يرجع الكاتب والباحث د. محمد أرزقي فراد، بقاء تداول اللغة الأمازيغية إلى عراقتها وثرائها من جهة، ومن جهة أخرى إلى دور التضاريس في حمايتها من الانصهار في اللغة الغالبة، مشيدا بتبني الحركة الإصلاحية للأمازيغية عكس الحركة الوطنية بزعامة مصالي الحاج، ويلقي اللوم على المثقف المعرب الرافض لأحد ثوابت الأمة ويشرح العوامل التي جعلت المثقف المفرنس يقبل بلغة "ابن تومرت". يؤكد الباحث في هذا الحوار وجود تراث أمازيغي مكتوب بالحرف العربي، ويدافع عن هذا الحرف في كتابة الأمازيغية. أثرى الكاتب والنائب في المجلس الشعبي الوطني (سابقا) رفوف المكتبة الجزائرية بمجموعة من المؤلفات منها: "القوى المغربية في الأندلس خلال عهد ملوك الطوائف"، "من شهداء الثورة، للأطفال"، "شرشال تاريخ وثقافة"، "الأمثال الأمازيغية في منطقة شرشال"، "آيت منقلات حكيم الزمان"، "أزفون تاريخ وثقافة"، "إطلالة على منطقة القبائل"، "الأمازيغية ...آراء وأمثال تيبازة نموذجا"، "الحاج محمد السعيد تازروت إطلالة على الشعر الصوفي الأمازيغي". حاوره: نورالدين برقادي البعض يجهل وجود تراث أمازيغي مكتوب بالحرف العربي منذ عهد المهدي بن تومرت (أحد مؤسسي الدولة الموحّدية)، هل من تفاصيل أكثر حول هذا التراث ؟ إن سياسة التعتيم المفروضة على الثقافة الأمازيغية لسنوات طويلة،هي المسؤولة عن جهل الجزائريين لتاريخهم الأمازيغي العريق. فقد أخبرنا التاريخ أن التراث الأمازيغي غني وثري، بشهادة ابن خلدون القائل:. هذا وقد شُرع في تدوين الأمازيغية بالحرف العربي منذ عهد "مِيسْ أتمُورْثْ" (ابن تومرت ومعنى التسمية باللسان الأمازيغي ابن البلد)، الذي ترجم معاني القرآن إلى اللغة الأمازيغية، وألّف بها كتابه المشهور" العقيدة" ثم ترجم إلى اللغة العربية. وأكد الكاتب العربي المصري يحي هويدي (في كتابه الموسوم "تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الإفريقية"، ج1، الصادر سنة 1966، ص 228.)، أن ابن تومرت كان يعلّم التوحيد باللسان الأمازيغي. واستمر أجدادنا الأمازيغ في كتابة لغتهم بالحروف العربية لقرون عديدة، فأنتجوا كمًّا كبيرا من المخطوطات الفقهية لا يزال بعضها محفوظا في المكتبات الخاصة إلى يومنا هذا. لكن إقصاء الثقافة الأمازيغية، من طرف الدولة الجزائرية بعد الاستقلال، قد دفع المثقفين المعربين إلى العزوف عن تناولها، في حين استمر المثقفون الجزائريون المفرنسون في رعايتها انطلاقا من أعمال الفرنسيين المنجزة أثناء الاحتلال الفرنسي، وأدى ذلك إلى هيمنة الحرف اللاتيني على الأمازيغية. كباحث، في الثقافة الأمازيغية، كيف تفسر زوال تداول الفرعونية المنقوشة على الجدران واللاتينية المكتوبة على الورق وبقاء تداول الأمازيغية "الشفوية" ؟ لا أملك الجواب الخاص بالشطر الأول من السؤال. أما الشطر الثاني الخاص بالأمازيغية، فأرى أن هناك عدة عوامل متضافرة، ساعدت على تخطي الأمازيغية للأزمان، يمكن إجمالها في العناصر التالية: (1)- عراقة الأمازيغية وثراء لسانها. (2)- وعورة التضاريس الجغرافية التي ساعدت على حماية اللغة الأمازيغية من الانصهار في اللغة الغالبة، وحمتها من المؤثرات الخارجية. تاريخيا، وقف التيار الوطني ضد الأمازيغية وأقصى العناصر المنادية بها، فيما يعرف بالأزمة البربرية التي حدثت بحركة انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1949، ما هي الدروس المستخلصة، اليوم، من تلك الأزمة ؟ تجدر الإشارة في البداية إلى وجود تباين بين موقفي الحركة الإصلاحية، والحركة الوطنية، من القضية الأمازيغية. فقد تبنت الأولى المكوّن الأمازيغي في الشخصية الجزائرية، بدليل أن مبارك الميلي، قد تحدث بإسهاب في كتابه "تاريخ الجزائر في القديم والحديث" الصادر سنة 1928م، عن الحضارة الأمازيغية. واتخذ أحمد توفيق المدني نفس الموقف في كتابه الموسوم "كتاب الجرائر" الصادر سنة 1931م. كما أشار ابن باديس إلى أصله الأمازيغي حين أمضى إحدى مقالاته سنة 1936 باسم "عبد الحميد بن باديس الصنهاجي"، ولم تكن مقولة "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا" موجهة ضد الأمازيغية، بل كانت موجهة ضد الاستعمار الفرنسي. وتبنى بعض شعراء الإصلاح الانتماء الأمازيغي على غرار الشيخ سحنون، ومحمد الصالح رمضان، ليس من باب التباهي العرقي، بل من أجل إبراز عراقة الجزائر، وتوظيف ذلك كسلاح ثقافي حاد لمواجهة الاستعمار الفرنسي. ومن دواعي الأسف أن الحركة الوطنية بقيادة مصالي الحاج لم تدرج البعد الأمازيغي ضمن منطلقاتها الفكرية كما فعلت الحركة الإصلاحية، وأدى ذلك إلى تصدعها سنة 1949م. بعد استرجاع السيادة الوطنية، استمر تهميش الأمازيغية من قبل الدولة الوطنية، مما دفع بأنصارها إلى تأسيس أكاديمية خاصة بها بفرنسا، منتصف ستينيات القرن الماضي، بقيادة المجاهد بسعود أعراب، ما هو تقييمك لدور هذه الأكاديمية ؟ كان من الأنسب أن تتبنى الدولة الجزائرية بعد استرجاع السيادة الوطنية البعد الأمازيغي في الشخصية الجزائرية عملا بموقف الحركة الإصلاحية السديد. لكن ذلك لم يحدث بسبب قيام نظام سياسي شمولي مستبد قفز على التنوع الثقافي الجزائري. وأدى ذلك إلى حدوث صراع ثقافي، والى انفجار أزمة هوية لا تزال تداعياتها تفعل فعلها في المجتمع الجزائري. ونتيجة لتضييق الخناق على أنصار الأمازيغية من طرف النظام السياسي الجزائري، اضطر هؤلاء إلى الهجرة إلى فرنسا أين واصلوا النضال من أجل افتكاك الاعتراف بحق الوجود للأمازيغية. وتزعم بَسْعُودْ مُحَندْ أعراب، هذا التيار الذي أسس جمعية ثقافية متواضعة، أطلق عليها من باب الإشهار اسم "الأكاديمية البربرية" وهي لا تملك أدنى مقومات هذه التسمية الكبيرة. هذا وقد اعتمدت في نشاطها الهادف إلى ترقية الأمازيغية، على الأعمال التي أنجزها الفرنسيون خلال فترة الاحتلال. وعُرف بَسْعُودْ مُحَندْ أعراب بشخصيته السياسية المتطرفة، وبمعاداته للحضارة العربية الإسلامية. ومن الإنصاف أن نعترف بدور هذه الجمعية (الأكاديمية البربرية) في نشر "الوعي الأمازيغي" بين سكان القبائل، لكن عيبها أنها طرحت القضية الأمازيغية طرحا تنافريا، مع المكوّن العربي الإسلامي، أدى إلى زرع البغضاء والشحناء بين الجزائريين. ومن دواعي الأسف أن الحكومات الجزائرية المتعاقبة قد ظلت لزمن طويل تتجاهل المطلب الأمازيغي، الذي اعتبرته مجرد "بضاعة استعمارية"، في حين أن السياسة الرشيدة كانت تقتضي إنقاذ الأمازيغية من براثن دعاة تغريبها، والعمل على احتضانها بالحرف العربي ، وعلى إعادتها إلى وعائها الصحيح، ألا وهو وعاء الحضارة الإسلامية، التي تعتبر تعدد الألسن آية من آيات الله (أي الوحدة في إطار التنوع). المطلب الأمازيغي بدأ في منطقة القبائل قبل بقية المناطق الناطقة بالأمازيغية: شنوة، الأوراس، وادي ميزاب، الهقار والطاسيلي..، ما هي أسباب ذلك ؟ يمكن تفسير ذلك باتساع رقعة منطقة الزواوة (القبائل)، وكثافة سكانها، وتعلق أهلها بلغة الأمومة، والى ارتفاع درجة "الوعي" الذي يفسر بعوامل تاريخية واجتماعية لا يتسع المجال لذكرها. لذا كانت هذه المنطقة ولا زالت تشكل "السلطة المضادة" للحكم المركزي. وبالنظر إلى هذه المميزات، فإنه من الطبيعي أن تُعرف المنطقة بمواقفها الرائدة في مجالات شتى، كالحركة الوطنية التحررية، والدفاع عن المكون الأمازيغي في الشخصية الجزائرية، والدفاع عن مشروع الدولة الديمقراطية. مرت، مؤخرا، ثلاثة عقود على اندلاع أحداث الربيع الأمازيغي (20 أفريل 1980)، ماذا حققت الأمازيغية منذ منع مولود معمري من إلقاء محاضرة بجامعة تيزي وزو حول الشعر القبائي القديم ؟ لقد حققت انتفاضة الربيع الأمازيغي الهدف المنشود، والمتمثل في الاعتراف بالأمازيغية كمكوّن أساسي في الهوية الجزائرية، وهذا بموجب تعديل الدستور الذي تم سنة 2002م. بعد إضراب المحفظة الذي شنته الحركة الثقافية البربرية في مدارس منطقة القبائل سنة 1995، أنشأت السلطة المحافظة السامية للأمازيغية، وبعد حوالي 17 سنة، من إنشاء هذه المحافظة،هل نجحت هذه الأخيرة في أداء مهامها؟ يعتبر إنشاء هذه المحافظة أحد الانتصارات التي كللت النضال الثقافي الأمازيغي. أما عن تقييم نشاطها فتختلف آراء المهتمين بالشأن الأمازيغي، فالقائمون عليها يعتبرون حصيلتهم ايجابية، في حين يراها البعض الآخر سلبية بحكم عزوف الشباب عن الإقبال على تعلمها في معظم ولايات القطر. أثير الجدال، مؤخرا، بينك وبين الروائي يوسف مراحي، الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية عبر إحدى الجرائد، حول الخط الأنسب لكتابة الأمازيغية؛ حيث تفضل أنت الحرف العربي وينادي السيد مراحي بالحرف اللاتيني، فيم تتمثل الأسس العلمية التي تدعم بها اختيارك لهذا الحرف ؟ لقد أسيل حبر كثير حول هذه النقطة الهامة، وهي إشكالية موضوعية جديرة بالمناقشة، وتحتاج إلى دراسة هادئة، يشترك فيها السياسي والمثقف والمُربي وعالم الاجتماع، لأنها قضية تهم مستقبل الجزائر، وهي على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة في نفس الوقت. لذا أرى أنه ليس من الحكمة ترك أمر تقرير مصير كتابة الأمازيغية للمحافظة السامية فقط، علما أن هذه الأخيرة قد اختارت الحرف اللاتيني، الذي وضعته المدرسة الفرنسية في القرن 19م لكتابة اللغة الأمازيغية. في حين أن تراث هذه اللغة قد كتب لقرون عديدة بالحرف العربي، ولا يزال الكثير يستعملونه في حياتهم اليومية إلى يومنا هذا. والحق أن الإبداع الأمازيغي (خاصة الشعر القديم) قد ارتبط بالحرف العربي حتى صار هذا الأخير مكوّنا أساسيا في هذه اللغة. وفضلا عن ذلك فإن الحروف العربية هي الأنسب لتدوين منطوق الأمازيغية. وهكذا يتجلى بوضوح أن موقفي مبني على معطيات علمية ومعرفية، ولا علاقة له بالطرح الإيديولوجي الذي يتهمني به أنصار كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني. تدرَّس الأمازيغية في عدة مناطق ناطقة بهذه اللغة مثل: القبائل، الأوراس، الهقار... الخ، ما رأيك في تدريس هذه اللغة ؟ تدريس الأمازيغية أمر ايجابي من شأنه أن يعمل على حفظ ثقافتنا الأصيلة باعتبارها تراثا إنسانيا. كما يعتبر أيضا أداة تساعد المؤرخ والأديب وعالم الاجتماع على فهم الماضي وتفسير الكثير من أسماء الأماكن، والعادات والتقاليد، في ربوع المغرب الكبير. هل أنت مع الطرح المنادي بالأمازيغية كقضية ثقافية ولغوية فقط، أم مع من يطالب بذلك في إطار مشروع مجتمع يتضمن إلى جانبها حقوق الإنسان، المساواة بين الرجل والمرأة، فصل الدين عن السياسة ؟ إن اللغة الأمازيغية لا تحمل شحنة إيديولوجية في ذاتها، فهي لغة يعبر بها أصحابها عن أفكارهم المختلفة السائدة في المجتمع. يستعملها الصوفي، والفقيه، والأديب، والليبرالي واليساري، والعلماني، والورع، وغير الورع على حد سواء، شأنها شأن جميع لغات العالم، فهي مثل العربية التي أنجبت من جهة شاعر الخمريات أبا نواس ، وأنجبت الفقهاء الذين أسسوا المذاهب الأربعة من جهة أخرى. فاللغة كائن حي، تعبر عن واقع المجتمع المتضارب في مشاربه، وبالتالي لا يمكن ربطها بإيديولوجية معيّنة. المثقف المفرنس أكثر قبولا بالأمازيغية من المثقف المعرب، وقد صرحت في حوار صحفي مع إحدى الجرائد بأن المثقف المعرب "خان الأمازيغية"، ماهو تفسير قبول الأول ورفض الثاني لأحد أبعاد الهوية الوطنية ؟ السبب في رأيي يعود إلى توفر المصادر والمراجع الفرنسية الخاصة بالأمازيغية ثقافة ولسانا. ويمكن أن نضيف إلى ذلك اتساع أفق المثقف المفرنس، بحكم إحاطته بالثقافة الديمقراطية، والطرح العلمي الذي يحترم التنوع الثقافي والفكري والفلسفي. وهذه المصادر والمراجع أنتجها الباحثون الفرنسيون منذ القرن 19م، لاعتبارات غير علمية في عمومها، إذ جاءت في سياق السياسة الاستعمارية المبنية على قاعدة "فرّق تسد". لكن علينا أن نعترف أنهم أسدوا لنا خدمة علمية عن غير قصد، تجلت في تدوينهم لبعض مظاهر ثقافتنا الأمازيغية، وكان من المفروض أن تولي الجامعة الجزائرية عنايتها لهذه المصادر والمراجع، من أجل غربلتها وتمحيصها قصد الاستفادة من النصوص، والتخلص من القراءة الاستعمارية لها. لكن المثقف المعرّب لم يقم – مع الأسف- بهذه المهمة، بل سوّى في الرفض بين النصوص المفيدة، والقراءات الفرنسية المضرة. كما أنه ذهب ضحية للفكر السياسي الأحادي الشمولي، السائد في العالم العربي، وقد اختزل الوحدة في "الأحادية اللغوية والثقافية"، في حين أن الواقع الثقافي الجزائري متنوع، وعليه فإن الفهم الصحيح كان يقتضي تبني "الوحدة في إطار التنوع ". خصصت أحد كتبك لمدينة أزفون بتيزي وزو، حمل الكتاب عنوان: "أزفون تاريخ وثقافة"، ومن هذه الأخيرة ينحدر جزء هام من أعلام جرجرة، ماهي العوامل التي ساهمت في تميّز مدينة الحاج امحمد العنقى ؟ أنجبت منطقة آزفون العديد من المثقفين في مجالات كثيرة (الغناء/ المسرح/ الرسم / الموسيقى/ الشعر/ الكتابة الإصلاحية...) حتى صارت ظاهرة ثقافية. ويمكن تفسيرها بالمقابسة والمثاقفة التي تمّت بين الأمازيغية والعربية، بفضل حلول أهل الأندلس (آث وندلوس) بها، وكذا وقوعها بين مدينتين كبيرتين هما بجاية والعاصمة، شعّ منهما نور العلم والمعرفة لقرون عديدة. نشرت على مدار عدة سنوات مجموعة مقالات بإحدى الجرائد تحت عنوان "ثاموغلي"، تحدثت فيها عن أعلام وأمكنة من الجزائر عامة ومنطقة القبائل بصفة خاصة، ماهي قراءتك لتحولات المجتمع القبائلي بين الأمس واليوم: سياسيا، اجتماعيا، ثقافيا ؟ إن ما يستخلص من هذه المقالات، أن منطقة القبائل لم تكن عبر تاريخها الطويل جزيرة معادية للمحيط الوطني. بل كانت قلعة للعلم والإسلام والعربية، أنجبت مئات العلماء الذين ساهموا في إثراء الحضارة العربية الإسلامية. وهي أيضا قلعة للوطنية والجهاد. هذا وقد أثنى جمهور القراء على هذه المقالات، واقترح بعضهم نشرها في شكل كتاب لتعميم الفائدة، وهو اقتراح استحسنته. أما عن راهن المنطقة، فهي كغيرها من المناطق الجزائرية، تعاني من التخلف، ومن تراجع القيم الأصيلة، ولعل ما يؤكد ذلك ارتفاع نسبة الانتحار. بين المناضل والأكاديمي، من تحتاج إليه الأمازيغية، اليوم، أكثر ؟ يكمن القول بصفة عامة أن دور النضال السياسي قد انتهى بعد دسترة الأمازيغية. والمجال اليوم مفتوح للباحث الأكاديمي الذي عليه أن يتسلح بالأدوات المعرفية من أجل ترقية الأمازيغية لغة وثقافة.