مخابر فخمة للبحث العلمي مهجورة و إنتاج حبيس الأدراج بجامعة قسنطينة تضاعفت في السنوات الأخيرة مخابر البحث بجامعة قسنطينة، و زاد معها عدد الأساتذة الباحثين بشكل ملفت، لكن المختصين يجمعون على أن أغلب ما تنتجه يظل ضعيفا و بعيدا عن التحولات السريعة التي يعرفها العالم، رغم الأموال الضخمة التي تضخها وزارة التعليم العالي دوريا للارتقاء بالبحث العلمي، في المقابل ينجز بعض هذه المخابر بحوثا بمستوى مشرف، لكنها تبقى حبيسة الأدراج و لا تستغل في تنمية باقي قطاعات المجتمع. تحقيق: ياسمين بوالجدري و قد وقفنا في استطلاع بجامعة قسنطينة ،التي تضم 104 مخابر بحث، على وضع مًحيّر، مخابر مجهزة بأثاث من الطراز الفخم مغلقة في أولى أيام الأسبوع، و أخرى لم نجد بداخلها سوى عمال الإدارة بسبب غياب الباحثين، حيث علمنا أن عددا كبيرا منها لا يفتح إلا نادرا،فيما يظل بعضها مغلقا طيلة الشهر، مثل مخبر كلية الطب الذي خصص له طابق كامل في مجمع بالجامعة المركزية، والأغرب من ذلك أننا صادفنا أساتذة مجتمعين لتبادل أطراف الحديث في مواضيع لا علاقة لها بالبحث العلمي، ما يوحي بأن الأمر لا يتعلق بأقطاب علمية يفترض أن تعرف نشاطا علميا لا يتوقف، و ذلك إذا ما استثنينا الحركية ،التي يحدثها عدد قليل من الطلبة يلجأون إلى المخابر لاستعارة الكتب فقط. و يبرر بعض الأساتذة الجامعيين هذا الغياب، بانشغالهم في التدريس أو في الحراسة خلال فترة الامتحانات، رغم أن المادة 08 من المرسوم التنفيذي رقم 10- 232 المؤرخ في 2 أكتوبر من سنة 2010، تنص حرفيا على وجوب التزام الأستاذ المتعاقد بعدم ضمان مهام التعليم بصفة ثانوية إلا في حالة الضرورة القصوى. و الملاحظ أن المخابر النشيطة تكاد تعد على الأصابع، و من بينها مخبر الفيزياء الرياضية و الجسيمات الدقيقة الواقع بمجمع شعب الرصاص، فرغم الإمكانيات البسيطة التي يتوفر عليها شهد بداية الأسبوع حراكا علميا، يفسر نتائج جيدة حققها و منها إعداد بحث قدم نموذجا جديدا يفسر توسع الكون دون إدخال فكرة الطاقة والزمان. أما مخبر علم اجتماع الاتصال للبحث و الترجمة فقد شكل تقريبا الاستثناء داخل مجمع المخابر بتيجاني هدام، حيث صادفنا أساتذة باحثين يناقشون تقدم مشاريع البحث، و هو نفس الملاحظ في مخبر علم اللغة الفرنسية و تحليل الخطاب و التعليمية. بحوث تنجز في "آخر لحظة" و أخرى يُعد أغلب محاورها الطلبة و يؤكد عدد كبير من الأساتذة الباحثين أن المنتوج العلمي ،الذي تخرج به مخابر البحث يقتصر في الواقع على سد ثغرات بيداغوجية و لا يتناسب مع المبالغ الضخمة المرصودة له، إذ يرونه بعيدا جدا عن الواقع الاجتماعي، خاصة إذا علمنا أن من المشاريع ما لا تزال تدرس مثلا "النزوح الريفي"، في حين تعمل أخرى بإمكانيات بسيطة جدا لكنها أثبتت قدرتها على تقديم منتوج علمي ممتاز، مقابل مخابر تتلقى ميزانيات كبيرة و تقدم الحد الأدنى المطلوب أو لا تنتج شيئا، والسبب في ذلك "ضعف رقابة الوزارة الوصية" و نقص الأساتذة الباحثين المتخصصين. و أطلق من تحدثنا إليهم تسمية "بحوث الآخر لحظة" على مشاريع البحث التي يلتزم بها أساتذة ينتظرون اقتراب انقضاء الآجال بأسابيع لإعدادها رغم أن المدة الممنوحة لهم لا تقل عن السنتين، و هو وضع "مؤسف" يغذيه غياب الرقابة و المحاسبة من قبل رئيس المخبر و رؤساء فرق البحث، الذين تربطهم عادة علاقات صداقة مع الأساتذة الأعضاء، تمنعهم من إلزام بعضهم البعض بالعمل، و الغريب أن هذه البحوث ،التي يكون مستواها عادة أقل من المتوسط، تنال تقديرات جيدة، حسب محدثينا، الذين لم يخفوا لجوء فئة من الباحثين إلى استغلال طلبة الماستر و الدكتوراه، في إعداد أغلب محاور مشاريع البحوث ليكتفوا هم بالتأطير البسيط، رغم أنهم يتلقون منحة شهرية تصل إلى مليوني سنتيم، في وقت لم نلمس من الطلبة أي تذمر من العمل الذي يؤدونه حيث يرون فيه فرصة لزيادة رصيدهم المعرفي. ميزانيات تصل إلى ملياري سنتيم تصرف في ملتقيات شكلية و خلال استطلاعنا كشف أساتذة و باحثون بالجامعة ، أن بعض المخابر و لضمان صرف جميع الميزانية المخصصة لها، تلجأ إلى تنظيم ملتقيات دولية و وطنية في آخر الموسم الدراسي، يغيب عنها الطلبة و يقتصر فيها الحضور على أساتذة يعدون على الأصابع، رغم أنها موجهة بشكل أساسي لفئة الطلبة ،الذين ينشغلون في هذه الفترة بالامتحانات، و ذهب من تحدثنا إليهم إلى أبعد من ذلك بالتأكيد على أن هذه المتلقيات تنظم عادة بغرض نهب الأموال، عن طريق التصريح للوزارة الوصية بكلفة كبيرة هي في الواقع قليلة جدا. و إن يرفض مسؤولو قطاع التعليم العالي تقديم رقم عن الميزانية المخصصة للبحث العلمي بجامعة قسنطينة، يؤكد رؤساء المخابر أنها تتراوح عادة بين 100 مليون سنتيم و ملياري سنتيم في مخابر "محظوظة"، حيث تصب كل ثلاث سنوات و يتحكم في قيمتها تقديرات رئيس المخبر، علما أن الوزارة الوصية التي خصصت العام الماضي فقط 20 مليار دينار لتسيير البحث العلمي في الجزائر، كانت قد أعلنت عن "مكافأة رئيس الجمهورية" المقدرة ب 500 مليون سنتيم و التي تقدم لصاحب أحسن مشروع علمي، كما خصصت الدولة 100 مليار دينار لصندوق دعم البحث العلمي، و حسب تقديرات مديرية البحث العلمي، يمثل ما يخصص لهذا القطاع في الجزائر 0.63 بالمائة من الناتج الداخلي الخام للبلاد، ما جعل الدولة تقرر مضاعفة هذه الميزانية لتصل إلى نسبة واحد بالمائة، في وقت لا يزال رؤساء مخابر يشتكون من عدم حصولهم على مكافآتهم منذ 5 سنوات. "90 بالمائة من الأساتذة الباحثين لا يرون في المخابر سوى مصدرا للمنح" اعترف الدكتور نور الدين بركاني رئيس مخبر فيزياء الرياضيات و الجسيمات الدقيقة، بوجود فئة كبيرة من الأساتذة الباحثين، الذين يرون في مخابر البحث مصدرا لتلقي المنحة الشهرية و المكافآة و لا يؤدون العمل المطلوب منهم، بحيث لم يتردد في القول أنهم يشكلون حوالي 90 بالمائة من الأساتذة الباحثين المسجلين في جميع مخابر الجامعة، و هي فئة لا تتمتع، حسبه، بروح المسؤولية، و تحاول أحيانا "الاصطياد في المياه العكرة" لتغطية عجزها، بالمطالبة بكماليات مثل الانترنت و أجهزة الكمبيوتر. و هو نفس ما ذهب إليه الدكتور فضيل دليو رئيس مخبر علم اجتماع الاتصال للبحث و الترجمة، الذي قال أن العديد من الباحثين غائبون تماما عن النشاط البحثي و منهم من يقترح مشروع بحث فقط من أجل الحصول على المنحة و يرى البعض أن النظام التعويضي الجديد للأستاذ الباحث ،الذي دخل حيز التطبيق قبل سنة، أسال لعاب فئة من الأساتذة و جعلهم يتهافتون على الانخراط في المخابر و اقتراح مشاريع البحوث للاستفادة من منحة شهرية تصل إلى مليوني سنتيم، و كذلك من السفر إلى الخارج للتربص أو حضور الملتقيات، خصوصا أن وزارة التعليم العالي انتهجت مؤخرا سياسية جديدة الهدف منها تطوير البحث العلمي و تحسين ظروف عمل أعضاء المخابر، للخروج بإنتاج يضاهي الموجود في جامعات أوروبية و عربية، لا تزال جامعات جزائرية و منها منتوري قسنطينة، تُصنف بعدها بفارق نقاط كبير. 1200 أستاذ باحث مقابل 570 بحثا في 3 سنوات جامعة منتوري بقسنطينة التي تضم حاليا 1200 أستاذ باحث، أنجزت طيلة الثلاث سنوات الماضية و على مستوى 104 مخابر، 200 مشروع بحث وطني "بي.أن.أر" و 370 مشروعا تابعا للمركز الوطني لتقييم مشاريع البحث الجامعية "كنابرو"، حسب نائب عميد جامعة منتوري المكلف بالبيداغوجيا شكرود سعيد، الذي قيم هذا العمل بالجيد، و قلل من المشاكل التي يتحدث عنها بعض الأساتذة حول العراقيل الإدارية و نقص بعض التجهيزات، حيث قال أنها ثانوية و وصف ما يثار عن استغلال أساتذة لمراكز البحث من أجل الاستفادة من الامتيازات مقابل ترك العمل عل عاتق الطلبة، بالتفاهات، مؤكدا أن مديرية البحث العلمي و التطوير التكنولوجي التابعة للوزارة الوصية، تعد سنويا تقارير علمية و مالية لتقييم عمل المخابر ، لكنه حمل المسؤولية لرؤسائها في حال حدوث أية تجاوزات. و اعترف محدثنا بمصادفة بعض العراقيل لدى اقتناء التجهيزات الخاصة بالمخابر خصوصا إذا تعلق الأمر بالمواد الكيميائية المستوردة، و ذلك بسبب التغييرات الجديدة التي أدخلت على قانون الصفقات العمومية و دفعت بمصالحه إلى محاولة حلول مشتركة لتجاوزها، مشيرا إلى أن صفقة لتزويد المخابر بتجهيزات تعطلت لسنتين كاملتين، و فيما يتعلق بمخبر كلية الطب،الذي كلف انجازه الملايين ولم يستغل إلى اليوم، أرجع محدثنا ذلك إلى بعده عن المستشفى ،الذي يعد المكان الأنسب لاحتضان المخبر، و قال أن بعد المخبر الجديد عن كلية الطب أيضا صعب من التنقلات اليومية للأساتذة الباحثين، لكنه استدرك بالقول أن التنظيم الإداري الجديد ،الذي ستعرفه الجامعة سيغير من هذا الوضع. مديرية البحث العلمي أنذرت بغلق 4 مخابر و في تقييمها هذا العام لعمل مخابر البحث بجامعة منتوري ، وقفت مديرية البحث العلمي و التطوير التكنولوجي بوزارة التعليم العالي، على أن عددا كبيرا من المخابر صرف من 80 إلى 90 بالمائة من ميزانيته، فيما لم تصرفها أخرى بسبب الإجراءات التنظيمية أو لتعطل استيراد التجهيزات و المواد الكيميائية، و صنفت ذات المديرية 4 مخابر في خانة المراكز المهددة بتجميد عملها نظرا لوضعيتها غير النظامية، و هي مخبر الأمراض الأيضية "maladie métabolique" و الدراسات الإكلينيكية البيولوجية، الوظيفية و الجينية، مخبر التغذية و التغذي و الصحة، مخبر الدراسات الأدبية و الإنسانية، و كذلك مخبر الدراسات الإستشرافية و الاتصالية و هي مراكز أنشئ جميعها قبل أزيد من سبع سنوات، كما أرسلت إعذارات لمخبري بحث قدما حصيلة عمل غير مطابقة، هما مخبرا الهندسة الميكرو بيولوجية و تطبيقاتها، و الفيزياء الرياضية و دون الذرية. "الحل في تشديد الرقابة و ربط مراكز البحث بقطاعات المجتمع" يرى بعض الباحثين أن الأموال التي تضخها وزارة التعليم العالي لصالح مخابر البحث كبيرة نسبيا، لكنها تبقى ضعيفة باعتبار أنها لا تتعدى حاليا نسبة 0.63 بالمائة من الناتج الداخلي الخام للجزائر، إذ تنفق البلدان المتقدمة ما يقارب 10 بالمائة من دخلها القومي لورشات البحث في جامعاتها الكبرى، في المقابل يؤكدون أن أي ضخ أكبر للأموال لن يكون دون جدوى ،إذا استمر ضعف الرقابة و عدم اعتماد المحاسبة الصارمة و هو دور يبدأ من أبسط رئيس فرقة بحث و ينتهي عند أعلى مسؤول في وزارة الوصية، من أجل منع حدوث أية تجاوزات،على حد تعبيرهم.و أكد الأساتذة و الطلبة أن مشاريع البحوث ،قد تساهم بشكل فعال جدا في التنمية بجميع مستوياتها في الجزائر، إذا تعدت الجانب الأكاديمي إلى المحيطين الاقتصادي و الاجتماعي و تم نفض الغبار عن مشاريع البحوث القيمة، و إذا توفر عنصر التنسيق بين التخصصات العلمية المكملة لبعضها داخل الجامعة، حيث شددوا على وجوب ربط البحوث الجامعية بباقي القطاعات الاقتصادية، و هي إشكالية طرحت في عدة ندوات و تنتظر آليات التطبيق.