عارضت حرّاس التخلف ولم أعارض وطني مجتمعاتنا تتفنَن في تعميم تكنولوجيا تشويه المفاهيم الإنسانية الكبيرة والجميلة الاشتراكية هي العقلانية المسلحة بالأخلاق الرفيعة، ولم تكن السلطة الحاكمة في الجزائر اشتراكية يكشف الشاعر والمترجم عمر أزراج في هذا الحوار الكثير من التفاصيل المتعلقة بقصيدته، التي خاطب فيها الحزب الواحد ودعاه من خلالها إلى التجدد أو التعدد أو التبدد. هذه القصيدة التي روى قصتها في كتاب صدر بمناسبة معرض الجزائر الدولي للكتاب (2012)، وحمل عنوان «قصة قصيدة». حاوره: نورالدين برقادي زرت، مؤخرا، الجارة تونس، كيف هي رائحة الياسمين، وكيف تقرأ الوضع كمثقف اشتغل كثيرا على التحولات الاجتماعية والسياسية؟ نعم قد زرت، مؤخرا، تونس في مهمة فكرية؛ حيث شاركت في الندوة الدولية حول “الفلسفة والديمقراطية والثقافات العابرة للدول" التي نظمتها منظمة اليونسكو وجامعة كاسيل الألمانية. في هذه الندوة التقيت بعدد من المثقفين والمفكرين والمتفلسفين التونسيين والعرب والغربيين. لقد كان الهدف من عقدها في تونس هو الاحتفاء بما يدعى بالثورة التونسية ولقد لاحظت أنَ معظم بل كل المداخلات قد انصبت على الجانب النظري وربما لأن الديمقراطية توجد، كالعادة، في الأذهان وغائبة في الواقع الملموس وفي حياة الناس. لقد وجدت تونس مطوقة بالفوضى بسبب عطالة الدولة وجراء انكماش المجتمع المدني على نفسه ونتيجة لذلك أصبح الشعار الليبرالي التقليدي الغربي المرفوع وهو “دعه يمر ودعه يعمل" قد أصبح في تونس كما في بلداننا أيضا “دعه يمارس الفوضى ودعه يفرَخ الأحزاب التي تبحث عن السلطة والكرسي". لقد سألتني لكي أحدثك عن “رائحة الياسمين" وأنت تعني بهذا المجاز رائحة الحريات في تونس بدون أدنى شك. ماذا أقول لك بالتحديد بهذا الخصوص ؟ ففي رأيي الخاص فإن مجتمعاتنا تتفنَن دائما وعن سبق إصرار في تعميم تكنولوجيا تشويه المفاهيم الإنسانية الكبيرة والجميلة منها مفهوم الحرية. وبهذا الخصوص تذكرت، وأنا أتمعن في سؤالك اللماح وأقلبه ذات الشمال وذات اليمين، مضمون الحوار الذي دار يوما بين غاندي، بمناسبة زيارته لبريطانيا التي كانت حينذاك تحتل بلاده الهند، وبين مجموعة من الإعلاميين البريطانيين المزهوين بإمبراطوريتهم. في هذه المناسبة الاستثنائية جدا سأل أحد الصحفيين الانكليز غاندي، الذي كان يقود عنزته، عن رأيه في الديمقراطية فأجابه الزعيم الهندي صاحب نظرية المقاومة ضد الاستعمار بدون ممارسة العنف بسرعة البديهة. قال غاندي لذلك الصحفي ولبريطانيا المستعمرة أيضا: “إنها فكرة جميلة". في سنة 1984، صدحت بقصيدتك «العودة إلى ثيزي راشد» ببسكرة، هل ساهمت هذه القصيدة بشكل ما في وقوع أحداث أكتوبر ؟ إن الذي يحزنني كثيرا هو أن قصيدتي “العودة إلى ثيزي راشد" مظلومة من السياسيين الجزائريين المنضوين تحت المظلة الحديدية لحزب جبهة التحرير الوطني. لقد كان من المفروض أن يفرحوا بها لأنها أيقظتهم من سباتهم الديكتاتوري بدلا من معاملتها ومعاملتي بقسوة ولا يزالون، مع الأسف، ينظرون إليَ حتى “ليلنا هذا" كولد عاق ينبغي تأديبه بالتهميش والإقصاء. فالشاعر المسؤول أمام شعبه والتاريخ ودماء الشهداء لا يعارض وطنه وإنما يعارض حراس التخلف والحكم الجائر. أنا أرحب دائما بالمنفى وبالتهميش إذا كانا يبعدانني عن مركز الطغيان. أنا لا أستطيع أن أقول لك بأن قصيدتي “العودة إلى ثيزي راشد" قد ساهمت أو أنها لم تساهم في وقوع أحداث أكتوبر لأن ذلك أمر يقرره التاريخ ومن عاصروني. إنه لحد الآن لا أحد “علق العرجون حول رقبتي النحيلة"، ولا أحد كرَمني سوى بالنسيان الشرس. أريد أن أقول بأن الشاعر ملتزم بمهمة إفاقة الناس من النوم وليس بمهنة وضع الأكمام على عيونهم حتى يخادع المارة ليظنوا أنهم مستغرقون في الأحلام التي تحرس نومهم. صدر لك، خلال السنة الحالية، كتاب يتناول قصة قصيدتك السالفة الذكر، وذكرت في هذا الكتاب بأن المرحوم عبد الحميد مهري نصحك بمغادرة الجزائر، لماذا اهتم «سي مهري» بقضيتك ؟ الراحل عبد الحميد مهري كان صديقا عزيزا لي. عندما تعرضت لمحاولة تصفية جسدية في شارع طنجة بالعاصمة ا بعد قراءتي لقصيدة “العودة إلى ثيزي راشد" بشهور أمام جمهور مدينة بسكرة ثم أمام جمهور وهران في عام 1984، شعرت بالخطر وفهمت أن المسألة جدية وينبغي أن أفعل شيئا عندئذ قصدته في مكتبه ورويت له قصة الحادث فقال لي بصريح العبارة بأنه على علم بخطورة الموقف وأنه لا يستطيع أن يوقف مشيئة أولئك العطشى إلى الدم ثمَ أوضح لي أنَ ملفي يوجد بين أيدي فولاذية. أذكر تنهيدته الحزينة عندما نصحني بمغادرة البلاد لفترة من الزمن حتى تهدأ العاصفة. أحسست أن مشاعر الأبوة استيقظت في جوارحه بغض النظر عن خلافي مع الحزب الذي كان هو أحد أقطابه الكبار، وبالفعل عملت بنصيحته وغادرت إلى لندن؛ حيث مكثت 22 سنة كاملة وأذكر أننا التقينا هناك بعد أن زحزحوه من منصبه كأمين عام لحزب جبهة الحرير الوطني وحمل معه إليَ عددا من جريدة “ليبرتي" الجزائرية الناطقة بالفرنسية؛ حيث كتب أحد الصحفيين مقالا فيها عني تحت عنوان “الشاعر والعراة “ وعندما سألته عن رأيه في العنوان قالي مازحا: “هل عندك ورقة التوت حتى نرسلها لهم". تحدثت في هذا الكتاب عن واقع الثقافة والمثقفين زمن الحزب الواحد، هل تختلف علاقة المثقف بالسلطة في زمن التعددية عن علاقته بها زمن ما قبل أكتوبر 1988 ؟ بصراحة، لقد كان المثقف الجزائري غير المنضوي رأسه تحت “شاشية" النظام الحاكم قبل التعددية الحزبية أكثر صدقا وأكثر شجاعة وأوضح موقفا. في ذلك الوقت كان ثمة كبرياء وكانت هنا “فصائل" لا تقول شيئا واحدا مثل الحزب الواحد والأوحد أما الآن فالأغلبية صارت “فسائل" هشة تغني على ليلى “أكل وعيش". لقد استبدلت هموم الفكر النقدي والمواقف الشجاعة ببضاعة الرأسمالية المغلفة بالشعار المرفوع: “كن قنفذا تسلم". في الجزائر لا توجد التعددية الحزبية بمعنى تعددية المشاريع المتمدنة والمتحضرة، وإنما فيها تعددية المصالح الشخصية، واستمرار ثقافة “الشروح المتعددة للرأي الواحد". أعتقد أننا في الجزائر قد قطعنا شوطا مهما في ردم الفارق الرقيق جدا بين المثقف والسلطة لأن المثقف عندنا، وخاصة الآن، مطعّم بمسحوق التسلط وهو مستعد في آي لحظة أن يصبح ألعن من السلطة المتسلطة نفسها عندما يستولي على “البوفوار". في نفس الكتاب دافعت باستماتة عن الاشتراكية ورفضت الرأسمالية رفضا مطلقا، ما رأيك في من يقول بأن الأيديولوجية الأولى سبب مآسي الجزائر السياسية والاقتصادية؛ حيث أقصت الرأي الآخر، علّمت المواطن الإتكالية وأغنت الأشخاص الذين تاجروا بشعاراتها ؟ لا أزال أرفض الرأسمالية التي عشت في عقر دارها ببريطانيا وشربت من سمومها على مدى 22 عاما. لقد صرت أعرفها جيدا [ وهي عارية ] ليس كفكرة فقط وإنما كواقع مر يطحن العمال والطبقات المهمشة أيضا. العيب لم يكن في الاشتراكية وإنما قائما في التطبيقات التي لا علاقة لها بها. لم تكن السلطة الحاكمة في الجزائر اشتراكية. ولم يكن من كانوا يتلعثمون بها يملكون الحس الاشتراكي والثقافة والأخلاقيات الاشتراكية في قلوبهم وعقولهم وأرواحهم. أنا من المؤمنين أنه عندما لا تتحول الفكرة إلى إيمان وعاطفة فإنها تبقى مجرد “مكياج" خارجي يوضع في الليل على الوجوه لإخفاء التجاعيد ويمسحه النهار وكأن شيئا لم يكن. ثم إنه لا اشتراكية بدون ديمقراطية وبدون شعب مثقفَ وبدون قيادة مثقفة. إن الاشتراكية هي العقلانية المسلحة بالأخلاق الرفيعة وأنها ثقافة ووجدان وخيال مبدع وحداثة الجمال ومعمار الروح العادلة. أستطيع أن أعدَل عبارة الفيلسوف الألماني جورج. ف. هيجل وأقول: “كل ما هو اشتراكي هو عقلاني وكل ما هو عقلاني اشتراكي وأخلاقي". إنه لا ينبغي أن نسقط في النزعة الاقتصاداوية ونفسر ونفهم الاشتراكية كمجرد تقسيم متساوي للثروة المادية فقط وإنما هي صنع للمصير الواحد وتحطيم لفائض القيمة المادي والمعرفي الذين تحتكرهما فئة لحد التخمة. بعد هجرتك من الجزائر، اخترت الاستقرار ببريطانيا، وقد ترجمت بعض الكتب من لغة شكسبير إلى لغة المتنبي، كيف ينظر الكتّاب الأنجليز للجزائر والأدب الجزائري ؟ الكتَاب الإنجليز لا يعرفون الجزائر إلاَ بالاسم وهم لا يعرفون الأدب الجزائري أيضا، فمن ذا الذي ينبغي أو يجب علينا أن نوجّه له العتاب أو نضرب على أصابعه بالفلقة ؟ مرَة قال أحد الشعراء: “من لا برَ له لا بحر له" ويبدو واضحا حتى لأولئك الذين عاشوا مئات السنين في كهف أفلاطون أننا نملك كليهما ولكننا أوصدنا أبوابهما دون شمس الحوار الثقافي مع الشعوب وصرنا لا نرى أحدا ولا يرانا أحد. لقد أصبحنا مكدسين في بقعة مظلمة ووحيدين أكثر من اللازم في هذا العالم. في إحدى لقاءاتك التلفزيونية، قلت بأن اللغة العربية «غنيمة حضارية»، هل جاءت هذه العبارة ردا على مقولة كاتب ياسين الذي يعتبر اللغة الفرنسية «غنيمة حرب» ؟ وهل تعتبر الفرنسية كذلك ؟ أنا من أصل أمازيغي ولا يقيدني شك في هذه الحقيقة ولكني أحب اللغة العربية لحد الإشراق الصوفي وأحترم نضالها الحضاري ومقاومتها للموت. نعم، إن المعرفة كلها “غنيمة حروب الإنسان ضد التخلف والجهل والإنغلاق". بهذا المعنى الذي أشدد عليه وأتمسك به مثلما تتمسك الأرض بمدارها في الفضاء الهائل، فإن جميع اللغات والفلسفات والفنون الراقية هي غنائم حرب. وصف أحد الروائيين الجزائريين الكاتب المعرب بالكسول، هل للغة علاقة بالجد والاجتهاد ؟ لا أعتقد أبدا أن الكاتب المعرَب كسول بالفطرة. هناك الصنف المجتهد والمبدع في صفوف الكتاب المعربين، كما أن اللغة العربية “ولاَدة" وشابَة دائما ولا يدركها سنَ اليأس، وهناك أيضا فصيلة من الأدباء غير المبدعين ليس في اللغة العربية فقط وإنما في كل اللغات. ففي رأيي فإنَ من تسوَل له نفسه أن يقول عكس هذا فهو جاهل بالتاريخ وهو أيضا في حاجة ماسة إلى الرضاعة اللغوية سواء في شيخوخته المبكرة أو المتأخرة، ثمَ هل يمكن لنا أن نصف الكتّاب الإغريق المعاصرين لنا بالكسالى بالفطرة ونقول في الوقت نفسه أنَ السبب هو اللغة الإغريقية. لو كان السبب هو اللغة فماذا نقول عن سوفكليس أسخيلوس وأفلاطون وأرسطو الذين صنعوا أمجاد الفكر والأدب والفلسفة ؟ أليسوا كلهم أبناء للغة الإغريقية؟ في معرض الجزائر الدولي للكتاب (سبتمبر 2012)، ارتفعت مبيعات الكتاب الأدبي وانخفضت مبيعات الكتاب الديني، حسب مانقلته الصحافة الوطنية، كيف تقرأ هذا التحول ؟ لا أحب أن أوازن بين الدين والأدب وأن أجعل المبيعات في معرض الكتاب معيارا لتقدم الكتاب الأدبي على الكتاب الديني، ثم هل الكتاب الأدبي في حلَ من الدين حقَا ؟