منارة إشعاع إفريقي ومتوسطي وعالمي تعززت الأمة الجزائرية منتصف هذا الشهر الهجري عشية رمضان الكريم بتدشين جامع الجزائر كمشروع حضاري كبير ظل على مدى حقب كثيرة حلم قوافل الشهداء والأبطال ليغدو منارة دينية وعلمية وحضارية شامخة تشع في كل أرجاء حوض البحر المتوسط وافريقيا، برا وبحرا وجوا، لتؤكد استعادة الأمة الجزائرية هويتها المسلوبة ودينها المصادر وأرضها المغتصبة، وعودتها مجددا في ظل سيادتها ووحدتها لفضاء الهلال بعد مقاومة وممانعة لأزيد من قرن وثلث قرن لكل محاولات الاستعمار الفرنسي لردها عن هذا الانتماء، بما سخر من طاقات مادية وبشرية؛ عسكرية وسياسية ودينية ومدنية، ودفعها للاستسلام وثنيها عن المقاومة وشل قوى الممانعة الدينية والحضارية في نفسها، لكن كل هذه المحاولات تكسرت على جدار الصمود، وعقيدة الولاء و البراء، الولاء لله وللمؤمنين والبراء من غيرهم، حتى جاء النصر وفرح الجزائريون. وفي خضم هذه الفرحة لم ينسوا صيحة الكاردينال لافيجيري، منذ قرن في هذا المكان متغطرسا ومتسائلا: أين أنت يا محمد؟ فأجابته الأمة الجزائرية فجر الاستقلال بتسمية المكان باسم المحمدية، بإجابة عملية بليغة مفادها: محمد هنا! خالد ما دامت هذه الأمة موجودة بأرضها وشعبها ودولتها، ثم تعززت الإجابة هذا الشهر بتدشين جامع الجزائر، ثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين الشريفين، لتحسم الأمة الجزائرية قرارها بانتمائها الأبدي الخالد للإسلام واحتضانها له، وإعلانها الشروع في نشر رسالته افريقيا وعربيا ومتوسطيا وعالميا، بوسطية واعتدال تكشفان عن عظمة هذا الدين وسماحته، كما فعل أسلافها عبر كل الحقب، يعضدهم ثبات الجزائريين وإخلاصهم واستعدادهم دوما للتضحية حفاظا على دين عظيم وأرض طاهرة تستقطب من كل الربوع طلاب العلم والباحثين عن التواصل الحضاري والحوار. ع/خ هذه رسالة الجامع الحضارية وغاياته الاستراتيجية لا يخفى أنّ الجامع يحظى بمكانة مقدّسة في قلوب المسلمين، وفي قلوب الجزائريين على الخصوص، وأنّ الجامع عبر التاريخ الحضاري للمسلمين كان بمثابة القاطرة الأمامية التي تقود المسلمين وترشدهم في مختلف اهتماماتهم المصيرية، ففي الجامع كان يبايَع أمير المؤمنين، وتُعقد ألوية الجهاد ضدّ الغزاة والمستعمرين، ومنه تنطلق الجيوش، وفي الجامع تزكو الأرواح، وتزهو بمجالس الذكر، وفيه تنصب مجالس القضاء والتعليم والفتوى، ويُعقَد القِران بين المتزوّجين، وتحلّ مشاكل أسرية واجتماعية، وفيه تجمع الزكوات والتبرّعات لتُصرَف في وجوه البرّ، وهو الذي احتضن الزوايا و المدراس القرآنية للتربية والتعليم، فمنه تخرّج العلماء والفقهاء، وتلقّى المثقفون أساسيات الثقافة الدينية، وغير ذلك من الأدوار التي جعلت الجامع محور حياة المسلمين، ومهوى أفئدتهم وعقولهم. ورغم ما لحق الحياة المعاصرة من تطوّر، وازدهار المأسسة لمختلف القطاعات، وترقّي الاختصاصات، ألا أن تلك المكانة المعنوية للجامع ما انفكت راسخةً في النفوس، فعندما تقع الفتن، وتنزل بالأمة المحن، وتشتدّ الأزمات، وتضطرب المواقف والآراء؛ تشرئبّ أعناق النّاس إلى العلماء والأئمة الفقهاء، يلتمسون منهم معرفة الحقائق على وجهها، والمواقف على صلابتها أو مرونتها، لما يعتقدون فيهم من كونهم أكثر النّاس تأهُّلاً للإدراك، وبُعْداً عن أطماعها الدنيا ونزوات النفوس وأهوائها. وقد رأينا كيف احتفل الشّعبُ الجزائريُّ احتفالاً كبيراً بافتتاح جامع الجزائر منذ أزيد من ثلاث سنوات، حتّى أُغلقت الطرقات من زحمة القاصدين له في تلك الجمعة الأولى؛ ما يدلّ على وعي الجزائريين بكون الجامع مكسبًا للشعب وهويته الإسلامية، وقد شهدتُ بنفسي من كان يبكي عند دخوله، ومن كان يحدّث أهله في الهاتف بأنّه كأنّما يمشي في الحرم المكي أو المدني، بلهفة وتحرّق منقطع النظير. وممّا يزيد من أهمية هذا الصّرح؛ أنّه مؤسسة ذات صفة عليا (وزارة)، وأنه مستقلٌّ بشخصيّته وإدارته وصلاحياته، كما أنّ موقعه الجغرافي الاستراتيجي في قلب الجزائر العاصمة، وكونَه بناءً ذا مساحة كبيرة جدًّا، وذا مرافق في غاية الأهمية؛ يجعله مكسباً هو الأوّل والأكبر من نوعه للبعد الدّيني في الجزائر منذ الاستقلال، بل للمغرب الإسلامي ككلّ، ما يرشّحه ليؤدّي دوراً كجامع الأزهر الشريف، وجامع الزيتونة، وجامع دمشق، وغيرها من جوامع العالم الإسلامي العريقة، التي أسهمت في حفظ بيضة الأمة، واستمرارية رسالتها، وإنّ الوفاء بالطموحات والآمال التي تتعلّق بمثل هذا المكسب التاريخي؛ لهو من أعظم الأعمال التي يقدّمها الجزائريون الأصلاء بين يدي ربّهم، خدمةً لدينهم ووطنهم، وتحقيقًا لجزء من الغايات التي من أجلها مات شهداؤنا الأبرار. وفي ضوء ما سبق نرى أنّ رسالة الجامع الحضارية والغايات الاستراتيجية التي نتصوّر أن يسهم الجامع في تحقيقها على المدى المتوسط والبعيد، هي بالتفصيل: حماية ثوابت المجتمع الجزائري وقيمه وأصالته، والمحافظة على الوحدة الوطنية، وحمايتها من التفكّك، من خلال إبراز المكوّن الدّيني الذي يُعدّ الجامع الحقيقي للشعب الجزائري والمغاربي، والتأصيل والترسيخ للمنظومة الدّينية الوطنية الأصيلة في أبعادها: التاريخي، والعقدي، والفقهي، والروحي، والفكري، وإعادة الاعتبار للشخصية الدينية الجزائرية والمغاربية بخصوصياتها التاريخية والحضارية، وبعبقريتها التي كانت مصدر إشعاع للعالم الإسلامي، من خلال الحواضر الكبرى التي احتضنتها أرضنا المباركة: بجاية، وتلمسان، وتوات، ومازونة، وغيرها، لتعود الجزائر مصدر إشعاع ديني كما كانت سابقًا، والتركيز على المشتركات الجامعة، للإسهام في إعادة بناء قاعدة التوافقات الوطنية، وبالتالي العمل مع الجميع في ضوء هذه المشتركات، ونشر الإسلام الوسطي الأصيل والمعتدل، بمحكماته الثابتة، وبمروناته التي تستجيب لمقتضيات العصر وتعقيداته، ممّا من شأنه أن يطرّف النزعات المتطرفة، الوافدة، ويحيّدها عن التأثير في المجتمع، والإسهام في بناء المنظومة الفكرية والثقافية الوطنية، وإبراز الصورة المشرقة للإسلام الحضاري، بقيمه الإنسانية العالمية؛ قيم: الحقّ، والعدل، والإحسان، والسماحة، والحرية، والعلم، والعمل، والعمران ... إلخ، وإشعاع الجامع على المحيط الدولي، مع الحوار وتبادل ونقل الخبرات المفيدة والرائدة، لا سيما المحيط الإقليمي المغاربي والإفريقي والمتوسطي. رسالة الدبلوماسية الدينية مما لاشك فيه الدبلوماسية هي أحد أهم نقاط التفاعل والاحتكاك بين الأمم والشعوب ولها آلياتها ودواتها الخاصة بها، ومن بين أدواتها الجانب الديني في إطاره الثقافي، العلمي والروحي ويمكننا القول لقد لعبت الدبلوماسية الدينية من خلال السفراء غير الرسميين العلماء والدعاة الذين اتخذوا التجارة وسيلة للأسفار والاحتكاك بالأمم والشعوب من المحيط إلى المحيط في أدغال إفريقيا وتخوم أسيا و مجاهيل أوربا دورا لا يستهان به في التعريف بالإسلام والدعوة إليه، بل ولقد كانت هذه الدبلوماسية سببا فاعلا في دخول أمم وشعوب في دين الله تعالى بدون صليل سيف ولا صهيل خيل، وكانت لهم بصمات واضحة وإضافات بينة وتأثير لا ينكر في الحضارة الإسلامية. كما كانت لتلك الحواضر الإسلامية عبر مختلف الحقب التاريخية للأمة الإسلامية شرقا وغربا اليد الطولى في نشر الإسلام ولقد تواصل ذلك العطاء الثري لتلك الزوايا والربط والمدارس والجامعات كالأزهر والزيتونة والمدارس النظامية وقرطبة وغرناطة في الأندلس والمدارس التي أسسها صلاح الدين لإصلاح ما أفسده الفاطميون من عقائد و أخلاق دون أن ننسى حواضر بجاية وتلمسان وحاضرة توات بعلمائها ومصلحيه فكان لخريجي هذه الحواضر العلمية إسهماتهم في التعريف بالإسلام وعظمة تشريعاته وصفاء وبساطة عقائده، بل وكانوا دروعا وحصونا منيعة، وقلاعا متينة للذود عن حياض الأمة الإسلامية، ولقد صنعوا مجد الأمة وصانوا مشهدها الحضاري من غائلة الأعداء على كثرتهم، وحافظوا على مرجعيتها وما جهود سيدي محمد المغيلي عنا بالبعيدة. واليوم ونحن نشهد افتتاح صرح ديني علمي حضاري على أرض الشهداء والمجاهدين، أرض اتخذها المنصرون قاعدة انطلاق لنشاط تبشيري يستهدف أبناء الجزائر، فمن أرض اغتصبت وسميت بهتانا وزورا لافجيري، إلى أرض حررت وسميت المحمدية، بني فيها صرح اسمه جامع الجزائر، فيه توليفة بديعة من المرافق والمنشآت التعبدية والعلمية والأكاديمية والبحثية، يؤطر كل ذلك كوكبة من العلماء والمفكرين من خريجي المدرسة الجزائرية نحسبهم على خير ما نأمل لهذا الصرح الحضاري أن يكونوا قصب السبق بالرجوع بالجزائر إلى سابق عهدها الريادي من خلال استقطاب بعثات علمية من مختلف دول العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وليكن لإفريقيا حصة الأسد فهي امتدادنا الطبيعي وجبهة أممنا الفكري ليتشربوا بالروح العلمية المبنية على الوسطية والاعتدال، وإعمال المقاصد بدون تسيب، والاطلاع على تاريخ الجزائر ورصيدها الحضاري وتأثيرها في المشهد العام للأمة الإسلامية والتعرف عن كثب على تاريخها المجيد ونضالها التليد من خلال كنوز ودرر بصمات رجالها ونسائها سجلوا إسهاماتهم في سجل الخالدين عبر التاريخ وخاصة بعد دخول الإسلام سويداء أفئدتهم وإلى يوم الناس هذا، وليكن هؤلاء خير سفار الجزائر وصمام آمانها، هذا أملنا في جامع الجزائر، ولا يكون هذا إلا بصدق وإخلاص العاملين وتجردهم عن الأهواء وتولية الكفاءات رجالا ونساء والخبرة والبصيرة والتنازل عن حظوظ النفس والهوى وتكون قاعدة كل واحد إلهي أنت مطلوبي ورضاك مقصودي. الجزائر المحمدية تتوج بمنارة للعلم والايمان أحس أجدادنا ببساطة الإسلام هذا الدين الوافد الجديد فاعتنقوه ودخلوا فيه أفواجا وحاولوا فهمه والتعرف على مبادئه بل وبرعوا في علومه ففي القرن الثاني والثالث للهجرة ظهر نوابغ من أهل البلاد الجزائرية جمعوا بين مختلف المجالات الثقافية والعلمية، وقد أدهش هذا الإقبال كل المؤرخين الغربيين حيث قضى هذا الدين على كل محاولات ربط مصير المغرب العربي بالغرب الأوروبي. وكان آخرها الاستدمار الفرنسي والذي ظن أنه استوطن الجزائر وامتلك أرواح أهلها فقد وقف الكاردينال لافيجري على هضبة المحمدية بعد أن أصبحت مكانا لتخريج الآباء البيض قائلا: أين أنت يا محمد، وقد كان رئيسا لأبرشية الجزائر سنة 1869 وناضل كثيرا لاسعاف المستوطنين وتوجيه النشاط الروحي للكنيسة في خدمة الاستيطان، وتغيير الحكم في الجزائر بما يتناسب مع مصالح المستوطنين، ولكن هيهات فقد رجعت الجزائر لحوزة الإسلام ودفع الشهداء الأبرار أرواحهم فداء لهذا الدين. وها نحن اليوم وقد افتتح مسجد عظيم بمنطقة المحمدية ليكون منارة للعلم والعلماء فالمسجد في الإسلام ليس مكانا للعبادة والتحنث فحسب بل هو مركز الدولة المسلمة. ولعل الأسباب التي تجعل منه منارة وقبلة للمسلمين هي: -أن الرجال الذين يتربون في المساجد هم نواة الأمة الواحدة التي ستكون في مستوى المسؤولية لبناء مجتمع متكافل متماسك قال تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )).التوبة 18 وقال تعالى: ((رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُون يوْمًا تَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)) النور 37 -ليعلم جميع الناس أن المسلمين يجمعهم التوحيد وعليه يكون الولاء، وهو ليس مكانا للعبادة فحسب بل هو المكان المناسب للتثقيف والتعليم بعيدا عن الصراعات الفكرية والمذهبية المختلفة التي تنشأ من عدم وجود وحدة موضوعية للثقافة التي يتلقاها الأفراد قال تعالى: ((لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَال يحِبُّونَ أن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)).التوبة 108 -أن القرآن والعلم الذي يتلى ويدرس في المساجد هو زاد المسلم قال تعالى: ((في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رجال.)). النور 36 -هو مركز للقيادة والريادة فقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ لإرساء دولته ببناء المسجد. فهنيئا للجزائر المحمية بالله بهذا الصرح الذي سيكون منارة للعلم والايمان لافريقيا والعالم الاسلامي قاطبة.