قطار الضواحي يسير بعربات فارغة ومحطات مهجورة بعدما كان من أهم وسائل النقل التي تعرف إقبالا منقطع النظير من قبل المواطنين، تحول قطار الضواحي بقسنطينة، في الآونة الأخيرة، إلى عبء على مؤسسة النقل بالسكك الحديدية نتيجة عزوف الزبائن عن استعماله، لأسباب تعدّدت و يحصرها البعض في سوء البرمجة و ارتفاع أسعار التذاكر، يأتي ذلك في وقت تعيش الولاية أزمة نقل خانقة تشتد كل يوم و كان الاستغلال المُحكم لقطار الضواحي ليخفف منها. تحقيق: ياسمين بوالجدري * تصوير : ع.عمور على عكس باقي المدن الكبرى في العالم لا زالت ولاية قسنطينة تعتمد في شبكة النقل البري على الطرق، رغم وجود قطار الضواحي الذي يربط الجهتين الشمالية و الجنوبية للولاية من ديدوش مراد و حتى أولاد رحمون، في مدة لا تتعدى 40 دقيقة و على امتداد أزيد من 50 كيلومترا، و هو وضع يفسره مسؤولون في المؤسسة العمومية للنقل بالسكك الحديدية، بنقص الاهتمام الذي توليه السلطات المحلية لهذه الوسيلة التي تضمن بناها التحتية الضخمة نقلا مريحا إلى حد ما و خاليا من الأخطار، و كذلك بعيدا عن الاكتظاظ المروري الذي تعرفه ولاية قسنطينة منذ سنوات بسبب أشغال المشاريع الكبرى و عدم جدوى مخططات النقل الحالية. و قد أصبح المواطن القسنطيني في مواجهة أزمة سير تشتد كل يوم، بسبب الاختناق و قلة وسائل النقل و انعدامها في بعض الخطوط، ما جعل الكثيرين يستغرقون أكثر من ساعتين قبل الوصول إلى وجهتهم، خصوصا من القرى و المدن باتجاه وسط المدينة، في مقابل ذلك يلاحظ قطيعة غير معهودة مع قطار الضواحي، تزداد كل يوم، و يكفي المرور مساء بجانب محطة الحافلات بباب القنطرة، للتحقق من ذلك، حيث يصطف عشرات المواطنين لانتظار الحافلات المتجهة نحو زيغود يوسف، ديدوش مراد، بكيرة، و هي كلها محطات تمر عليها سكة الحديد، لكن القسنطينيين يفضلون الوقوف لساعات طويلة و ركوب حافلات مكتظة أو سيارات أجرة تعمل بمنطق "الكورسة" و أخرى غير شرعية، عوض "المخاطرة" بالانتظار في محطة القطار الرئيسية المقابلة لهم و الواقعة على بعد أمتار قليلة جدا. قاعات انتظار مهجورة و محطات لا يزورها مسافر طيلة اليوم "النصر" قامت بجولة خاطفة في أربع محطات قطار بقسنطينة، بدأت من الواقعة في حي سيدي مبروك و التي تفاجأنا بوجود أكوام من الردوم و القمامة بالقرب من بوابتها، جعلتنا نجد صعوبة في المرور بالسيارة، قبل أن نلاحظ لدى دخولنا المكان أن قاعة الانتظار خالية تماما من المسافرين إلى درجة أن العمال أغلقوها بالأقفال، المحطة وحسب ما أكده لنا مسؤولون بها، تكاد لا تستقبل أي زبون في اليوم و يزورها في أحسن الأحوال 5 مسافرين، رغم أن قطار الضواحي الذي يمر عليها يتسع لحوالي 300 شخص، و هو ما جعلنا نحاول الركوب به لمعرفة حقيقة الوضع عن كثب، لكننا فوجئنا بأن القطار لا يمر إلا في الفترة المسائية و قد يعرف تأخرا يدوم لساعات. الوضع لا يختلف عنه في محطتي باب القنطرة و الخروب، هذه الأخيرة التي لحظنا أنها مهيأة ومجهزة لكنها كانت شبه مهجورة، و لم نشاهد بداخلها سوى العمال الذين أكدوا أن الحياة في المحطة لا تعود إلا عند مرور قطار نقل البضائع، كما ذكر السكان القريبون منها أنهم لا يستعملون القطار دائما، فيما لا يلجأ إليه أغلب قاطني دائرة الخروب، بسبب بعده عن بعض التجمعات على غرار ماسينيسا. أما في محطة باب القنطرة التي تعد نقطة توقف و انطلاق رئيسية، فقد فاجأنا كثرة الشبابيك بها مقابل انعدام المسافرين، فقاعة الانتظار لم يكن بها سوى أربعة أشخاص تبين لنا أن اثنان منهما جالسان في المكان في انتظار معارفهم، فيما لم يكن المتبقيان سوى زوجين شابين يبدو أنهما وجدا محطة القطار الأنسب للالتقاء. اتجهنا لمحطة القماص التي أنجزت قبل أزيد من 5 سنوات و لاحظناها أنها أصبحت وكرا حقيقيا للمنحرفين محاط بالقمامة، فبمجرد وصولنا شاهدنا خروج شابين من داخلها و تفاجأنا لدى دخولها بانتشار أكوام القاذورات و الروائح الكريهة، فيما أكد لنا السكان أنها تحولت إلى ما يشبه مسكنا للمبيت لهؤلاء الأشخاص، يأتي ذلك في وقت لم تستغل هذه المنشأة رغم وقوعها على بعد أمتار قليلة من التجمعات السكنية و حاجة قاطني القماص إليها، باعتبار أن قطار الضواحي يجنبهم عناء البحث عن سيارات الأجرة و اللجوء إلى سائقي "الفرود" أو الحافلات التي يعرف مسارها حالة متردية باهتراء الطرق و طول مدة الوصول إلى محطة باب القنطرة، إلى جانب ذلك لا تزال محطة توقف قطار الواقعة في منطقة وادي حميميم غير مستغلة الأخرى، ما يحيل إلى طرح أكثر من علامة استفهام عن سبب الإهمال الذي طال منشآت صرفت عليها أموال طائلة لم تعد بالفائدة على المواطن. انكماش الزبائن بنسبة 90 بالمائة في ظرف 10 سنوات العمال ذكروا أن العمل في محطة قطارات الضواحي كان قبل 10 سنوات لا يتوقف لامتداد الطوابير طيلة اليوم، إلى درجة أنهم كانوا يأتون في ساعات مبكرة لتحضير وصولات حجز يفوق عددها في كثير من المرات 900 في الفترة الصباحية فقط، حيث كان يعرف إقبالا منقطع النظير من قبل طلبة و عمال يشتركون فيه سنويا للاستفادة من التخفيضات، خصوصا و أن مواقيت الانطلاق و الوصول كانت معروفة، دون تسجيل تأخرات كالتي يعرفها قطار الضواحي اليوم. من جهة أخرى أوقفت مؤسسة النقل بالسكك الحديدية، عمل قطار الضواحي الذي يربط صباحا بين أولاد رحمون و قسنطينة في الرابع و العشرين سبتمبر الماضي، بسبب نقص المردودية و قلة عدد الزبائن، في خطوة يهدف منها إلى التقليل من الخسائر الناجمة عن ذلك، فيما ذكرت مصادر أخرى في المحطات التي زرناها أن المؤسسة و بسبب طابعها التجاري قللت من نشاطها في قسنطينة، بعد توقف المؤسسات الكبرى عن التعاقد معها لنقل العمال من مقار سكناهم إلى المصانع و الشركات. المؤسسة العمومية للنقل بالسكك الحديدية قلصت عدد قطارات الضواحي إلى واحد فقط، و حولتها إلى ولاية باتنة التي تعاقدت مع قطب جامعي من أجل نقل طلبته، فيما أكد مصدر مسؤول في المؤسسة أن عدد مسافري القطارات بقسنطينة انخفض بنسبة 90 بالمائة في السنوات العشر الأخيرة و هو رقم مرشح إلى الانخفاض أكثر في حال استمرار الوضع على ما هو عليه، في مؤسسة أصبح عملها في قسنطينة شبه مقتصر على نقل البضائع، و لم يتعد المعدل اليومي لعدد زبائنها العشرين مسافرا. و نظرا لأزمة الزبائن التي يعرفها القطار السريع هو الآخر، اضطرت المؤسسة إلى تقليص عدد الخطوط الرابطة ما بين الولايات، بحيث ألغي مؤخرا خط قسنطينة- تبسة لنقص المردودية، و أبقي على الخطوط العاملة باتجاه جيجل، بسكرة و الجزائر العاصمة، و هي وجهات يقول محدثونا أنها تشهد اختلالات غيرت البرمجة، بحيث ينطلق القطار من قسنطينة ابتداء من الرابعة مساء عوض السابعة أو الثامنة صباحا، الأمر الذي دفع بالمسافرين إلى تفضيل الحافلات و سيارات الأجرة باعتبار أن هذا التوقيت لا يلائمهم و أغلبهم لا يملك مكانا للمبيت فيه في حال تأخر أو عدم مجيء القطار، الذي أصبح لا يعمل، تقريبا، إلا في مواسم العطل خصوصا باتجاه ولاية جيجل، في حين تحدث مواطنون عن غلاء في أسعار التذاكر بلغ 1200 دينار للتذكرة و جعلهم ينفرون من هذه الوسيلة رغم الراحة و الأمان اللذين توفرهما. سوء البرمجة أفقد ثقة المواطن بقطار الضواحي يؤكد الكثير من المواطنين الذين التقينا بهم بالقرب من المحطات، أن عدم احترام قطار الضواحي لأوقات الانطلاق و الوصول، جعلهم يعزفون عن استعماله بل و ينفرون منه، حيث يلجأون إلى الحافلات و سيارات الأجرة و حتى لسيارات "الفرود" رغم غلاء تكاليفها و عدم ضمانها شروط الراحة مقارنة بالقطار، محدثونا ذكروا أن القطار كان، قبل نحو 10 سنوات، ينطلق في مواقيت مضبوطة منذ السابعة صباحا، نحو نقاط عديدة تبدأ من زيغود يوسف و تصل حتى إلى مدينة عين مليلة، و ذلك وسط إقبال منقطع النظير خصوصا من قبل الطلبة و العمال الذين كانوا يتمكنون من الوصول إلى وجهتهم قبل الثامنة صباحا، و يعودون مساء إلى منازلهم عن طريق قطار الضواحي الذي لم يكن يتأخر لأكثر من ربع ساعة. من تحدثنا إليهم ذكروا أن الوضع مغاير تماما لما هو عليه اليوم، حيث يؤكدون أن التأخرات زادت كثيرا و أصبحت مدتها تفوق ساعة كاملة، ما جعل الكثير من المواطنين يفقدون يوما بعد يوم ثقتهم بوسيلة النقل هذه، التي كانت في السابق الوجهة الأولى لسكان قسنطينة و يؤكد العمال شبكة السكك الحديدية أن انجاز الطريق السيار و تعدد وسائل النقل، تسبب في انكماش زبائنها، بالرغم من أن تسعيرة النقل بقطار الضواحي لا تتعدى 35 دينارا للرحلة الواحدة. و يجمع الكثير أنه قد حان الوقت للتفكير جديا في استعادة قطار الضواحي مكانته السابقة بعدما بدأ يختفي تدريجيا من حياة القسنطينيين، و ذلك عن طريق استغلال البنى التحتية المتوفرة التي صرفت عليها الملايير، و لم تقدم خدمة حقيقية لمواطنين يعيشون اليوم أزمة نقل مزمنة لا بد من التفكير في استغلال قطار الضواحي كبديل من أجل الخروج منها.