- جماليات العتبات نموذجا – علاوة كوسة لعلّ المتتبّع لسيرورة النّص القصصي الجزائري القصير – منذ النشأة إلى الآن – يشهد تلك الصّيرورة من شكل إلى آخر ، فأوّل ما ظهرت فيه القصّة الجزائرية " ظهرت في شكلها البدائي ( المقال القصصي / الصّورة القصصية ) وقد ظهرا معا في أواخر العقد الثالث " (1) من القرن الماضي إلى أن شهدت – القصة – أدلجة من منظور المدرسة الإصلاحية التي أولت أهمية للموضوعاتيّ على حساب الفنّيّ الجماليّ في النّص القصصي إذ " اتّخذت هذه النّشأة القصصية الأولى المتعثّرة طابعا إصلاحيا صريحا " (2) ، لنشهد بعدها ثورة القصّة في قصّة الثورة وذلك خلال مرحلة الخمسينيّات " لأنّه نشأ لدى الكتّاب في ذلك الوقت الحافز الفنيّ لكتابة القصّة " (3) ، وقد اتّخذت القصّة يومها من الثورة موضوعا لها بكلّ تفاصيلها وتمفصلاتها الواقعيّة المعيشة " إذ خطت خطوات هامّة نحو النضوج الفنيّ باتّجاهها نحو الواقعية ، متخلية بذلك عن تلك المحاولات القصصيّة البسيطة في معظمها ، الّتي ظلّت زمنا تراوح مكانها في إطار المواضيع الإصلاحية والاجتماعية "(4) وإنّ اقتران النّص القصصيّ بالموضوع الثوريّ قد كان في خدمة الطرفين / الحدّين " لأنّ الثورة كانت من أقوى عوامل تطور القصة وازدهارها وخروجها من دائرة المألوف ، والمتشابه والموضوعات الجاهزة ... وقد وجد الكتاّب فيها المنبع الخصب الذي يغترفون منه، فاستمدّوا منها أبطالهم من دنيا الواقع وسط الدم واللهب " (5) ومن الطّرف الآخر وباتّكاء القصّة القصيرة على المرجع الثوري بكل محمولاته فقد تمركزت كفنّ أدبيّ داخل المنظومة " الرّسالية " والأدائية الجهادية والنّضالية ذات البعد الوطني حيث " أخذ الغضب الشّعبي اتّجاهين : الثّورة المسلّحة من جانب ، وسلاح الكلمة من جانب آخر ، فصوّبها في جميع الاتجاهات ، وبشتّى الطّرق ، نثرا وشعرا ، قصّة وقصيدة "(6) ،وبذلك أرادت القصّة الجزائريّة القصيرة ضمان خلودها من خلال الاقتران بأهمّ حدث يعلق بذاكرة الشّعوب وهو الثّورة التّحريريّة لأنّها باب إلى الحريّة التي ينشدها كلّ إنسان ، ولأنّ " الفنّ القصصيّ حياة الإنسان ، يجد فيه ذاته وأفكاره ويحقق من خلاله آماله وطموحاته."(7) وإذا كانت القصّة القصيرة قد انتزعت فنّيتها بتعالقها مع الثوري فإنّه وبعد انتزاع الشعب الجزائريّ حرّيته ، ونيله استقلاله فقد " تطوّرت القصّة فترة ما بعد الاستقلال بفضل حالة الاستقرار السّياسي والاجتماعي الذي ظهرت معه مؤسّسة قويّة فاعلة ، وزارة الثقافة ... هياكل ثقافية ، ملاحق ومجلاّت مختصّة "(8) وعوامل أخرى عديدة من خارج النّص جعلت المجاميع القصصيّة تنتعش من الدّاخل وتزدهر فنّيّا وتعانق الجمالية التي هي غاية كلّ فن ، " وقد تعدّدت مواضيع القصّة الجزائريّة بعد الاستقلال بين الثورة كماض ، والثورة كحاضر ... والهجرة إلى المدن أو الهجرة إلى الخارج "(9) ، وقد انفتحت فنّيا على التّجريب في شكلها تماما كما تنوعت موضوعاتها ، وبدت ملامح الجمالية تبزغ من مطالع جيل السّبعينيات حيث " تميّز النّصف الأوّل من السّبعينيات خاصّة بظهور مجموعة هامّة من الأسماء الجديدة الشابّة ، يمكن أن نذكر منها – في مجال القصة – على سبيل المثال لا الحصر الأسماء التالية : أحمد منّور ، بقطاش مرزاق ، مصطفى فاسي ، بشير خلف ، جروة علاوة وهبي ، عبد العزيز بوشفيرات ، محمّد حرز الله ، مصطفى نطور "(10) وغيرهم كثير ، وكان هذا السّيل الهائل من الحبر القصصيّ نتاج ظروف ساعدت على ذلك : من تحسّن المستويات الثقافية ، الاجتماعية ، ومدد الفعل السياسي الموجّه ، فكان إثر ذلك كله ، التعدّد الموضوعاتيّ المتجدّد ، والأثر الجماليّ العميق ، والواعي في التّعامل مع النص القصصيّ ، فنجد من كتّاب القصة " من لجأ إلى استخدام الأسطورة ، والحكاية الشعبية أو القصص الشعبي القديم ، وهناك تجارب قصصية قليلة استخدمت الخيال العلمي " (11) كقصص محمد الصالح حرز الله وجيلالي خلاص . ولكن على اعتبار أنّ الثورة التحريرية مرحلة أولى في الأدب الجزائري الحديث ، والثورة الزراعية كمعطى اجتماعي / سياسي تفيأت ظلاله النصوص القصصية الجزائرية بتنوّع موضوعاتي فنيّ لافت فإنه يمكن اعتبار أحداث أكتوبر 1988. مرحلة ثالثة / ثورة أدبية ثالثة ، في مسار حركتنا الأدبية الجزائرية المعاصرة .(12) حيث " يجب النظر إلى انتفاضة أكتوبر 1988. كمرحلة ثالثة في تاريخ الأدب الجزائري ... عملت على تعميق الإشكالية الأدبية عموما " (13) وهنا كانت القصّة القصيرة الجزائريّة مفتوحة على آفاق التجريب وعلى كافة المناحي الفنية / الجمالية و الموضوعاتية وبعدها واكبت " القصة القصيرة في الجزائر الأحداث الدموية وواجهت فنيا حرفية المعايشة التي تجسّدت في كمّ هائل من النّصوص" (14) ومنها " اللّعنة عليكم جميعا " للقاص السعيد بوطاجين و" زمن المكاء " للخير شوار و" صهيل الحيرة " لعزالدين جلاوجي... وقد وظّف في هذه المجاميع كثير من " المبدعين أساليب فنية جديدة تطرح بها القصة منها : الرسائل ، وعرض النص بالذكرى ، وتداخل النصوص واللصق ، فن اللقطة السينمائية ، وغيرها من الفنيات "(15) ولدى مقاربتنا للنص القصصي في العشرية الأولى من الألفية الثالثة ، والذي ، والذي لا تكاد تذكر فيه دراسات عميقة كثيرة ، ومتابعات جادة – على خلاف أجناس أدبية أخرى كالشعر والرواية ، لدواع غامضة أو ربما " لأن القصة من أخص فنون الأدب وأصعبها على التقييم والنقد الموضوعي ، وهي تحتاج إلى ناقد متخصص ومتجرد " (16) لذلك تحاشتها أقلام الدارسين ... وإن حديثنا عن النّص القصصي الراهن – نصّ الألفية الثالثة – أو عن راهن الكتابة القصصية في الجزائر هو حديث عن ملامح التجريب على أكثر من صعيد تشكيلي لهذا النص : معماريته ، تمفصلاته ، تسييجاته ، إحالاته ، وتعالق كل هذه البصمات مع المضامين والموضوعات هذا من جهة ، ومن جهة أخرى بين " الحيزية " التي صار متنازعا عنها بين النص الأصلي / الأساسي والنص الموازي من حيث إن هذه " الموازيات النصية هي التي تهيئ المتن ليكون كائنا متميزا " (17) ، إذ لم يعد دارس ينكر ما لهذه العتبات من دور ليس فقط تهييئيا ، تمهيديا لولوج عالم النص الأساس ولكن " بهذه العتبات : العنوان ، المقدمة ، التمهيد ، الهوامش ، ومن خلالها يتأسس التفاوض بين الخارج (القارئ) والداخل (النص) "(18) إذ صارت هذه النصوص الموازية / العتبات الرابط بين المبدع والمتلقي مرورا بسحر النص مقولة / رسالة / شيفرة . وإن " الأبحاث اللسانية والسيميائية ، وتحليل الخطاب أولت العتبات عناية خاصة تجعل منها خطابا قائما بذاته ، له قوانينه التي تحكمه ، لا غرابة في ذلك ما دامت العتبات في حقيقتها تصير بمثابة نص مواز للمتن " (19) تسير معه بذات الأهمية في قول ذاته ، و مقصديته ما دامت " مفاتيح إجرائية تمدنا بمجموعة من المعاني تساعدنا على فكّ رموز النّص ، والوقوف على تضاريسه وطلاسمه" (20) وبدت المجاميع القصصية في العشرية الأخيرة مسيّجة محوطة بنصوص موازية كثيرة ، وعتبات مكثفة ذاتية وغيرية تحيل على التاريخيّ ، الدّينيّ ، الشعبيّ والأسطوري ّ، حتّى غدت هذه النصوص الموازية لا تساعد على ولوج النّص و إفتكاك بكارة المتن فحسب ، بل تقول المتن كلّه وأكثر ، وتلج النص ، تخترقه ، تفضحه أحيانا لتفرغ حسّك القرائيّ وفضولك الكشفي قبل ولوج النص الأساس وأثبتت بالفعل هذه النصوص " التي تحيط بمتن الكتاب من جميع جوانبه : حواشي وهوامش وعناوين رئيسية وأخرى فرعية وفهارس ومقدمات وخاتمة ، وغيرها من بيانات النشر المعروفة التي تشكل في الوقت ذاته نظاما إشاريا ومعرفيا لا يقل أهمّية عن المتن "(21) إنها نصوص تستحق الدّرس والمتابعة الجادة ، وهذا في " غمرة الثورة النّصية التي تعتبر إحدى أهمّ سمات تحوّلات الخطاب الأدبي " (22) عموما والقصصيّ خصوصا ، وهذا ما انكب عليه القاصّ الجزائري في العشرية الأخيرة بالتّجريب ، وهو ما سنحاول استجلاءه والوقوف عنده ، ومقاربته ، من خلال عيّنة من المجاميع القصصية ، وجملة من المدوّنات التي بدت عليها ملامح التّجريب جلية ، وظهر فيها اشتغال القاص على النصوص الموازية واضحا . وسنكون في طرحنا هذا منطلقين من إشكالات أهمها : ما الدافع إلى هذا الحشد الكبير من النصوص الموازية ؟ وما مغزاها وأبعادها الجمالية والدلالية ؟ وإلى أيّ مدى يمكن إسقاط مقولة إنّ :" قراءة المتن تصير مشروطة بقراءة هذه النّصوص ( إذ) لا يمكننا الولوج إلى عالم المتن قبل المرور بعتباته لأنها تقوم من بين ما تقوم به بدور الوشاية والبوح " (23) والسؤال الجوهري : هل تعامل كتاّب القصّة القصيرة – في تجريبهم هذا – مع هاته'' الطوارئ العتباتية" بوعي ، وفهم ، أم إنها موضة التجريب ؟ شهوة التخريب ؟؟ أولا : المقدمات : تعد المقدمة إحدى ركائز العمل القصصي الجديد في العمل الأدبي من حيث إنها :" على مستوى المكان تعتبر أوّل مكتوب " (24) وهي أول ما يصادف القارئ للمجموعة القصصية ، وقد تكون المقدمات ذاتية من تأليف القاص نفسه ، أو غيريّة ، وهو ما يكتبه قاص / ناقد / دارس آخر، ولا تكاد تخلو أية مجموعة قصصية من هذه المقدمات إلا ما شذّ منها ، أو رفض القاصّ لحاجة في نفسه في التخلّي عن هذه التقليد ، وفي ذلك الشّذوذ الأدبي تقول القاصّة نسيمة بوصلاح ثائرة على المقدمات الغيرية: "لأنني أكفر بما يسمى عرابا أدبيا ..هاكم اقرؤوا كتابي ... دون وساطات .. دون قوى أجنبية ... تعلن انتدابها ووصاياتها على مدن النص "(25) وهي بهذا الاعتراف تدرك أن ّالمقدمات " تسعى إلى توجيه القراءة وتنظيمها " (26) وهو عنف قرائي لا يجب أن نمارسه على قارئ مفترض ، له كل الحرية في قراءة المتن / فهمه / تمثّله حتى وإن تكن هذه المقدمات " ذلك النص الذي يمكن تجاوزه بسهولة ، بل إنها العتبة التي تحملنا إلى فضاء المتن الذي لا تستقيم قراءتنا له إلا بها " (27) ومثل هذا الحضور اللافت للمقدمات الغيرية نذكر : والملاحظ أن هناك مقدمات ذاتية وأخرى غيرية ، والملاحظة الأدق أن المقدمات الغيرية تكاد تكون في أّغلبها من غير المختصين والنقاد، لذلك قلما تحمل حقائق أدبية / فنية ، إذ في معظم تواجدها تكون عادة / توشيحا فحسب . كما أن هناك مجاميع قصصية كثيرة صدرت دون مقدمات ذاتية أو غيرية ومنها : فراغ الأمكنة خليل حشلاف فراشات في دائرة الوهج أم البنين مات العشق بعده الخير شوار أغصان الد م الطيب طهوري ست عيون في العتمة علاوة حاجي أنثى الجمر حكيمة جمانة جريبيع سلطانة والعاصفة قلولي بن ساعد أحلام في الشارع لخضر شكير ثانيا : الإهداء : ويعدّ من أهمّ العتبات النصية التي اشتغل عليها القاص الجزائري ومن أكثف النّصوص الموازية حضورا أيضا :" لأنه من البديهي أن يهدي الإنسان أعزّ ما يملك إلى من يحب ويحترم ويقدر ، ومن يحس أن له دينا كبيرا عليه ، وله منزلة كبيرة في نفسه وعلى رأس هؤلاء الآباء والزوجات والأولاد والإخوة وبعض الأصدقاء ." (28) فيهدي إلى العائلة : محمد رابحي ، نسيمة بوصلاح ، الربيع بوراس ، قلولي بن ساعد ، حكيمة جمانة جريبيع ، أم البنين ويهدي إلى الأصدقاء : خليل حشلاف ، الطيب طهوري ، لخضر شكير ويهدي إلى الأماكن : سعدي صباح . كما أن كتابا قلائل من يستغنون عن الإهداء ومنهم : الخير شوار ، أم سارة ، علاوة حاجي ، جمال بن الصغير . والملاحظ على إهداءات كتاب القصة القصيرة ، أنها جاءت جميعها نثرية ، على الرغم أن بعضها كان فيه تصعيد شاعري ، ولغة قريبة من الشعر ، ومن ذلك إهداء خليل حشلاف : إلى عتبات شوارع مدينتي أهدي بداياتي (29) كما جاء في إهداء القاص الربيع بوراس : .. كلمات جريحة أقتطعها من قلب متعب حدّ النخاع أرفعها إلى كل المعذبين في الأرض .(30) وتقول جمانة جريبيع في إهدائها : إلى منفاي المؤبد " صدقي " وحده يمدني بوهج آخر حتى لا تبرد كلماتي بين سبابتي ، ولا تموت ما دام يخفق بروحي إباء فياض . وتهدي نسيمة بوصلاح :" إلى الذين عبروا القلب والذاكرة ... قصدا.. صدفة ، أو...خطأ ... أسع كل العالم ."(31) ثالثا : الاستهلالات : نعثر على كثير من الاستهلالات في المجاميع القصصية الجزائرية المعاصرة ، إذ تعدّ من موقعها – بين العنوان والنص – كلحظة تنوير كبرى بين نورانية العنوان وظلمات النص وغموضه ، حيث تسهم هذه الاستهلالات " في تهيئة الجوّ للشروع في القص " (32) وتنقسم الاستهلالات إلى ذاتية وغيرية ومن مرجعيات مختلفة ، ونذكر منها : 1- النصوص الدينية : ووظفها الخير شوار في مجموعته " مات العشق بعده " وهي آية قرآنية من سورة النور (33) 2 – النصوص الشعبية : ومنها ما ورد دائما في " مات العشق بعده " للخير شوار ، حين أورد أغنية شعبية لعبد المجيد مسكود ، ونصّا لعبد الله بن كريو .(34) 3- النصوص الأدبية : ومنها مقطع لمحمود درويش جاء استهلالا لقصة ( البحث عطر الجاذبية ) وآخر لخليل حاوي في قصة النائمة واللص . كما أوردت نسيمة بوصلاح استهلالات ذاتية منها : " إلى دارين .. للحجارة رائحتها ... والدمع غياب " (35) كما جاء الاستهلال في قصة " للبوح خارطة وفصول " في هذه الصيغة : " كان في نية الشجرة أن تصير مركبا حالما ... العاطلون عن الحلم صنعوا منها عود ثقاب " (36) ... وإن كانت هذه بعض ملامح التجريب في الخطاب القصصي الجزائري المعاصر من خلال التعالق الدلالي الجمالي بين النصوص الأساسية والنصوص الموازية في كثير من المجاميع القصصية الصادرة خلال الألفية الثالثة ، فإن الملاحظ أنّ هناك هزّات في معمارية النصوص القصصية المتعارف عليها ، من حيث إن العتبات النصيةلا تعدّ نصوصا مساعدة على ولوج عالم النص : ولا هي مفاتيح لأبوابه الموصدة ..عوالمه المشفرة ، بل صارت هذه النصوص الموازية هي الأشدّ حضورا وكثافة . ومنه فإن انتقال القاص الجزائري من التّجريب في بنيات الخطاب القصصي ، ومحاولة البحث عن أشكال/ تمركزات/ وتهويمات جديدة لهذا الخطاب إلى تجريب السائد/ النمطي/ الجاهز ، أدّى إلى خلق نصوص موازية كثيفة / كثيرة ، لغايات جمالية/ دلالية شتّى ، منها ما كان بوعي وعمق ، ومنها ما جاء تجريبا سطحيا ... وبين التجريب والتخريب تبقى شهوة البوح ... والإبداع والابتداع .