هو صاحب المقولة الشهيرة "أيها الحزب تعدد أو تبدد" التي أطلقها في نهاية الثمانينيات وطار إلى لندن هروبا من محاولات القتل التي طالته، صدفة التقيناه وهو يعبر فضاء العاصمة، كما كان دائما وفيا لنبض الشاعر فيه وللبلد الذي وجده كما تركه متصالحا مع فوضاه وفيا لسقوطه، على طاولة شاي دخن فيها الشاعر كثيرا وبكى أكثر كان هذا الحوار بلا رتوش ولا مجاملات. اشتهرت بمقولة "أيها الحزب تعدد أو تبدد" التي كادت أن تدخلك السجن قبل أن تهرب إلى لندن، كيف عشت هذه التجربة؟ * مغادرتي إلى بريطانيا ليست من باب الترف السياحي وليست بحثا عن وطن بديل، أنا ذهبت إلى لندن عندما تعرضت لملاحقات أمنية شرسة ومحاولة قتل بالسيارة في شارع طونجي بالعاصمة عام 1985 وكانت أول مرة تتحول قصيدة شاعر إلى مشكلة أمنية وياليتها كانت مشكلة سياسية تحل بالحوار، أولئك الذين تحرشوا بي قدموا لي هدية كبيرة، هي أن تعطي للشاعر مكانة المغيب والشاهد النقدي على واقع بلده الذي كان دكتاتورا ومتخلفا وغير مثقف، وأنا في خضم تلك الملاحقات ذهبت إلى سياسي جزائري مرموق أصبح فيما بعد أمينا عاما لحزب جبهة التحرير الوطني... - (مقاطعة).. تقصد عبد الحميد مهري؟ * نعم، وقد طرحت عليه الأمر وقلت له ماذا سأفعل؟ فرد عليّ بهدوء "لتأخذ راحتك بعيدا عن الجزائر لكي ينسوك" أنا ذهبت إلى بريطانيا لكي أُنسى (يتوقف للحظات يبكي بحرقة ثم يواصل الحديث) نعم الشاعر في بلادي، أما أن ينسى وإما أن يعتصم بالنسيان لكي ينقذ حياته ومستقبله الشعري، من دولة كان يمكن أن تكون حديثة ينتفي فيها القيد والبطالة. قبل أن أغادر إلى لندن كنت شبه متيقن أن انفجارا ما كان سيحصل في الجزائر وقد سجلت ذلك في قصيدة "العودة إلى تيزي راشد". - من حاول تصفيتك، ولماذا انت بالذات؟ * لا أدري بالضبط، وقد كتبت وأنا في لندن مقالا رويت فيه ما حدث، لكن لا أحد من السفارة الجزائرية ببريطانيا أو هنا في الجزائر تحرى في الموضوع أو حتى سألني ماذا حدث، وهذا يعني ما يعنيه، وقد اضطررت فيما بعد إلى بيع بيتي بالعاصمة حتى لا يقتل الشاعر فيه. - برغم ذلك أنت هنا اليوم، هل يعني هذا أنك تتبنى خيار السلطة التي عارضتها بالأمس؟ * أنا من الناس الذين يدعون إلى المصالحة الوطنية، و لكن ينبغي بالمقابل أن نحاسب أولئك الذين جروا إلى أن نستغرق وقتا طويلا في رسم أبجديات المصالحة السياسية بدلا من العمل معا على النهوض بالجزائر اقتصاديا، علميا وثقافيا، فالجزائر اليوم بحاجة إلى أن تتصالح مع قيم أول نوفمبر التي بدأت تختفي وتقضي على الروح الجماعية، مع العلم أن الفردانية الموجودة في الجزائر اليوم ليست عنوانا للمواطنة التي تؤكد استقلالية الفرد، لكنها فردانية التشضي والعزلة والفواصل. - كأنك هنا تتقاطع مع عوالم مالك حداد؟ * ربما رغم أني لم أقرأ له أي عمل رغم أني أعرف الرجل ولاقيته عندما كان أمينا عاما لاتحاد الكتاب الجزائريين وربما التقاطع الموجود بيننا نشأ انطلاقا من تشابه التجربة الجزائرية والحرب التي عاشها حداد بتفاصيلها وكنت أنا حينها طفلا يخوض تجاربه بخجل وصمت. - وربما أيضا من تقاطع المعاناة والاغتراب اللغوي بينكما، فأنت بربري تكتب بالعربية؟ * هذا أكيد، فإذا كان ملك حداد قال إن اللغة الفرنسية هي منفاي، وكاتب ياسين قال إن الفرنسية هي غنيمة حرب، فانا أقول إن العربية غنيمة حضارة، أنا عندما أكتب أشعر كثيرا ما أترجم من البربرية إلى العربية، أترجم معاني وأحاسيس وجبال لالا خديجة وجرجرة وإيقاعات خلاخل نساء تيزي راشد حيث كان سي محند أومحند يقصد السوق النسوي ويقول "الله موجود حيث توجد النساء". - عرفناك معارضا للسلطة، لكن اليوم مكتشف أنك معارضا لأبناء جنسك أيضا؟ * أنا لست رجل سياسة ولم أرد إطلاقا أن أدخل إلى الكرنفال السياسي، كما أني لست معارضا سياسيا نشطا. المعارضة كما أمارسها وكما أفهمها هي مقاومة العناصر الثقافية والفكرية والدينية المظلمة، وانطلاقا من هذه الزاوية فإن الشاعر مثلما قال صديقي "رسول حمزة دوبا" لا يمكن أن يتصالح الشاعر مع أي نظام سياسي، لأن النظام هو دائما مغلق، أما الشعر فهو الفضاء المفتوح دائما للمزيد من المعرفة واكتشاف الذات وتأنيث الحضارة. فالمجتمع الجزائري مجتمع ذكوري بامتياز، والسلطة الجزائرية تسمي نفسها فحلا، وأنا انتصرت إبداعيا على الأقل للسياسة الأنثوية، لأن الحضارة دائما أنثى وليست ذكرا، وهنا أريد أن أفتح قوسا لأستبدل كلمة معارضة بكلمة مقاومة، طالما أن المعارضة ليس هدفها دائما البحث عن السلطة. - تقول إنك لست معارضا سياسيا، لكنك واجهت حزب جبهة التحرير مواجهة شرسة، ألم تكن لك يومها مطامع سياسية؟ * عندما عارضت حزب جبهة التحرير وقاومته لم أكن ضد أشخاص، بل كنت ضد ثقافة الحزب الواحد والثقافة الأحادية لصالح تعددية الأصوات والأفكار إلى وقت قريب، مثلا كانت اللغة البربرية وثقافتها محل جدال عقيم، وكان أهل الحل والعقد يخافون من تعددية الثقافة الأصيلة في البلد، ولا أتحدث هنا عن الثقافة التي هي جزء من الإرث الاستعماري، وحتى هذه الأخيرة ليست كتلة واحدة، بل هناك ثقافات عدة، وكان أحد المثقفين الفرنسيين قد أشار إلى أن الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الجزائري كانا مخطآن في الشعار المرفوع بأن استقلال الجزائر كان يجب أن يكون جزءا من استقلال الطبقة العاملة العالمية.. المجتمع الجزائري مجتمع فلاحين لا يملك الثقافة العمالية التي هي نتاج الصراع الطبقي، ومفهوم الطبقة هو نتاج وعي غربي دخيل على المجتمع الجزائري. - هل تعني أن الخيار الاشتراكي لجزائر الاستقلال كان خطأ تاريخيا؟ * الجزائر تبنت بعد الاستقلال، وخاصة في عهد بومدين، أسلوب العدالة الاجتماعية وإنهاء مظاهر الفقر في أوساط الفلاحين، من هنا فإن ما كان يسمى بالخيار الاشتراكي لم يكن مستندا إلى نظرية الاشتراكية العلمية في المطلق، فالجزائر ونظامها السياسي في تلك المرحلة وجدت صعوبة في إقحام وتطبيق الخيار الاشتراكي بالشكل العلمي الذي طبق به في بعض الدول بسبب جزء آخر في عقيدة الشعب الجزائري وهو الإسلام. حوار: زهية منصر: [email protected]