التلفزيون الأمريكي ، لذلك كنت دائمًا أشعر بالفضول الطاغي بشأن الثقافة العربية.. وعندما كبرت وصرت امرأة ، درست ابن رشد وابن سينا والرومي..وضمن هذا السياق أشير إلى أنني تحصلت على جائزة عن دراسة أنجزتها حول ديوان الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا ، وهو كاتب متأثر جدا بالثقافة والكتابات العربية (القصائد والغزليات) في إسبانيا الأندلسية.. بالطبع ، ثمة مصدر للكثير من معرفتي بأعمال المرحوم المرشح الأكبر لجائزة نوبل وبوليتزر، الدكتور سام حمود ، وهو مرشدي أيضا.. أما فيما يتعلق بالأدب الجزائري ، فلا يوجد الكثير من الأعمال المترجمة إلى اللغة الإنجليزية.. وقد قرأت أعمال جعفر شطوان ونوفل بوزبوجة و مع توفر المزيد من العناوين باللغة الإنجليزية ، سأقرأها بالتأكيد. أنت امرأة أمريكية مسلمة ، ألا تلاحظين أن الغرب لا يزال ينظر إلى المسلمين بازدراء وعنصرية ، رغم أن الحضارة الإسلامية أعطت الكثير للإنسانية؟ - نعم ، أنا فخورة بكوني امرأة أمريكية مسلمة..وفضولي حول الإسلام بدأ أثناء إقامتي في ناشفيل بولاية تينيسي، حيث اتصلت بمسجد هناك وأردت أن أطلع قدر الإمكان على العقيدة الإسلامية.. في ذلك الوقت ، لم أكن قد تعاملت مع أي مسلم ولم أقابل مسلمًا متدينًا، كان تفكيري منصبا- وهو ما يتعلق بسؤالك- على النظرة الغربية للإسلام.. ومنذ نشأة أمريكا ، تم شيطنة الثقافات الأخرى التي لا صلة لها بثقافة الإنسان الأبيض ، والتي بدأت أول مرة مع الأفارقة والأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر).. ومن هنا فقد توارث الكثير من الأمريكيين الخوف من أي شخص ليس أبيض البشرة على مدى عدة أجيال متعاقبة ، وما زلنا نرى هذا قائما إلى غاية اليوم. أما بخصوص النظرة إلى الإسلام في الغرب فهو موضوع يتضمن تعقيدات وتشابكات كثيرة ، علما بأن دواعي الاستعلاء والعنصرية منتشرة بقوة في عالمنا.. كما أن التعليم هو أحد مفاتيح فهم الآخر ، وفي الوقت الحالي ، يرغب العديد من السياسيين في حظر التعلم متعدد الثقافات.. ومن جهة أخرى كثير من الأمريكيين ليس لديهم أي فكرة حول مظهر المسلم أو ما يؤمن به أو جمال ثقافته.. من جديد ،أشير إلى أن التغيير يأتي مع التعليم ، ولهذا السبب أطلقت مجلة KNOT. فلسطين قضية إنسانية قبل أن تكون قضية عربية.. كيف تنظر كريستن سكوت إلى هذا الظلم الفادح الذي يتعرض له الفلسطينيون، بتواطؤ المجتمع الدولي، وهل سبق لك أن كتبت حول هذا الموضوع؟ - فلسطين هي أزمة إنسانية بالدرجة الأولى ولدي قناعات راسخة بشأن الظلم الكبير الذي يتعرض له الفلسطينيون يوميًا.. أحيانًا يكون من المهين أن تسمع عن معاناة هذا الشعب الممضة و لا يتغير شيء.. صحيح العالم كله متواطئ فيما يخص هذه القضية.. لا يمكن للمرء أبدًا السماح للمعاناة بأن تصبح طريقة حياة مقبولة من خلال غض الطرف عما يجري في فلسطين ومناطق أخرى من العالم.. لقد كتبت عن ذلك ونشرته في وسائل إعلامية مثل الجزيرة.. كما أنني أيضا بصدد إنجاز رسالتي للدكتوراه حول هذا الموضوع. وباء كورونا أخطر كارثة صحية سجلت على المستوى العالمي ، وفي ذروة هذا الوباء فقدنا الكثير من أقاربنا وأصدقائنا ومعارفنا ، كيف عاشت كريستن سكوت هذا الحدث المرعب؟ - لقد غير كوفيد19- حياتي بالتأكيد..و خلال بداية انتشار هذا الوباء ، كنت أقوم بالتدريس في جدة بالمملكة العربية السعودية. وكان زوجي وأبنائي متواجدين في تركيا ، وبما أنني لست بعد مواطنة تركية كاملة الحقوق ، لذلك لم يُسمح لي بالعودة إلى منزلي العائلي، وبعدما تم إغلاق المدرسة التي أدرس بها في المملكة العربية السعودية ، كنت أقوم بالتدريس عبر الإنترنت بمفردي لعدة أشهر قبل أن ترتب السفارة الأمريكية السفر إلى أمريكا للمواطنين الأمريكيين المقيمين بالسعودية.. كان الأمر مروعًا حقا.. ومع ذلك ، أنا ممتنة لأنني لم أفقد أحد أفراد عائلتي من جراء وباء كوفيد ، وأتعاطف مع أولئك الذين عانوا من فقدان أفراد من أسرهم على مستوى العالم.. أنا أعتبر نفسي محظوظة للغاية. برأيك ما الذي يمكن للشاعر أن يقدمه للبشرية ، خاصة وأن المال أصبح إله العصر الأعظم ، ولم يعد فيه للكلمة ثقل عاطفي مؤثر كما كان عليه الحال من قبل؟ - تعرف لطالما قدم الشعراء للعالم المنطق الإنساني والتواصل الرحيم.. يشير الشعراء إلى العقلانية عندما تصبح البشرية متقلبة لا تستقر على رأي ؛ يتحدون عندما يرون الانقسام وتشظي الصفوف ويتحدثون بصوت عال وبشجاعة حيال القضايا الشائكة.. إنهم يفضحون أولئك الذين يريدون أن يظلوا ينشطون في الخفاء.. الشعراء هم منارة كل جيل ، مما يشكل خطورة على المتسلطين والطغاة. أفكر في جوزيف برودسكي البالغ من العمر 23 عامًا ، الذي قدم للمحاكمة في لينينغراد ، وأعدم القوميون غارسيا لوركا في إسبانيا الحبيبة ، وكان على نيرودا أن يختبئ بسبب ملاحظاته حول غابرييل غونزاليس فيديلا. لسوء الحظ ، لم يعد ينظر إلى الشعراء في الغرب كما كانوا من قبل.. ومع ذلك ، أصبح الشعر الإيقاعي الموسيقي شائعًا في أمريكا ، وخاصة بين الشباب الأمريكيين من أصل أفريقي. عندما قرأت الشاعرة أماندا غورمان قصيدة» The Hi- - We C- imb التل الذي نصعد إليه» -ألقتها في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن- فإنها عرَّفت هذا النوع من الشعر إلى الغرب . طيب ما الذي تقرأه كريستن سكوت هذه الأيام ، وأي كاتب أو مؤلف تنصح بقراءة كتبه؟ - أحاول دائمًا تخصيص وقت كاف للقراءة، ولو لعشر دقائق في كل مرة.. أنا أطالع الآن السير الذاتية المكتوبة حديثا.. لقد اشتريت مؤخرا فقط مذكرات فيولا ديفيس الحائزة على جائزة الأوسكار Finding Me. إنه عمل مكتوب بشكل جميل يؤرخ لصعود فتاة صغيرة من الفقر وسوء المعاملة إلى استعادة العافية والأمل والنجاح..كما أنني دائمًا ما أبقى على مقربة من نصوص نيرودا وغارسيا لوركا وفايز وقباني. سؤال أخير لو تسمحين، هل هناك مشاريع كتب ستنشرها كريستن سكوت في المستقبل وماذا يعني اسم الجزائر لك؟ - نعم ، أمنيتي أن أنشر ديوانا شعريًا جديدًا قريبًا.. أنا أعمل في الوقت الراهن على نص نثري ، وهذا يعتبر بالنسبة لي تجربة أولى.. والفكرة خطرت لي تفاصيلها في المنام.. لدي أيضًا سيناريو أقوم بمراجعته ، وسأواصل كتابة مقالات صحفية حول قضايا قريبة من قلبي. بالنسبة لاسم الجزائر ، أعتقد أنها مجسدة في طالبة من أصول جزائرية وتعتبر واحدة من الطلبة المفضلين لدي، ممن درستهم في المملكة العربية السعودية.. لذا، إذا كانت الجزائر مثل «يارا» وهو اسمها ، فهي شابة متفائلة وذكية ولطيفة ومحترمة.. أنا لم أزر الجزائر بعد ، لكنها بالتأكيد مدرجة ضمن قائمة البلدان التي يمكنني اكتشافها! أشكرك على أسئلتك؛ لقد كان من دواعي سروري قضاء بعض الوقت مع قرائك. عنِ الكتابةِ في تعاليها بعيداً عنِ التجنيسِ والنوع «الروايةُ اليومَ ليستْ حكايةً للتسلية، وإنَّما جدلٌ حضاريٌّ وخطابٌ تاريخيٌّ ورؤيةٌ معرفيةٌ وكشوفاتٌ نفسيةٌ ورؤيا عجائبيةٌ وسحريةٌ وغرائبيةٌ مدهشة...» - (الرِّوائيُّ برهان شاوي،عنْ مرجعيَّاتي الأدبيَّة...)1 جمال فوغالي يسألُني بعضُ الذينَ يتابعونَ ما أكتبُ هنا، بهذا الفضاءِ الذي لمْ يعدْ أزرق، والذي لا علاقةَ لهُ البتَّةَ بالسماءِ الصادقةِ التي تسكنُ بعضَ أفراحِنا والكثيرَ منَ الأحزان،والألى يقرأونَ أعمالي الأدبيةَ المنشورةَ منذُ سنواتٍ خلتْ،في القصةِ القصيرةِ والنقدِ والنصوصِ المفتوحةِ على الكتابةِ الآهلةِ بما يسميهِ الروائيُّ المبدعُ إدواردْ الخراط عبور الأنواع: لماذا لا تكتبُ الروايةَ وأنتَ تمتلكُ القدرةَ على ذلكَ لغةً وسرداً و مِخيالاً ومعماراً وشخوصاً وأصواتاً سرديةً وخطاباتٍ يتداخلُ فيها الواقعيُّ بالأسطوريِّ والمتخيلُ بالتاريخيِّ؟ وما الرِّواية؟ ينهضُ السؤالُ مِلْحاحاً، شديدَ النَّبرة، حادَّ المزاج: وماذا أتركُ للروائيينَ كيْ يكتبوا على كثرتِهمْ التي لا تُعَدُّ ولا تحصى وهمْ في كتابٍ مرقوم؟ وماذا سيتركونَ لي ما أكتب؟ ولهمْ ما يشاؤونَ مِمَّا يكتبون، ولي ما أريدُ مِمَّا أكتب، وتلكَ قناعاتهمْ وهذي اختياراتي، ولْيتحمَّلْ كلٌّ منَّا القناعاتِ التي يؤمنُ بها والاختيارات، والكتابةُ واسعة، فلْنسِحْ فيها، ولا يضيقُ اتِّساعُها على أحدٍ منْ أحد، وهمْ لا يتزاحمون... والكتابةُ بحورٌ وفلواتٌ وسماواتٌ وصحارَى وجبالٌ تضربُ بأوتادها في الأعماقِ منَ الحجارةِ والألواحِ والبردي،وهي أمواجٌ يدفعُ بعضها بعضاً وصهَدٌ وحرائقُ وأنواتٌ مختلفات، في تعدُّدها والتَّنوع، ويقرأُ بعضُ النقادِ ما أكتبُ وما يكتبُهُ غيري منَ الشعراءِ والقاصينَ والرِّوائيين، ويريدونَ عنوةً أنْ يخضعوا ذلك »لسريرِ بروكستْ»، فيرفعونَ الحضيضَ كيْ ينزلوا إلى أسفلهِ تقطيعاً وتمديداً، وقدْ أخذوا ذلكَ منْ»بروكستْ»، وسريرُهُ الحاقدُ منْ زبرِ الضغائنِ يشهدُ على ذلكَ عبرَ العصور... والكتابة، ويعلمونَ منذُ الخلقِ الأول، انفتاحٌ فوقَ التجنيسِ وتجاوزٌ للأنواع، وهي التي يتخلَّقُ عندها الإبداعُ في ثرائهِ منْ مُضغةٍ مخلَّقَةٍ وغيرِ مخلَّقة... وليسَ لي غيرُ ما أحبُّ منْ لغتي وما أشاء، وتلكَ حريتي، وقدْ أصبحتِ الروايةُ حِلْساً لمنْ لاَ حِلْسَ لهُ منذُ تلكَ الصيحةِ العارفةِ بالدرسِ النقديِّ وقدْ مضى عليها دهر، هذا زمنُ الرواية،ديوانُ العربِ الجديد، وأصبحتِ الصيحةُ منْ أرضِ الكنانةِ كالنَّارِ في الهشيمِ منْ أعمارنا مذَّاك، والحريقُ مستمرٌّ في الحريق... والفصولُ تغيرتْ، والصيفُ احتلَّ الشتاءَ والربيعُ يزاحمُ الخريفَ ويناصبُهُ العداء، وكلٌّ في فلكٍ يتربَّصون... والكتابةُ أرْضنا جميعاً، وجزْرُنا الكتابةُ والمدُّ منْ بحورٍ بلا شواطىء، ويعرفُ العارفون، ولا يفلحُ أرْضَ الروحِ سوى أرواحنا، وإنِّي الزارعُ لروحي، ترابُها خصبٌ زعفران، هذا الريحان، أزرعُ الحرفَ وقدِ انشقَّ الصدرُ لهُ ماءً وتحناناً، فتخضارُّ لهُ حقولُ الحنايا، والنبضُ يتقافزُ فرحاً حتى لكأنهُ يشطحُ شطحَ العاشقين، وإنِّي المُريد، فيزدادُ الخفقان، والدَّمُ سقياهُ وسُقياها، والجُمَلُ منَ اللغةِ الأنثى ابتلال،سبعُ سنبلاتٍ خُضْرٍ في الجوانحِ وأُخَرُ ملأى رافلاتٌ والحصادُ غلالٌ منْ مواسمِ المجاز، هذي سلالُ المحبَّةِ منْ سندسٍ قطوفُها دانيةٌ وإستبرق، والماءُ عذبٌ فرات، كلوا واشربوا هنيئًا مريئًا ممَّا تكتبونَ ونكتب، وإنِّي معكمْ على سُرُرٍ من ظلالها الوارفةِ متقابلونَ نقرأُ وتقرأون، تسعى بيننا المعاني الحسان، فبأيِّ بهاءِ هذي اللغةِ الأنثى تكذبان، هذا ما أحبُّ وما أشاء، وما أرادَ لي الشوقُ صفيِّي في المحبَّة وخليلي في لغةِ الحنين... ولكمْ أنْ تكتبوا ما تريدون، والتاريخُ بيننا والقراء، ولْيكنِ الراوي المتضمَّنُ والعليمُ ولْيكنِ الإله، ولْيكنِ الخطابُ والحكايةُ والسردُ والسَّاردُ والقائمون بالسردِ والمسرودُ لهُ وخرقُ أفق الانتظار، ولْتكنِ العنْونةُ والمناصَّات،وماذا بإمكاننا أن ننتظر، وغودو لنْ يجيء، إلاَّ إذا أعادَ»بيكيتْ»كتابةَ النصِّ، ولعلَّ المخرجينَ منَ المسرحيينَ يفعلونَ ذلكَ شرقاً وغرباً منْ حينٍ إلى حين..؟ ويكتبُ الكاتبُ نصَّهُ الأولَ الأوحد، ويظلُّ قائماً عليهِ بالسِّقايةِ والرِّفادةِ في تنويعاتِهِ في المددِ منَ الحياةِ في تجليَّاتها والأنواعِ منَ القصة القصيرةِ والرواية والشعرِ والنصوص،كتبٌ تترى وجوهرُ ما فيها يصدرُ عنْ مِشْكاةٍ واحدة تقولُ إنسانيةَ الإنسانِ في تعاليهِ والسقوطِ وفي طهَارتِهِ والابتذال... وماذا نقولُ عنِ التناصَّاتِ وعنِ الشعرِ وهو يصولُ في المتون، وعن خطاباتِ الاستنساخِ وعنْ تعددِ الأصواتِ في شعريتها تنسيباً للحقيقة، وعنْ باختين وهو يقرأُ جدي السرديَّ أبوليوسْ في ذهبِ الحمارِ منْ رحلتِهِ إلى ذاتِهِ وذواتنا؟ وماذا عنِ استحضارِ المظانِّ وهي شتَّى وتتعدَّدُ ألوانَ قوسِ قزحٍ منَ التاريخِ والموسيقى والفنونِ كلِّها؟ وهلْ لنا أنْ نتذكرَ جبرانَ والمنفلوطي وبكائي تحتَ شجرةِ الزيزفون ويكادُ القلبُ يحتضنُ ماجدولين، وظلَّ كلُّ ذلكَ عالقاً بالذاكرة؟ وأقولُ محبًّا معترفاً،لكمْ رواياتكمْ ولي كتاباتي، ويسهرُ القومُ جرَّاها جميعاً ويختصمُ المحبُّون... وهلْ تريدونَ أنْ ننسى ألفَ ليلةٍ وليلة وعبد الفتاح كليطو وجمال الدين بن شيخ؟ أليسَ ما دبَّجاهُ عنها روايةً يعلو السردُ فيها علوَّهُ العارف، وسيلتها النقدُ في تمظهُراتِهِ السائلةِ المجتهدةِ العارفة؟ ألمْ يكنْ سرفانتسْ قريباً منْ أجوائها وكانَ غرسيا ماركيز منَ العشاقِ القارئين لها والمتيمين بشهرزاد، ويحبُّ »مرْسيدسْ» زوجتهُ التي ابتاعتْ ذهبها منْ أجلِ روايتِه،وظلَّ قلبهُ ذهباً منَ المحبَّةِ الخالصةِ لكلتيْهما، أولاهما في المجازِ منَ السرد والثانية في الحقيقةِ منَ الحياة؟ وقدْ كانَ النقدُ عزيزاً، فارحموا نقداً لمْ يشأْ لهُ أبو حيَّان التوحيديُّ أن يذِلَّ والكلامُ على الكلامِ شاقٌّ وصعب، فاستكانَ الآنَ في الزمنِ الكنودِ إلى هوانهِ والصَّغار، وجاءتْهُ العشائرُ بعضها يدفعُ بعضها والدُّشُر، فلا يابسةٌ لهُ ولا بحر، وقدْ تفرَّقَ دمُ الروايةِ بينَ منْ يعرفُ ومنْ لا يعرف، وبينَ الذي يهذي والذي يهْرِف، والروايةُ بينهما في البرزخِ منَ الحياةِ وبينَ الممات، مِمَّا يكتبُ بعضُ المتنطعين ويتقافزون منْ حبلِ الرداءةِ إلى حبالِ الرداءات، وقدْ قيل: »يتعلمْ الحجامهْ في رؤوسْ اليتامى»، وتلك آفتنا والمرض، وليسَ لكلِّ ذلكَ منْ دواءٍ والأنانياتُ يضربُ بعضُها بعضاً... وأحلمُ أنْ أكتبَني وكفى، ولا أسعى لغيرِ ذلكَ أبداً، ولا أبغي غيرَه، وأريدُ أنْ أرمِّمَ بالكتابةِ بعضَ انكساراتي لا كلَّها، كيْ أظلَّ إنساناً فيما تبقَّى منْ إنسانيَّتي في انكساراتِها والهشاشة، فأحاورُ الكونَ الذي في السَّديمِ منِّي وفي الغموضِ والغُربة، وأرافقُ الجراحاتِ وقدْ انفتحتْ لنزفها الجراحات... ولْتكنِ الكتابةُ التي نحبها فيما تجيدونَ وأجيد، هذا ما أحفظُهُ عنِ القاصِّ المقيمِ في القصَّةِ القصيرةِ وهو في الملكوتِ منها »عمار بلحسن»، وقدْ تركَها يتيمة، تلكَ هي المسألة، وما دونَ ذلكَ قبضُ ريحٍ دبورٍ في العصْفِ منْ سقطِ المتاعِ ومنَ الخُشار، وفي الدَّرَكِ الأدنى مِمَّا لا تريدونَ ولا أريد... (1)الروائيُّ الأكاديميُّ برهان شاوي،سيدُ سرديةِ المتاهات،من»متاهة آدم»إلى»متاهةِ العدمِ العظيم»وما بينهما»متاهة حواء»،و»متاهة قابيل»،و»متاهة الأشباح»،إلى»متاهة إبليس»،و»متاهة الأرواحِ المنسية»،و»متاهة العميان»،حتَّى»متاهة الأنبياء». عوالمُ منَ المتاهاتِ التي لا تنتهي حتَّى لكأنَّها تبدأ،خلقٌ يعقبهُ خلقٌ سرديٌّ يقولُ الإنسانَ في المتاهة الكبرى منَ الحياةِ/الحيواتِ في الصَّحارى التي يستبصرُها السردُ ويسائلها ويحاججها ويناظرها بالقائمينَ بالسَّردِ موغلًا في المعرفة كأنَّما هو انتقامٌ منْ كلكامشْ الذي فقدَ وردة الخلود،والسردُ في هذه»المتاهات»انتصارٌ على الحيةِ بالكتابةِ العارفةِ بالتاريخِ والحضارات والفنونِ والآدابِ والفلسفةِ والأديانِ والنوازعِ البشريةِ وعُقَدها وهشاشتها وانكساراتها وخوفِها منَ مصيرها/مصائرِها/مصائرنا... ج/فوغالي... نهاية الصحراء.. جريمة تكتب التاريخ كريمة آيت نوري صدرت من أسابيع قليلة رواية جديدة للروائي والمترجم والباحث الجزائري «سعيد خطيبي» (1984) عن دار نوفل ببيروت، وحملت عنوان «نهاية الصحراء». الرواية تعد الرابعة في تاريخ الروائي، بعد ثلاث سنوات ونصف تقريبا من صدور رائعته «حطب سراييفو» التي وصلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» وترجمت مؤخرا للغة الإنجليزية في إصدار عن دار «بانيبال» بانتظار صدور الترجمة الإسبانية. رواية «خطيبي» الأخيرة تدخل ضمن فن الرواية البوليسية أو أدب الجريمة، وهو فن له قواعده الكتابية الواضحة منذ أن أسس له «ادغار آلان بو» وبلورته «أغاثا كريستي»، ينتقل نقلة نوعية على يدي الروائي الجزائري الذي لا يسكن ولا يهدأ في سبر أغوار الرواية الحديثة وتوظيف أدواتها ليتحول من أدب شعبي بسيط لأداة مسائلة للتاريخ، تماما كما عود القارئ في روايتيه الأخيرتين، هو الذي استلهم قصص الرسام المستشرق الفرنسي الأصل «ايتيان دينيه» والرحالة السويسرية «ايزابيل ايبرهاردت» في رواية «أربعون عاما في انتظار ايزابيل» كما قارب عشرية الدم في الجزائر في فضاء أرحب مقيما توازيا بين ما عاشه البلد وما عاشته دولة البوسنة في الفترة الزمنية ذاتها، في العشرية الأخيرة من القرن الماضي. من' يكتب التاريخ؟ ذلك ربما هو السؤال الأساسي الذي لا يمل الكاتب الجزائري الشاب «سعيد خطيبي» عن تقديم إجابات حوله منذ وقع ثاني أعماله الروائية «أربعون عاما في انتظار ايزابيل» والذي يمكن اعتباره البداية الحقيقية له في فن الرواية. لا يراهن على شعارات ولا على جمل فخمة، وحركات لغوية كما درج في الفن الروائي العربي المتأخر، بل على العكس يقدم طبخته الأخيرة في لغة سلسة وبسيطة، يحكي مصائر أبطال عاديين، ليسوا بالمهمشين ولا بالأبطال الخارقين، أبطال اليومي، نورة، وناسة، ذهبية، ابراهيم، كمال، بشير، جزائريون بسطاء جمعتهم الأقدار حول قضية مقتل مغنية مغمورة تدعى «زكية زغواني»، يكتشف جثتها على جانب مرج راعي يدعى «عاشور» لتنطلق الرواية التي تدور كلها حول قضية مقتل «زازا»، مغنية فندق الصحراء، لنكتشف وجها آخر للبلد، يكتسب ألوانه من رمل الصحراء وشمسها التي لا تغيب عن أعمال الروائي الشاب. من قتل زكية زغواني؟ ذلك هو السؤال الذي سيطرحه القارئ طيلة فصول الرواية رغما عنه، والتي تزيد قفلات الفصول الدقيقة من منسوب التشويق فيها، لا أخطاء منطقية في حبكة الرواية ولا تفاصيل جزئياتها، التي كتبت كتابة أدبية محترمة قواعد أدب الجريمة، كتابة بسيطة، شعبية ومنطقية. لكن ربما ما يرقى بهذا النوع تحديدا ويجعله يلامس أرفع أنواع الأدب هو الانطباعات الكثيرة التي تتركها لدى القارئ أهمها أن ل»زكية» قتلة كثر وليسوا قاتلا واحدا، يقتلها حبيبها الأول الذي اغتصبها بعد أن اضطرت لتركه بمجرد ما عرفت الخلاف بين قبيلتيهما، ثم أخوتها وأبوها بقسوتهم عليها، قتلها طموحها في أن تعيش حياة حرة كما أرادت، قتلها طمعها حين صارت تجمع المال لتهرب مع حبيبها، والكثير الكثير من التفاصيل التي لا روائي غير «سعيد خطيبي» يجيد إيجادها وتوليفها والاشتغال عليها لتصدر في نص جميل، مضبوط الإيقاع. رواية أم توليفة فنية؟ لا يغيب عن المتتبع لأعمال الروائي والمترجم الجزائري «سعيد خطيبي» اشتغاله الطويل والجدي على موسيقى «الراي» والتي تمخضت عن عدة مؤلفات أهمها «أعراس النار»، إضافة لعشرات المقالات التي تتتبع تطور هذا اللون الفني اجتماعيا وسياسيا، هذا الاهتمام بالموسيقى يبدو أثره جليا من خلال حضور الموسيقى في أعماله الروائية، كالكثير من أغاني الشاب خالد التي أثثت لرواية «حطب سراييفو». لكن المختلف في «نهاية الصحراء» هو حضور الكثير من الفنون بصيغ وتوظيف ذكي من الكاتب انطلاقا من رواية «الشيخ» التي كتبتها البريطانية «إديث مود هل» مطلع القرن الماضي وجعلت من مدينة لن تعطيها اسما غير بعيدة عن بسكرة (جنوب-شرق البلاد) فضاءً لتطور حبكتها، ثم الفيلم الذي ترجمت إليه الرواية والذي أنجز مطلع القرن الماضي، يحسب على السينما الصامتة وأدى الدور الرئيس فيه «رودولفو فالنتينو»، يحضر كلاهما بصفتيهما وتفاصيلهما ضمن رواية «خطيبي»، لتصبح رواية «هل» اللعنة التي تطارد كل من يحملها. لا تتوقف استلهامات الكاتب الجزائري لكثير من الفنون هنا، سنجده هذه المرة مستلهما لشعر «المجذوب» أحد أهم الشعراء المتصوفة، عاش زاهدا هائما وخلف كلاما لا يتوقف البسطاء عن ترديده هو الذي لا تغيب أشعاره في الدارج المغاربي كاملا، إضافة إلى تفصيلة أساسية في «نهاية الصحراء» التي كتبت على طريقة مسرحية يتوالى فيها ظهور الأصوات مستعرضة حياتها بتفاصيلها، بعلاقتها بباقي الشخوص، بالجريمة والتحقيق. أكتوبر 1988 تتقاطع أحداث رواية «نهاية الصحراء» مع أحداث أكتوبر 1988، في كرونولوجيا أحداثها التي تقدم مفاتيح إضافية لقراءتها، هي الرواية الهادئة، للكاتب الذي يبدو مهووسا بملء الفراغات في مدونة الأحداث الوطنية ولو تخييلا، على الرغم من عدم اشتغال أي من أبطال «نهاية الصحراء» بالسياسة، إلا أن انفراج الأحداث والاهتداء إلى القاتل الحقيقي يتم مع اندلاع المسيرات وأحداث الشغب، ما يحول دون الإمساك به.لا يبدو «س. خطيبي» مهتما بإيجاد حلول بقدر ما يسعى لإثارة الأسئلة، وهو الأمر الذي درج عليه منذ اشتد عود كتابته الروائية، لا يؤدي دور الواعظ ولا المبشر، يتلاشى تماما خلف سرده وشخوصه الذين يبدون أحرارا تماما، حتى يكاد القارئ يخال نفسه أمام فيلم سينمائي، يتعاطف فيه مع جميع الشخصيات ويحقد عليها كلها في آن. تكاد هذه الرواية لا ترمز إلا لنفسها وشخوصها ببساطتها وعفويتها، ولكنها تختزل كل شيء في الوقت ذاته: الوطن، ناسه، مساراتهم، خياراتهم وأقدارهم.