"الأسود يليق بك"... هل حقا كان يليق بنا كل هذا الانتظار؟ "من لم يكن شيوعيا في سن العشرين فهو بلا قلب ومن بقي شيوعيا في سن الأربعين فهو بلا عقل". تذكرت هذه المقولة التي نسيت قائلها وأنا أنهي "الأسود يليق بك" آخر أعمال الروائية أحلام مستغانمي، شعرت حينها وكأن أحلام صارت تتقمص دور الجدات اللواتي يتذاكين على الأطفال برواية كل ليلة نفس القصة وهن يوهمن أحفادهن أنها حكاية جديدة. قراءة/ زهية منصر بادئا ذي بدء، رجاء لا تعتبروا هذه الأسطر من قبيل النقد فأنا أبعد ما أكون لأدعي هذا الشرف، لكن بوصفي واحدة من بين ملايين القراء العرب الذين انتظروا رواية أحلام 14 سنة كاملة أجد أنه من حقي بل من واجبي أن أقف قليلا عند النص الذي حشدت له ترسانة إشهارية أطالت من عمر معرض الشارقة خمس ساعات كاملة. لم أصدق نفسي وأنا أتسلم رواية أحلام التي وصلتني لتوها من الشارقة، أوقفت جميع مطالعاتي وتخليت عن رواية "الفضائل القذرة" لباب عمي كبير وتركت مذكرات الشاذلي تنتظر لأتفرغ لأسود أحلام. رحت ألتهمها صفحة بعد أخرى، وسطرا بعد آخر وعندما أنهيتها وجدت نفسي أعود عنوة إلى تلك السنوات التي اكتشفت فيها "ذاكرة الجسد" قبل اكتشافي لاسم أحلام، يومها سبق العمل سطوة الاسم. كان ذلك قبل عشرين سنة من الآن حيث قلبت يومها "ذاكرة الجسد" مفاهيم اللغة وجعلت جيلا كاملا من الشباب وخاصة الشابات في الجزائر يكتشفون لغة لم يتعودوا عليها في الأعمال الإبداعية، كان صوتا خارج المألوف، وعملا منح الجزائر اسما أدبيا تنسب إليه. لم تنجح يومها الأصوات التي برزت مشككة في نسب "الذاكرة" إلى أحلام فقط لأنها امرأة أن تحجب عنها ضوء النجومية، بل على العكس تماما راح عدد قرائها يتضاعف ويزداد حتى وصلت عدد طبعات أعمالها مستويات لم يبلغها حتى نجيب محفوظ صاحب نوبل. وكان بعدها على أحلام أن تثبت للعالم أنها صاحبة "الذاكرة" فعلا فكتبت "فوضى الحواس" وعابر سرير" لتشكل بذلك الثلاثية التي رفعتها إلى القمة، وتحولت من كاتبة إلى ظاهرة أدبية حيرت النُقاد والمتتبعين، حتى أنها هي نفسها لم تعد تتعرف على "أحلام" كما قالت في إحدى لقاءاتها الإعلامية. ومعها تحول القراء إلى "جماهير" تتدافع من أجل الحصول على توقيعها وكُتبها. عاشت أحلام على مجد الثلاثية وعاش معها القُراء في انتظار عمل لها، فجاء كتاب "نسيان كوم" الذي لم يكن حسب المتتبعين من جمهور أحلام في مستوى الثلاثية وكان علينا جميعا انتظار 14 سنة كاملة للاطلاع على "الأسود يليق بك" ولكن ماذا بعد؟. القارئ "للأسود يليق بك" يجد نفسه يعود عنوة إلى أجواء وأسلوب وحتى شخصيات "ذاكرة الجسد"، فمثل بطلة "ذاكرة الجسد" -حياة عبد المولى- تبدو بطلة "الأسود يليق بك" –هدى- شابة جميلة بشخصية قوية، مغرية، أنيقة، ذكية وشامخة تتقن اللعب على حبال اللغة. ومثل بطل ذاكرة الجسد خالد بن طوبال يبدو بطل الأسود يليق بك، طلال رجل خمسيني يعشق شابة وإن كان خالد يستند في حبه لحياة إلى الشرعية التاريخية فإن طلال يستند إلى سلطة المال والمركز لكنه مثل خالد يبحث عن الاستثناء في الحب. ومثل أجواء ذاكرة الجسد عادت باريس لتكون مسرحا للحب والرومانسية والبذخ العاطفي مع فرق واحد أن قسنطينة التي كانت مسرحا مفضلا للذاكرة جاءت مروانة طيفا عابرا لم تنجح أحلام في توظيفها إبداعيا لتكون مكانا لذاكرة هدى. وبعيدا عن اللغط الذي رافق صدور الرواية حيث اتهمت أحلام من طرف بعض المواقع الإخبارية كونها اقتبست عنوان العمل من رواية جزائرية بالفرنسية لأستاذ جامعي أقول بعيدا عن العنوان وبعيدا عن "الفذلكة اللغوية" فإن تيودوروف يقول: "ليس الأدب هو القول لكنه طريقة القول"، أي أن ما يجعل من الأدب أدبا هو قدرة العمل على الاستمرار في الحياة متحديا الزمان أو المكان الذي كتبت فيه. فما يجعلنا اليوم عندما نقرأ أعمال ماركيز أو إزابيلا أللندي أو جورج صاند وآسيا جبار ونعجب بها غير أنها استطاعت بفضل ما تحمله من قيم جمالية وفكرية وتركيب هندسي أن تحيى متجاوزة الأزمنة والأمكنة؟. بهذا المنظور تصبح "الأسود يليق بك" عملا يصلح ليكون مسلسلا خليجيا في إحدى القنوات الرمضانية أكثر منه رواية تليق باسم أحلام. فعلى مستوى الحبكة كانت قصة فراق طلال وهدى أتفه من شجار قد يحدث بين مراهقين في الثانوية، والكثير من الأحداث الهامشية لم تستغلها الكاتبة كما ينبغي مثل "حوادث القتل إبان الإرهاب، العفو العام والمصالحة الوطنية، الحرقة وهجرة الأدمغة"، كما أن علاقة البطل بالبطلة غير مبررة أيضا. فكيف لرجل ذائع الصيت ورجل أعمال مشغول على طول الخط بسفرياته إلى عواصم العالم أن يكون له الوقت للاهتمام بفنانة ليست جميلة تماما ولا فاتنة لكنها فقط تتقن الحديث بلغة مختلفة. ثم كيف لامرأة تقبل الإقامة مع رجل في فندق خمس نجوم وتتقبل منه ولائم فاخرة وباذخة بل وتنام معه في سرير واحد ثم ترفض ماله؟ وهل ما حدث بين طلال وهدى حبا أم هو فقط إعجاب الذي قالت عنه أحلام أنه "التوأم الوسيم للحب". وفي الأخير جاء لقاء هدى بالجزائري الآخر كأنه هدية من السماء أو مَخرج لورطة روائية أوجدتها الكاتبة فقط لتبرر المنحى الذي أخذته البطلة التي قررت أن تنتقم بنجاحها لحبها. أما باقي ما جاء في الرواية من بذخ لغوي وإغراء إيحائي فيكاد يكون نسخة لأجواء الثلاثية. فهل كان يليق حقا بجمهور أحلام كل هذا الانتظار؟. لو كانت امرأة أخرى غير أحلام كتبت الرواية لكان الأمر يكون عاديا وستمر مرور الكرام، لكن بعد ذاك الصيت وتلك الأبهة والشهرة فليس من حق أحلام أن تنزل بقرائها إلى مستوى مسلسل تلفزيوني "لأن إذا كان من السهل ربما أن تصل إلى القمة، فمن الصعب أن تحافظ على التوازن دائما فوقها"، فأحلام التي كتبت "ذاكرة الجسد" ولم تكن بعد قد صارت ظاهرة أدبية حملتها كل انفعالاتها وحصيلة ملامساتها للواقع الجزائري مستندة في ذلك إلى ماضٍ عريق لشعب عريق وثورة أسطورية، لم تكن يومها أحلام تراهن على شيء غير الصفحات التي كتبتها فجاءت "ذاكرة الجسد" ظاهرة أدبية. لكن أحلام التي كتبت "الأسود يليق بك" كانت تراهن على عدة أشياء، على سطوة الاسم، وحجم الانتشار وعدد الترجمات والنُسخ التي ستباع، كانت تراهن على عدد القُراء الذين ستكتسبهم أكثر ربما من رهانها على قراء كانت قد كسبتهم أو ربتهم على أسلوبها طيلة 14 سنة وقد صاروا متطلبين تجاهها، وينتظرون منها الإدهاش في كل إطلالة إبداعية. الآن وقد نضب نهر الماضي الذي غرفت منه أحلام "ذاكرتها" واستهلكت الثورة التي استندت إليها في الثلاثية فماذا يمكن أن تقدم من جديد لجمهورها؟، من يصل إلى ما وصلت إليه أحلام من مكانة جعلت النُقاد ينسبون إليها تأنيث اللغة لأول مرة في تاريخ الأدب العربي عليه أن يفكر دائما في هذا السؤال قبل أن يكتب أي شيء جديد، يجدر به أن يقدم الإبهار لقراء قد لا يفعلون أي شيء في غيابه لكنهم فقط يجلسون في انتظار جديده. الإبهار في الإبداع لا يعني أن تكون الأكثر مبيعا ولا أن تتجاوز عدد مبيعاتك المليون، لكن الإبهار ربما أن لا تجعل قارئك ينسى عملك بمجرد الانتهاء منه، فليس كل ما يُقتنى من السوبر ماركت تحت تأثير الإشهار يستهلك حقا. والطوابير الطويلة قد لا تنم دائما عن الذوق الرفيع.