نصف قرن يمر على عمر الرواية اللاتينو أمريكية و سنة أخرى تنقضي من عمر هذه الأرض التي تحمل من المتناقضات ما يؤسس للحلم فيها. أمريكا اللاتينية أو الجنوبية ،رقعة فسيحة تحمل من موروث التاريخ ما أسس لأدب يشبه السحر و لعل ظهور الرواية اللاتينوأمريكية بصورة مفاجئة خلال سنوات الستينيات عزز هذا الطرح من حيث أنها صنعت لنفسها مشهد مغاير لثابت الآداب الأروبية و كأنه خرج من العدم تماما و نال بعدها شهرة واسعة بلغت الآفاق في عمود الآداب العالمية .و جاء تتويج بعض الأسماء بجائزة نوبل للآداب كإعتراف سيد بنوعية إبداع هذه القارة التي تحمل من السحر ما لا نجده في مكان آخر. هذا التتويج لم يكن ليأتي لولا النمطية و التميّز الذي ظهرت به كتابات ميغال آنخيل أستورياس و غابريلا ميسترال و بابلو نيرودا في الشعر و غابرييل غارسيا ماركيز ...إلخ حيث إنفردت كتابات هؤلاء بطرحها المدهش و الغني بزخم القارة بكل أبعادها الإجتماعية و السياسية و الثقافية وحتى التاريخية. فالأساطير و الخرافات تبدو في حياة الإنسان هناك أمرا عاديا لا يخلو من غرابة و خصوصية عما هو مألوف في كتابات روائييها التي غزتها الدهشة و المخيال. و المتتبع لمآل الأدب اللاتينوأمريكي اليوم سيفهم حتما كنه ما صرح به الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا بمناسبة تكريمه من قبل هيئة الآدباء الألمان بجائزة السلام العام 1996 حيث صرح قائلا:'' أظن أن الأدب يجب أن يكون صورة للواقع،ولكي نتملك هذه الواقعية ،على الكاتب أن يحوّل من هذه الصورة لكي يصف لنا الأشياء الأكثر واقعية في أدبه.'' أما كاتب مثل ماركيز، عرف كيف يكسب هذا الواقع إلى صفه بكل ما يحمله من تناصات تنتسب إلى الموروث الحضاري لقارته و إستنطاقه لميثولوجيتها المتدفقة زمانيا و مكانيا بشكل يوحي بالأصالة و روح الحكي النابع من تاريخ القارة المليء بالأسرار. لقد سمح ماركيز لنفسه تجاوز الواقع كواقع عندما فجر لحظاته المسروقة من لدن ألامه الشخصية في ''الحب في زمن الكوليرا'' أو في ''الكولونيل لا أحد يراسله'' و ظهرت سمومه الرحيمة في أدوار تقمصت العزلة في ماكوندو الأسطورية التي صنعت إسم هذ الكاتب. و يعتقد ماركيز أن الرواية عبارة عن إستعراض مكثف للواقع،أو أحجية تلف لغز الإنسان فراح يسرد حياة عائلة بكاملها و يبحث بحماس عن مصدر عزلتها فوجد السر في أنها لم تكن قادرة على الحب.فالواقعية المقصودة في الرواية تبدو مغايرة للواقع المعيش من الرغم أن الأحداث تعتمده كمنطلق للرواية. أما على مستوى اللغة الروائية فأقل ما يقال عنها أنها لذيذة وساحرة و ربما أحسن مثال يساق،خرجات خوليو كورثازار في قصصه القصيرة التي خلق من خلالها حياة غير الحياة و احتفل أشد إحتفال بما ردده ماركيز بخصوص تحويل الواقع بصورة شاعرية.في سنة 1963 كتب كورثازار روايته الأشهر الموسومة ''الحجلة'' و كان صدورها بمثابة إعلان عن إنبثاق عهد جديد في الكتابة الروائية على مستوى الشكل القصصي و اللغة الروائية و في نفس السنة تقريبا هاجم يوسا الأنظمة الشمولية السائدة في القارة المنهكة بموضة الديكتاتورية ووقف ضد العنف في روايته '' المدينة و الكلاب'' و لا يتوانى فوينتس في الكشف عن الموروث التاريخي العميق لبلاده المكسيك فهو يعد بين ثلة من الأدباء المكسيك الذين تجندوا لرد الإعتبار إلى تاريخ بلادهم ،و تميز إهتمامه الشديد في كتابة التاريخ عندما نشر ''صرخته الروائية'' ''أرضناس terra nostra ذات 800 صفحة و التي عدت مصنفا روائيا عظيما لحوادث تاريخية بدءا من الوجود الإسباني الذي يمثله حكم الملكيين الكاثوليكيين في شخص أزبيلا وفردينان إلى غاية مرحلة حكم فيليب الثاني إلا أنها في واقع الأمر كانت إسقاطا مباشرا على ما يحدث في تاريخ المكسيك الحديث. و في نظر كتّاب مثل هؤلاء،فإن الرواية التي لا تفصح عن شيء و لا تفضح أشياء تبقى مجرد كلمات عقيمة على ورق أخرق، فالسحر المستمد من كتاباتهم إنما مصدره البساطة و الوضوح في حكي الواقع من حيث هو لكن على نحو شاعري و يجعل من الخلفيات و الإسقاطات أجواء موازية للخط الروائي العام المستمد من الواقع ذاته. و كثيرة هي الروايات التي تتضمن وقائعها أخبار كائنات معدمة ،غامضة المصير،و أخرى تعاني التهميش و العزلة ولا ننسى كم الروايات التي فضحت الديكتاتورية و كشفت يوميات السيد الرئيس في قصره البارد و حاشيته المغمورة، ولم تكن الواقعية السحرية إلآ أسلوبا لتفكيك واقع القارة المؤلم و فضح ممارسات الأنظمة الديكتاتورية بشكل علني و أحيانا بطريقة كاريكاتورية . لقد كانت للبعض بمثابة اليد المقدسة و الإلهام الرباني لعرض أخبار القارة على نحو أدبي رفيع المستوى و بديناميكية لا تنضب من نشر الوعي و الثقافة .