يسهر المركز الوسيط لعلاج الإدمان بحي زواغي سليمان بقسنطينة، على تقديم خدمات متنوّعة لمرضاه بغية حصد نتائج جيدة، فهو بمثابة باب يوصل المدمنين على شتى أنواع المخدرات و المهلوسات نحو بر الأمان، ويعيد إدماجهم في المحيط الاجتماعي، كما يساهم في نشر الوعي بين الأفراد و منح فرصة لكل مدمن كي يعيد جمع شتات نفسه و ينطلق في الحياة بنفس جديد. حيل قاتلة يدخن سيجارة تلوى الأخرى وهو ينتظر دوره أمام المدخل الخارجي للمركز وكل ملامح وجهه الشاحب توحي بالقلق والاضطراب والتوتر، فيما يسرد جسمه الهزيل وخطواته المبعثرة وحركات قدميه الغير متجانسة، حيثيات قصة بدأت بمتعة قصيرة، لتنتهي بتبخر أحلام مراهق و تراجع صحته، بفعل السموم التي اخترقت خلايا جسده و أحكمت قبضتها على الدماء التي تجري في شرايينه فكانت كفيلة بتحويل بشرته البيضاء إلى اللون الأصفر وإحاطة عينيه بالسواد والحمرة، وتحويل شموخ الصِبى إلى طأطأة للرأس وانحناءة في الكتفين، هو مشهد وقفنا عليه ونحن في قاعة الانتظار بالمركز الوسيط لعلاج الإدمان. بعد عشر دقائق تقريبا، غادر المراهق باتجاه الطابق الأول، ليحل مكانه شاب في بداية العشرينيات، أشعل هو الآخر سيجارته وأخذ يدخنها وهو شارد بفكره بدا حاضرا جسديا فقط، وهي ملاحظة اشترك فيها كل من تداولوا على ذات المقعد طيلة فترة تواجدنا في القاعة، فرغم جلوسهم سويا وتبادلهم أطراف الحديث والضحكات، إلا أنهم كانوا قادرين على التحمل، و ذلك فقد كانوا يغادرون المكان تباعا للتدخين والحصول على جرعة من النيكوتين، تسكت الحاجة إلى بقية أنواع المخدرات والمهلوسات والكحول.علمنا من المعالجين لاحقا، بأن الوصول إلى المركز و اتخاذ قرار العلاج يتطلب إرادة قوية، خاصة وأن قصص ودوافع المدمنين تختلف، فبعضهم دخل هذه المتاهة من باب التجربة والفضول ورفاق السوء، فيما كانت المشاكل الأسرية وضغوطات المجتمع دافع آخرين نحو التعاطي والشرب، في حين استنجد ضحايا الاعتداءات الجسدية والجنسية بالمخدرات، لأجل النسيان و الهروب من العزلة. قيل لنا، بأن هناك من تعاطوا « الكيف» للإفلات من الخدمة الوطنية لأن آثار تعاطيه تستمر طيلة ستة أشهر و تظهر في التحاليل الطبية، لكنهم أدمنوه لاحقاو هي حيلة قاتلة لا تقل سوءا عن تناول المهلوسات لكسب الوزن بسرعة. ومن بين القصص المأساوية أيضا، حكاية شابة عشرينية تذوقت « الصاروخ» لأول مرة وهي في الثانوية، بعدما أخفى زميلها المخدر في حقيبتها فابتلعته بسبب الخوف وكانت تلك بداية الإدمان، إذ أخبرت النفسانية المشرفة على حالتها، بأن اللذة التي شعرت بها آنذاك دفعتها لأخذ المزيد، وهكذا دمرت حياتها و تتوقف عن الدراسة. وحسب المعالجة النفسانية بالمركز ميمونة بن زغدة، فإن الذكور أكثر إقبالا على العلاج من الإناث وأكثر تجاوبا معه، كما يلاحظ أيضا حسبها، أن غالبية النساء يقصدن المؤسسة رغبة في الحصول على بعض الأدوية من مهدئات ومضادات للاكتئاب وليس لأجل العلاج من الإدمان، وأن هناك نوعا من المقاومة لديهن، على غرار حالة مراهقة يحضرها والدها في كل مرة، بعد أن يعثر عليها مرمية في شوراع مختلف المدن الجزائرية. و يحضر لجلسات العلاج كذلك، رجال ترافقهم زوجاتهم حفاظا على استقرار الأسرة، إلا أن بعض الحالات تنتهي بالطلاق كما قالت، وقد وقفت على قصص مروعة عديدة كقصة رجال حول منزله إلى وكر للتعاطي، فقام مرافقوه بتخديره وحاولوا الاعتداء على أهل بيته. 75 بالمائة من حالات الإدمان سببها مشاكل أسرية قالت الأخصائية النفسانية العيادية، إن 75 بالمائة من حالات الإدمان التي يستقبلها المركز سببها مشاكل عائلية، إما الإهمال أو القسوة أو انفصال الوالدين أو وفاة أحدهما أو « الدلال زائد»، تليها الرغبة في تجربة شيء جديد من باب الفضول، فضلا عن أن نسبة معتبرة من المدمنين هم في حقيقة الأمر ضحايا تحرش جنسي أو عنف جسدي، والبقية عبارة عن حالات استثنائية.وأضافت المتحدثة، إنها من خلال تجربتها مع هذه الفئة، لمست غياب اهتمام أوليائهم و حاجتهم للعاطفة، مؤكدة، بأن أكبر خطأ يرتكبه الأولياء في حق أبنائهم هو توفير المتطلبات المادية و تجاهل لغة الحوار مع الأبناء وساعات الجلوس واللعب معهم وتبادل أطراف الحديث. وعليه تنصح بن زغدة، أولياء المدمنين بضرورة مساندتهم ودعمهم، مع إظهار التقبل و الثقة التي تسمح لهم بالعودة والانخراط في المجتمع و تحفزهم على التجاوب مع العلاج، مشيرة في ذات السياق، إلى أن جيل اليوم يعاني من انعدام الثقة بالنفس وضعف القدرة على التحمل و الشعور بالمسؤولية، لهذا يتوجب على الأهل تعزيز هذه المشاعر لديهم حتى لا يهتز كيان الإنسان بسهولة. الفراغ وضعف الإرادة يفشلان العلاج وذكرت المتحدثة، بأن الفراغ الروحي والديني والفكري للمدمن مع ضعف إرادته، يفشلان العلاج الطبي والرياضي والنفسي، فمن لا عزيمة له لا يستمر مطولا و يعود في كل مرة للتعاطي، قائلة إنها لاحظت في الآونة الأخيرة، تراجع نتيجة العلاج إلى 70 بالمائة، إذ لم تسجل نتائج جيدة خصوصا مع مدمني دواء « ليريكا»، مؤكدة في نفس الوقت، بأن هناك من يتعالجون في المركز منذ خمس سنوات، لكنهم لم يتقدموا خطوة نحو الأمام لغياب الحافز والإرادة. وأوضحت، بأنها تتفادى في أول حصة تعارف لها مع المدمن أن تغرقه بالأسئلة بل تتركه على راحته دون الضغط عليه وإرباكه بالاستجواب، خصوصا وأن هذه الفئة حساسة جدا، ولا يجب استعمال طرق معقدة معها، وإنما اعتماد لغة حوار بسيطة تشعره المدمن بالراحة وتكسبه الثقة. وتطبق على المرضى خلال الحصص العلاجية، وفق ما ذكرته بن زغدة، تقنية استرخاء مفيدة، حيث يستلقي المريض على كرسي خاص ويغلق عينيه، مع توفير الجو الملائم من هدوء وظلام، تُطرح عليه مجموعة من الأسئلة ليباشر بعدها التعبير عن مكبوتاته قائلة إن لكل واحد استجابة مختلفة فالبعض يبكون والبعض يصل بهم الأمر إلى التشنج خاصة عند تذكر من آذوهم، وهي طريقة تساعد في الوصول إلى جذر المشكلة وعلاجها، إضافة إلى اختبارات الشخصية كاختبار « روشاخ» وهو عبارة عن بطاقات صغيرة بها صور ورسومات عشوائية تساعد على معرفة شخصية الإنسان، فضلا عن العلاج المعرفي السلوكي. حاجز الخوف من نظرة المجتمع قال المراقب الطبي بمركز الوسيط لعلاج الإدمان، مالك حيرش، إن المؤسسة انطلقت سنة 2014، و كان الإقبال عليها محتشما في البداية، لجهل الأشخاص بطبيعة عملها، ناهيك عن خوف المدمنين من نظرة المجتمع إليهم، خصوصا وأن المقر كان يحمل تسمية « المركز الوسيط لمعالجة المخدرات»، ثم بدأ الوضع يختلف نسبيا بفضل الحملات التوعوية و التحسيسية في المؤسسات التربوية و مراكز التكوين و المساجد وغيرها، وهو ما ساهم بشكل كبير في كسر الجليد بين المؤسسة والمرضى و تحفيزهم على طلب العلاج أو المساعدة، ليصبح المركز مقصدا جهويا. وأضاف المتحدث، بأن المؤسسة تضم أخصائيين و مساعدين اجتماعيين و نفسانيين وأطباء مكونين في علاج الإدمان و مقوما حركيا، يتمثل عمله في تطبيق تقنيات استرخائية ورياضية على المدمن والقيام بجلسات علاج جماعي كون الاهتمام بهذا الجانب مفيد جدا لمساعدة المريض ورفع قدرته على التعافي لأن هناك علاقة وطيدة بين العلاج بالأدوية وبالرياضة، إذ تساعد بشكل كبير في تمضية الوقت وملئ الفراغ واستثماره بشكل جيد، لذلك يتوفر المركز حسبه على قاعة للرياضة وأخرى للمطالعة والإعلام الآلي. من 10 إلى 15 حالة يوميا يستقبل المكان يوميا حسب المتحدث، من 10 إلى 15 حالة ، من مختلف شرائح المجتمع، و تتراوح الأعمار بين 14 إلى 65 سنة، بعضهم قابل للعلاج بنسبة 50 بالمائة وهم الذين يتمتعون بإرادة وعزيمة ورغبة قوية في الخروج من مستنقع الإدمان، وآخرون يصعب عليهم التعافي لأنهم مجبرون عليه وليسوا من طلبوه، إذ يعودون للتعاطي في كل مرة وهو الأمر الذي يتم الكشف عنه عند كل حصة بواسطة اختبار كشف المخدر. كما أفاد حيرش، بأن المركز في هذه الحالة يحول الغير قابلين للعلاج المفتوح إلى مركزي تيزي وزو والبليدة من أجل الحصول على علاج داخلي مغلق لمدة 21 يوما، مؤكدا بأن هذه الخطوات غير كافية وحدها و تستوجب دعم الأسرة والمجتمع، نظرا لتأثير رفاق السوء، فتاجر المخدرات حسب المتحدث، يكون قد خسر مشتريا ومستهلكا في هذه الحالة وهو أمر لا يناسبه. وذكر المراقب الطبي، أن الإدمان على المخدرات في تطور مستمر وفي كل مرة تنتشر أنواع أخطر من المهلوسات، على غرار « المخدرات البيضاء» و «التوتنة» مشيرا في ذات السياق، إلى أنهم يستعينون في المركز، بالمتعافين من الإدمان و من تقدموا جيدا في العلاج، خلال جلسات جماعية لتبادل تجاربهم مع المدمنين، والحديث عما ساعدهم في التخلص من هذه العادة، ما يحفز غيرهم ويشجعهم على المضي قدما. بيانات المدمن تحدد مسار العلاج يتم كذلك في المركز كما أوضح، الوسيط توجيهه المدمن نحو المساعدة الاجتماعية، لأخذ أهم المعلومات والبيانات عن حياته الشخصية ومراحل إدمانه ونوع المخدر الذي يتعاطاه، لتشخيص حالته وتحديد أي مسار سيسلك في رحلة التشافي. وقالت المساعدة الاجتماعية، أماني مصران، إنها تحصل في البداية على معلومات عن « الحالة الاجتماعية والعلمية والمادية والأسرية ونوع الإدمان الذي يعاني منه الشخص وفترة التعاطي وكذا الدوافع»، وكلها تساعد في تحديد وتشخيص العلاج المناسب، كون الحالات التي تستقبلها المؤسسة تختلف من مدمن لآخر ومن مرحلة عمرية لأخرى، و العلاج يعتمد إما على المختصة النفسانية أو على الطبيب العام.كما أفادت، بأن أكثر من يقصدون المركز هم العزاب من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و 27 سنة، يمثل الذكور نسبة 90 بالمائة من العدد الكلي ويعد مخدرا « ليريكا « و «الكيف» الأكثر استهلاكا بين فئة الشباب والمراهقين مع ظهور متعاطين للكوكايين في السنوات الأخيرة، مؤكدة، بأن المساعدة في المركز لا تتوقف على الحصص العلاجية، بل تتعدى ذلك في إدراجهم في قطاع التكوين المهني لامتهان حرفة أو مواصلة مشوارهم التعليمي و الانخراط في نواد رياضية للتخلص من الفراغ الذي يدفعهم للبحث عن حبة مخدر، مشيرة إلى أن هناك من انخرطوا في أعمال تطوعية لتغيير المحيط الاجتماعي. هكذا يكون علاج أعراض الانسحاب أوضحت من جانبها، الطبيبة العامة المختصة في علاج الإدمان، ليلى بوعلام أن أول حصة تجمعها بالمدمن هي جلسة استماع مع معاينة الحالة الصحية لمعرفة نوع المخدر الذي يتعاطاه والذي قد يكون « مهلوسات أو قنبا هنديا أو مهدئات أو كحولا أو حتى كوكايين، أو عبارة عن مسكنات للألم مثل « ترامادول و ليريكا»، لتسلم له أدوية تساعده في العلاج وتخطي أعراض الانسحاب وهي في الغالب أدوية منومة و مهدئات و مضادات للاكتئاب. وتمتد مدة العلاج حسب الطبيبة، من 3 إلى 6 أشهر أو أكثر حسب الحالة وقابليتها للتعافي، وكذا وفق الظروف المعيشية والتأثيرات الأسرية والخارجية عموما، مضيفة بأن أكثر الفئات التي تجد صعوبة في التعامل معها هي التي تعاني اضطرابات نفسية أو عقلية، أو من تعرضوا لاعتداءات جنسية أو جسدية.