يحيي المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها ذكرى غزوة بدر الكبرى مستلهمين منها عبرا وعظات كثيرة، ودروسا يسيرون بها في حياتهم الدنيا، وسننا اجتماعية مطردة يحتكمون إليها وهم يعيشون في ضوء الإسلام، التزاما ودعوة، في علاقتهم البينية وعلاقتهم مع مخالفيهم من غير المسلمين، لاسيما وأن النصر التاريخي في هذه الغزوة لم يأت فلتة بل تحقق بفعل أسباب موضوعية؛ مادية وأدبية قدمها المسلمون وقائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثوا به تحوّلا تاريخيا ومنعطفا حاسما في تاريخ الدعوة الإسلامية ودولة المسلمين الأولى؛ بل في تاريخ البشرية قاطبة دينا وثقافة وحضارة وسياسة، ودروس هذه الغزوة كثيرة نورد بعض ما نستخلصه من آيات القرآن الكريم التي نزلت في ثناياها، ومنها: ليس الخير بالضرورة والفلاح فيما تتمناه النفس وتتشوّق إليه (1) فقد خرج المسلمون وتحت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد قطع طريق قافلة قريش القادمة من الشام لأخذ غنائم يعوضون بها ما أخذته قريش من أموالهم بغير حق حين أخرجتهم من ديارهم، ولم يكونوا قاصدين الحرب، لكن سنة الله تعالى وإرادته وحكمته اقتضت أمرا آخر؛ حيث سيجد المسلمون أنفسهم أمام خيار مواجهة عسكرية مع قريش بعد أن نجت القافلة وغيرت مسارها وطريقها، وهنا يتنزل القرآن قائلا: ((وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)))، فقد جاء وعد الله تعالى للمسلمين بتحقيق واحدة من اثنين؛ إما الاستيلاء على قافلة قريش أو الانتصار على جيشها القادم من مكة؛ وكانوا يودون لقاء قافلة التجارة وتحاشي المواجهة العسكرية؛ لأن ظاهرها سفك للدم وركوب للصعاب؛ لكن الله تعالى أراد أمرا آخر، لتحقيق نصر تاريخي يظهر به الحق ويكسر شوكة قريش؛ لأن المهمة الأولى للمسلمين وقتئذ هي نشر الإسلام وتبليغه للعالمين وليست مهمتهم الحصول على ثروات مالية؛ وقد أكدت الأيام بعد ذلك عظم حكمة الله تعالى حين حقق المسلمون انتصارا كبيرا أذلوا به أعداءهم وقضوا على زعماء قريش الذين كانوا حجر عثرة في طريق الدعوة الإسلامية، كما أن المسلمين لم يفتهم الحصول على غنائم كثيرة من تلك المعركة، فباءوا بالحسنيين، وبهذا النصر قدموا خدمة جليلة للإسلام، وأعلنوا عن بزوغ فجره وقيام دولته، واستعدادها للدفاع عن دعوته ونشره وقد يجد المسلم نفسه في حياته اليومية ومعاشه نفورا يسعى به لتحاشي الدخول في بعض الوظائف والمهام الشائكة مع رغبة جامحة لتحقيق ما تهواه نفسه، أو يقع بين خيارين فيعجز عما تصبو إليه نفسه؛ فيحصل على ما لا يرغب فيه أو يقل ميله إليه، وقد يضيع فرصا تاريخية في العلم والعمل والسياسة والتجارة والزواج والسكن والسفر والهجرة والرياضة والثقافة والإعلام؛ فيحزن لذلك كثيرا، ويظن أنه خسر كل الدنيا بضياع تلك الفرص، لكنه سيكتشف بعد حين أن الله تعالى اختار له الأفضل، لأن المطلوب منه هنا تقديم الأسباب، والتوكل على الله تعالى، ثم القناعة بعد ذلك بما آتاه الله تعالى، والله تعالى يقول: ((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) [البقرة 216]، ويقول أيضا: ((فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19))) [النساء 19]، فليس كل ما تتمناه أيها المسلم في حياتك خيرا بالضرورة، وليس كل ما تسعى للحصول عليه من وظيفة أو منصب أوسلطة أو إدارة أو سفر أو زوجة هو في صالحك بالضرورة؛ وليس كل ما فاتك هو السعادة، فلعل الله تعالى صرف عنك شرا كثيرا بما كانت تسوده نفسك وتسعى إليه، بل ما اختاره الله تعالى لك هو الخير كل الخير مادمت قد قدمت الأسباب وأخلصت في المسعى؛ لأن نظرك للمآلات قاصر فنظرة قصير المدى ترى فقط جاذبية ظاهر ما تهفو اليه لكن الله تعالى يعلم المنقلب، يعلم المستقبل وتقلب الدهر، فإن أخلصت له الدعاء وهداك لطريق ما فاعلم أن ذاك هو الأصلح لك في حياتك ودينك؛ فكم من صاحب سلطة ومنصب ظل يتباهى بها ثم جاءه البلاء من تلك الوظيفة والسلطة فندم عن خياره وعض على الأنامل وندم حيث لا ينفع الندم، وتمنى لو يعود به الزمن قليلا إلى الوراء فيعزف عن هذا الطريق ولا يسعى لمثل هكذا وظيفة أو سلطة أفقدته حريته وكرامته وماله، ولو خيّر الآن لاختار أن يعيش مواطنا بسيطا بين عموم الناس يعيش حياة الكفاف والستر والكرامة وتلك هي السعادة الحقة. وكذلك الأمر في حياة الأسر والدول والمجتمعات، فقد تجد الدولة نفسها في لحظة تاريخية أمام خيارات اقتصادية وسياسية قد يبدو القرار بشأنها مكلفا؛ لكنها ستتخذه إن لم يكن عنه بديل ومحيص وبعد أن تقدم كل أسباب تحاشيه، وتكتشف بعد حين أن القرار كان صائبا وإن بدا أنه أكثر تكلفة اجتماعية. ولذلك شرعت صلاة الاستخارة، ومن صيغ دعائها: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر-ويسميه باسمه من زواج أو سفر أو غيرهما-خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، وقدّر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به)