قد تختلف المسميات والأوصاف لما حدث يوم أول أمس الثلاثاء، الذي كان أسود ببلدية معاوية، شمال شرق عاصمة ولاية سطيف، لكن الواقع بمشاهده المحزنة وعمق جراحه بقي ثابتا، فكُتبت في صفحات الوفيات قائمة طويلة ضمّت ثمانية رجال من عائلة واحدة، اختاروا التضحية لإنقاذ أول المختنقين منهم في بئر «مشؤومة» بفناء المنزل الذي اختاره القدر ليكون مسرحا لنهاية حياة هؤلاء الإخوة والأقارب الذين اشتركوا في التحلي بروح التضحية والتضامن التي قادتهم إلى مفارقة الدنيا متلاحمين ولو في قعر بئر غمرته غازات الاحتراق بعد أن أفرغ من الماء. ونحن نقترب من بلدية معاوية، التابعة لدائرة بني عزيز، منتصف نهار أمس، عائدين إلى منزل عائلة بونمرة التي ألمت بها مصيبة وفاة ثمانية من رجالها في ظرف دقائق معدودة جراء استنشاق غاز الاحتراق داخل بئر منزلي، شدت أنظارنا مظاهر الحزن الواضحة على وجوه أبناء المنطقة التي اهتزت على وقع هذه الفاجعة الأليمة، ورغم شدة المصاب الجلل، إلا أن قوة إيمان أهل المتوفين، لم تمنعهم من فتح قلوبهم للنصر، متحدثين عن تفاصيل الواقعة المرعبة التي هزت مشاعر الشعب الجزائري. أرواح تساقطت تباعا كأوراق الشجر اجتمع وصف الشهادات الحية التي رصدناها من أمام المنزل العائلي، على تساقط أرواح الضحايا الواحدة تلو الآخر، حيث كان أبناء العمّ بصدد تفريغ البئر باستخدام مضخة تشتغل بالبنزين، وفي فترة الاستراحة لتناول وجبة الغداء، نزل أول الضحايا «يوسف» لتفقد محركها الذي توقف عن العمل، غير عالم بأن غاز الاحتراق يغمر عمق البئر، فلم تمض سوى دقائق حتى سُمع له أنين وصراخ النجدة، فهمّ إليه شقيقه حسام الذي لاقى نفس المصير بعد دقائق قليلة، ليلتحق بالمكان الوالد يحيى، رفقة ابنيه الآخرين أنور وعادل، قادمين من جوار المنزل. بعد ذلك نزل أصغر الأبناء أنور صاحب 23 سنة، الذي فقد الوعي بدوره، في ظل نسبة الغاز المنتشر بقوة على عمق 15 مترا، ثم لحق به الأخ الأكبر عادل فكان له نفس المصير، وحاول شقيق الوالد المتوفى أحمد بونمرة أن يمنع شقيقه، غير أنه عجز عن منعه، والتحقت نسوة العائلة للمشاركة في عملية الإنقاذ التي كانت مستحيلة وسط تلك الظروف، خاصة أن الرجال المتواجدين في عمق البئر كانوا فاقدين للوعي ولم يعد أهل البيت يسمعون غير صراخ الأب. بعدها التحق المرحوم أمين ابن العمّ، الذي نزل مصرّا رغم محاولة عمّه أحمد منعه، ليفقد هو الآخر وعيه، فاتصلت العائلة بالصهر زهير الذي كان متواجدا لدى مصالح البلدية، فالتحق مستعجلا، ونزل إلى عمق البئر محاولا سحب الضحايا، لكن الغاز أفقده الوعي وهو يحاول صعود السلّم، فسقط في قعر البئر. ارتفاع نسبة تركيز الغاز لم يترك مجالا للحماية المدنية أوضح مدير الحماية المدنية لولاية سطيف، محمّد لبعاطشة، خلال زيارة وزير الداخلية والجماعات المحلية، إبراهيم مراد، رفقة وزيرة التضامن الوطني وقضايا المرأة والأسرة كوثر كريكو ووالي ولاية سطيف، محمد أمين درامشي، مع أعضاء اللجنة الأمنية أمسية أول أمس، أن نسبة تركيز 1 بالمائة من غاز الاحتراق، كافية لتؤدي إلى الوفاة في غضون ربع ساعة ونسبة 10 بالمائة تقتل فوريا. وأكد لبعاطشة أن نسبة التركيز في عمق البئر التي تفتقد للتهوية بحكم أنه مكان مغلق، فاقت 40 بالمائة، وبالتالي فإن مجرد استنشاق كل ضحية لهذا الغاز عند النزول إلى البئر كاف ليفقده الوعي، مضيفا بأن تحمس الضحايا لإنقاذ المتواجدين في البئر رغم محاولة منعهم من العم، الذي من حسن الحظ أن الجيران ساندوه في منع دخول البقية، حال دون ارتفاع الحصيلة أكثر، إلى غاية وصول أفراد فرق الحماية المدنية بداية بوحدة بني عزيز التي أمّنت المكان وأنفسهم، ثم انطلقت عملية انتشال الضحايا، بتوفير كل الوسائل المادية والبشرية، والتي تمت بمساعدة المواطنين وأهالي الضحايا. rكمال بونمرة قريب العائلة القدر جمع عمّي وأبناءه للموت معا في مكان و ساعة واحدة بعيون تملؤها دموع الحزن، عاد ابن عمّ الضحايا، كمال بونمرة إلى تفاصيل الفاجعة، مؤكدا الرضا بقضاء الله الذي قاد عمّه وأبناء عمومته إلى التجمع في مكان وتوقيت واحد، ليموتوا معا في هذه البئر التي تحولت في لحظات إلى شبه قبر، كاشفا بأن أحد الأبناء «عادل» عاد من عمله بترخيص قبل يوم عن موعده الأصلي، وصهر العائلة زهير ترك وثائقه في البلدية والتحق بالمنزل وابن عمه الآخر تخلف عن عمله بعد منتصف النهار، ليجتمعوا للقاء قدرهم المحتوم مع بقية ضحايا هذه الفاجعة التي أكد صعوبة تقبلها، رغم أن الموت سنة الحياة. وأضاف المتحدث بحسرة شديدة، أن خمسة أفراد من ضحايا الفاجعة باحتساب الأب متزوجون، حيث خلفوا من بعدهم خمسة أرامل، وستة أطفال صغار، بداية من الأم المريضة بداء السكري، التي فقدت ستة رجال في لحظات، والابن يوسف الذي ترك بنتا صغيرة، وللمرحوم عادل ولدان، ولشقيقهما الآخر طفل عمره حوالي سنة ونصف، بينما ترك صهر العائلة زهير من خلفه بنتين في مقتبل العمر، وهو وحيد أمه الطاعنة في السن. rالعمّ أحمد بونمرة لولا تدخل العقلاء لكانت الكارثة أكبر بصوت خافت لا يكاد يخرج عن شفتيه، حدثنا العمّ أحمد بونمرة، الذي التحق بمكان الواقعة قبل أن ينزل شقيقه المرحوم يحيى من أجل نجدة أبنائه، مستحضرا المشاهد المؤسفة التي عايشها بعد التحاقه بموقع الفاجعة، أين حاول منع شقيقه صاحب 56 سنة وأبنائه الملتحقين وصهره وابن أخيه الآخر، دون جدوى، قبل أن يلتحق أبناء الجيران الذين ساعدوه في منع البقية من الهبوط إلى قعر البئر. وأكد العم بأنه لولا تعقل البعض لفاقت الحصيلة عشرين رجلا ولكانت الكارثة أكبر، مؤكدا بأن المصاب جلل لكن لا مردّ لقضاء الله وقدره، شاكرا كل أبناء المنطقة وكل من تضامن مع العائلة التي تمر بظرف أقل ما يقال عنه أنه صعب للغاية. rعائدان من مشارف الموت يرويان «التحمل في قعر البئر وسط تلك الغازات مستحيل» صادفنا خلال زيارتنا لعائلة بونمرة قبل ساعات قليلة عن جنازة مهيبة لتشييع جثمان ثمانية رجال من عائلة واحدة، شهادتين حيتين، لشابين ولجا إلى البئر في محاولة لانتشال الضحايا قبل وصول أفراد الحماية المدنية، وجانبا مصير الموت بعد العودة من بوابته، حيث يروي الناجي في هذه المأساة مسعود نواصري بأنه وجد عند وصوله خمسة من الضحايا في قعر البئر، وعند إطلالته وجد أحدهم ملقى فوق الخشبة التي نصبت لوضع المحرك المتسبب في الحادثة، والبقية ساقطون في قعر البئر، وبعد نزوله إليهم عاد بشق الأنفس ليفقد الوعي فور إخراجه، لينقل على جناح السرعة إلى المستشفى لاستكمال العلاج بعد الإسعافات الفورية في عين المكان. بدوره، قال أيوب ورناني بأنه نزل إلى البئر عند وصوله إلى الموقع، غير أنه لم يقو على مقاومة الرائحة والغازات السامة، مؤكدا بأنه لا يمكن لأي شخص أن يتحمل ضيق التنفس في قعر البئر لمدة دقيقة واحدة، قبل أن يضيف بأنه كان بالإمكان إنقاذ العم يحيى الذي وافته المنية في المستشفى لو توفرت الإمكانيات اللازمة للتدخل الفوري والاستعجالات الطبية في المنطقة، لأن عامل الوقت لعب دورا في هذه الفاجعة، رغم أن الموت بأجل. كما أثنى الشاهد على حسن أخلاق الضحايا الذين كان هذا البئر مصدر رزق لهم، من خلال استعماله في تربية الدواجن وتوزيعه بالصهاريج، ومصدرا لفعل الخير بتوزيع الماء على المحتاجين. rأحد جيران الضحايا يكشف «بناء مسجد حلم المرحومين أمين وعادل» أكد الشاب، صابر بولقرون، الذي التقينا به أمام منزل عائلة بونمرة، وهو أحد الجيران المقربين من الضحايا، أن أمين وعادل، طلبا منه في وقت سابق تصوير المصلى المحاذي لمنزلهم، من أجل إطلاق حملة واسعة قصد بناء مسجد في مكانه، وكان هذا حلما يراودهما وتحمسا له كثيرا، وبادرا إلى هذه الخطوة غير أن الموت كان أسبق، ولأن الأعمال بالنيات فإن الله سيجازيهم بنواياهم، داعيا أبناء المنطقة وجميع المحسنين إلى وضع اليد في اليد، لتجسيد هذه الرغبة، حتى يبنى هذا المسجد. تشييع جثامين الضحايا في أجواء مهيبة في أجواء مهيبة، وبحضور جمع غفير من المواطنين، والسلطات التي يتقدمها والي سطيف محمد أمين درامشي، تم تشييع جثامين الضحايا الثمانية، الذين أدى الحاضرون صلاة الجنازة عليهم في الملعب البلدي ، قبل أن يواروا التراب، بمقبرة معاوية مركز، مخلفين من ورائهم عائلات بأكملها وجرحا عميقا سيصعب مداواته، فالأمر هنا يتعلق بثمانية رجال من عائلة واحدة، غادروا الدنيا في غضون دقائق معدودة. ولا تعتبر الفاجعة التي ألمت بعائلة بونمرة ببلدية معاوية بسطيف، الأولى من نوعها، التي تتسبب في هلاك الأشخاص، بسبب استنشاق غاز الاحتراق أثناء عمليات تنظيف وترميم الآبار، حيث يحفظ سجل مثل هذه الحوادث عبر تراب الولاية، وفاة شقيقين داخل بئر بمنطقة ولاد حشيش غرب مدينة سطيف أثناء عملية التنظيف في جويلية 2019، وفي جوان 2022 وفاة شقيقين داخل بئر بحي محمد بن بقاق 400 مسكن العيد الضحوي جنوب مدينة سطيف أثناء عملية التنظيف أيضا، لتبقى هذه الحصيلة النسبية، درسا يجب أخذه بعين الاعتبار، لتفادي تكرار هذه المآسي، سواء بالاحتراز عند القيام بهذه الأشغال والتعامل الحذر في حال تسجيل حالة اختناق أشخاص داخل هذه الأماكن المغلقة.