غاب الأسبوع الماضي الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس أحد كبار سحرة أمريكا اللاتينية، في وقت كانت الشائعات تقتل فيه صديقه الساحر الأكبر غابريال غارسيا ماركيز الذي قاوم في بسالة مرضا خبيثا بالكتابة. فوينتس انطفأ في الثالثة والثمانين وهو في أوج نشاطه لا يتردد في القول أن أسباب الحياة لديه تفوق أسباب الموت. فقبل رحيله بأيام قليلة كان يكشف للصحافة في معرض الكتاب بالأرجنتين عن مشاريع كتابة جديدة، بعد أن أنهى روايته الأخيرة "فيديريكو في شرفته". والتي يتناول فيها حكاية بعث "نيتشة" في شرفته في الخامسة صباحا قبل أن يدخل في محاورة طويلة مع الكاتب. وقبل أيام قليلة من وفاته نشرت جريدة الباييس الاسبانية حوارا مثيرا مع الكاتب المصر على الحياة حيث استخف بمرور العمر بقوله "أنا صديق جان دانييل( الصحفي الفرنسي جزائري المولد ومؤسس مجلة لونوفال اوبسرفاتور). رجل أكمل 91 عاماً، وهو يقظ أكثر منك ومني. نادين غورديمير لديها 90 عاماً. والممثلة لويس راينر، التي التقيها كثيراً في لندن تبلغ 102 عاماً. وتذهب معي الى العشاء، ترتدي قلنسوة على راسها، وتسير سعيدة في حياتها. ليست هناك قواعد. و الواقع هو أنه بعد بلوغ سن معينة، أما يبقى الواحد منا شاباً، أو ينتهي به الأمر إلى الخرف".ولي غريبا أن يصدر ذلك عن فوينتس الذي ينتمي إلى جوقة كتاب الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية الذين شغلوا عالم الأدب ليس في قارة الخوارق وحدها بل في أوروبا وأمريكا وآسيا وحتى العالم العربي الذي اكتشف متأخرا هذا الأدب الذي تقترب أجواؤه من أجواء ألف ليلة وليلة، الكتاب الأساسي في الثقافة العربية. وهو كغيره من أبناء "الشلة" لم يتوقف عن النشاط السياسي والاجتماعي والنضال الطويل الذي عرف به كتاب هذه القارة. وقد ظل اسم فوينتس يتكرر في موسم نوبل من عام دون ان ينال جائزة الجوائز التي انصفت مواطنه أوكتافية باث، إلا أنه حاز جوائز مهمة منها جائزة رومولو غاييغوس عام 1977، وجائزة سرفانتس 1978، وجائزة امير آستورياس للآداب 1994. و رغم أن فوينتس لا يتمتع بشهرة ماركيز أو ماريو فارغاس يوسا في العالم إلا أنه مكانته لا تناقش في أمريكا اللاتينية او في المكسيك منذ أصدر روايته الأولى "«المنطقة الأكثر شفافية» قبل خمسين عاما وهي رواية تاخذ على عاتقها كتابة تاريخ مدينة مكسيكو وتحولاتها ويرى نقاد أنها تؤرخ لبداية « عصر الرواية الحديثة في المكسيك»، وهي تطرح انتقادات مباشرة للإرث الذي خلفته الثورة المكسيكية (1919- 1917" وتعيد بناء الذاكرة الوطنية كما تؤرخ للحظة القطيعة مع الأدب التقليدي السابق". ومن بين اعماله الشهيرة "الغرينغو العجوز" ورواية " أورا " اضافة إلى مجموعاته القصصية " الأيام الممتعة " و"نشيد العميان" و"شجرة البرتقال " ويرى بعض النقاد أن أدبه هو إعادة بناء لذاكرة المكسيك بين مراحل تجمع اليوتبوبيا والملحمة والاسطورة ووفقا لهذا المفهوم لم ينظر للتاريخ باعتباره موضوعا للقداسة بقدر ما كان ساحة للاشتباك وطرح تصورات نقدية لإعادة بناء الماضي فكما يقول " عن طريق نقد الاسطورة نعيد تفعيل الماضي " كما اعتبر دائما أن المسكيك بلد اللحظة الراهنة، وفيه الغد دائما غير محتمل وخطر تماما ووفقا للمقدمة الملحقة بالترجمة العربية لرواية " موت أرتيميو كروث " فإن روايات فونتيس قدمت رواية اجتماعية بأفضل المعاني كما أنها قدمت تجديدًا لغويًا انطلق من وعي الكاتب بما يمكن تسميته باضفاء نزعة ثورية على اللغة فهو كان يؤكد دائما" استخدامنا الحقيقي للغة يخضعها لنزعة ثورية يومية تتمثل في وضع كل شيء موضع تساؤل". وإلى جانب إبداعه الروائي، كتب سيناريوهات لأفلام سينمائية عدة مثل سينايو فيلم "روح نقية" (1996) وفيلم "زمن الموت" (1966) بالاشتراك مع غابرييل غارسيا ماركيز، كما تحولت بعض رواياته إلى أفلام سينمائية. وقد وُلد كارلوس فوينتس ماسياس يوم 11 نوفمير 1928 في بنما لأبوين مكسيكيَّين، وتنقّل منذ طفولته في بلدان عدة بسبب عمل أبيه في السلك الدبلوماسي مما أثرى تجربته الشخصية والروائية والسياسية، وقد اشتغل صحفيا عند عودته على المكسيك بعد ذلك. تخرج من جامعة المكسيك الوطنية المستقلة قسم الحقوق، وتابع دراساته العليا في الاقتصاد في سويسرا. واختير عام 1972 عضوا في الكلية الوطنية المكسيكية حيث قدَّمه الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث. وفي عام 1975 تولَّى منصب سفير المكسيك في فرنسا بدأهُ بفتح أبواب السفارة للاجئين السياسيين اللاتينيين والمعارضين من الإسبان لنظام فرانكو.ولم تمنع المناصب السياسية هذا الكاتب من الاختلاط بكُتاب شبابٍ مُبتدئين، فكان كثير الدّعم لهم ومقربا منهم، مما أسهم في كسبه ودّ المحيط الأدبي إضافة لمعجبيه من القرّاء ومتابعيه من النّقاد.ولم تخل حياة الكتاب من أحداث تراجيدية حيث فقد ابنه وابنته وهما في سن الخامسة والعشرين والثلاثين على التوالي.لكن فرحته بالحياة بترت ولن يتمتع محبوه بقراءة "رقصة المئوية" التي قال كاتب "موت أرتيميو كروز" أنه بصددها، لينسحب من الشرفة هو الذي لم يشغل أحد المكسيك كما شغلها ليس بأسلوبه المتميز و موضاعاته العجيبة ولكن أيضا بالتزامه كيساري ونشاطه الاجتماعي الذي جعل منه نجما لا يضاهيه حتى الرؤساء الذين تعاقبوا على المكسيك، وهذا أمر نادر الحدوث في بلد حديث العهد بالديموقراطية.ويشكل رحيله إنذارا قاسيا لعشاق أدب أمريكا اللاتينية في العالم، خصوصا وأن سنه من سن ماركيز المريض الذي أصبح في سنواته الأخيرة مقلا في الكتابة، ما يعني أن أوراق شجرة مباركة بدأت تدوي في خسارة لا يمكن تعويضها.