الربيع العربي لم يثمر بعد في السياسة والاقتصاد إلا أنه أفرغ الكثير من البالونات الثقافية التي سقطت في اختبارات الضمير عن روايته "بيت الديب" فاز الكاتب والروائي المصري عزت القمحاوي بجائزة نجيب محفوظ للأدب لعام 2012، وتمنح الجامعة الأمريكية هذه الجائزة تكريماً لاسم أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ منذ عام 1996 بشكل سنوي في الحادي عشر من ديسمبر كل عام، الذي يوافق ذكرى ميلاده، وهذا لدعم ترجمة الأدب العربي المعاصر. الروائي عزت القمحاوي، له عدة كتب من بينها: "حدث في بلاد التراب والطين" قصص 1992، "مدينة اللذة" رواية - 1997، "مواقيت البهجة" قصص 2000، "الأيك.. في المباهج والأحزان" نصوص في الحواس 2002، "غرفة ترى النيل" رواية -2004، "الحارس" رواية 2008، "كتاب الغواية" 2009، "بيت الديب" رواية 2010، "ذهب وزجاج" بورتريهات 2010، كما له رواية تحت الطبع بعنوان "البرج". حاورته/ نوّارة لحرش القمحاوي يعمل بالصحافة منذ التحاقه بكلية الإعلام عام 1979 حتى الآن، تولى إدارة تحرير جريدة "أخبار الأدب" المصرية، التي أسهم في تأسيسها عام 1993، حتى أوائل 2011، ، قبل أن ينتقل في أفريل 2011 إلى قطر، حيث يتولى إدارة تحرير مجلة "الدوحة" الثقافية الشهرية. يكتب القمحاوي مقالات أدبية وسياسية أسبوعيًا في كبريات الصحف العربية، منها: القدس العربي بلندن، والمصري اليوم. القمحاوي خص جريدة النصر وملحقها الأدبي –كراس الثقافة- بحوار صريح تحدث فيه عن جائزة محفوظ التي توجت روايته "بيت الديب" لعام 2012 وعن سبب غبطته بالجائزة، كما تحدث عن الكتابة والصحافة وعن الربيع العربي والحِراك السياسي في مصر وعن أمور أخرى جاءت في سياق هذا الحوار. ماذا تعني لك جائزة نجيب محفوظ للأدب في سياق المسابقات والجوائز العربية وتحديدا في هذا الوقت بالذات، وكيف كان شعورك وأنت تتسلم ميدالية الجائزة؟ عزت القمحاوي: قلت مسابقات؟ أفترض أن الجوائز ليست مسابقات وإن كانت هذه هي النظرة الأعم لها. الجائزة هي كلمة تشجيع، إعجاب، أو تقدير من هيئة ما ولجنة ما. عدد محدود من القراء من المفترض أن يكونوا قد وصلوا إلى مستوى عال في تخصص أدبي أو فني ما يؤهلهم للحكم على عمل بأنه جميل ويستحق تربيتة التشجيع. ومن الممكن للجنة متميزة أخرى أن تختار عملاً آخر. وإن رأى كاتب في الجائزة أكثر من ذلك يكون قد خان نفسه، ويكون قد كشف عن علاقة غير حميمة مع الإبداع. نحن نكتب لأننا لابد أن نكتب حصلنا على جوائز بعد ذلك أو لم نحصل. وإذا عدنا لرؤية "المسابقة" فالجوائز العربية بوضعها الحالي تمثل إكراهًا وعبئًا على الأدب، بعض الجوائز لا تتوفر للجانها الحدود الدنيا من الخبرة المؤهلة للاختيار، وأحيانًا لا يتوفر لها شرط التحقق الذاتي الذي يجعل الحكم خالصًا. وعندما تخطئ الجائزة وتختار عملاً دون المواصفات الفنية العامة المتعارف عليها بين قراء الأدب تكون قد اعتدت على الأدب. بالنسبة لجائزة نجيب محفوظ هي رسخت وجودها ب: سبعة عشر عامًا، وكانت جديرة بالاسم الذي تحمله، واللجنة التي اختارت روايتي لجنة جديرة بالحكم على الأدب بكل المقاييس. وعندما تسلمت الميدالية قلت إنني أشعر بالغبطة لاقتران عنوان روايتي باسم نجيب محفوظ، لكن الظرف الذي تمر به مصر يمنعني من الفرح. لدي سبب آخر للغبطة في الحقيقة، فرغم ثقتي الكاملة بأن خط الإبداع قد لا يلتقي بخط الجوائز أبدًا، إلا أنني تحررت من عبء أنني الكاتب الذي لا يفوز في عين قطاع كبير من القراء يرون الجوائز سباقات يجب أن يتفوق فيها الكاتب!. سأحكي لك طرفة صغيرة: أنتمي إلى قرية تزداد فيها نسبة من يتزوجون باثنتين. وبعض من يعرفوننا يقولون إن الناس يتهامسون عندما يمر زوج الواحدة: "انظروا! هذا الرجل لديه زوجة واحدة" أحيانًا كنت أفكر للحظات أن هناك من يقول: "انظروا! هذا الذي يمر أمامكم كاتب لا يفوز!" لكنني في الحقيقة أعرف أن الشخص لا يمكن أن يفوز في سحب اليانصيب دون أن يشتري بطاقة، وأنا لا أتقدم للجوائز، وقد حققت لجنة جائزة نجيب محفوظ المعجزة عندما استدعت بنفسها روايتي وناقشتها وقررت جدارتها. الرواية التي قلت: "احتسبها مع شهداء 25 يناير"، هي التي فازت بجائزة محفوظ وتشاء أقدار الجوائز أن تكون الرواية الأولى الفائزة بالجائزة بعد الثورة، ما رأيك؟ عزت القمحاوي: أظن أن هذا دليل على ما أعتقده بعمق، حيث إن معركة الكاتب الأساسية مع نفسه، وهمه الأساسي هو الإخلاص لعمله، وبعد ذلك سينال حقه، وأعني حق البقاء في ضمير الناس لوقت أطول، قبل أن يكون الفوز بجائزة مهما كان حجمها، فالجائزة هي هبة إضافية فوق بهجة الكتابة والمتعة التي يتلقاها الكاتب لحظة عمله، وفوق الجائزة الأصلية وهي البقاء، حتى لا نتبجح بطلب الخلود. كيف كانت علاقتك بصاحب نوبل؟، كيف هي ذكرياتك معه وما الذي تذكره عنه الآن من لقاءات ومواقف وحكايات بينكما؟ عزت القمحاوي: العلاقة الشخصية ليست بأهمية علاقة القارئ بالنص، علاقتي بالنص المحفوظي تسمح بالحديث، بينما علاقتي بالشخص لا تسمح بذلك، رأيته مرات محدودة، وكان في سن كبيرة، ولكن أستطيع أن أقول إنه يمتلك النكتة والقدرة على السخرية والتواضع والخوف من الكتابة حتى آخر نفس من حياته، وهذه سمات كاتب عظيم. هل شكلَّ محفوظ خلفية أدبية وقرائية في تجربتك الكتابية، ما الذي كان يثيرك ويلفت انتباهك وإعجابك في أدبه؟ عزت القمحاوي: المثير في تجربة محفوظ كثير، منه مثلاً أنه اضطلع بمفرده بتأسيس تاريخ مواز للرواية الأوروبية، فقدم الرواية التاريخية والاجتماعية والرمزية وصولاً إلى الشعرية في عمله قبل الأخير "أصداء السيرة الذاتية" وقد تميز بمرونة شديدة وقدرة على الاستفادة من الأجيال الأحدث، استطاع أن يكتب مع جيل الستينيات الرواية المتكئة على التراث، كما في "ليالي ألف ليلة" و"رحلة ابن فطومة" ثم عاد وتجاوزهم بالكتابة الشعرية التي تجلت في "أصداء السيرة الذاتية". وبالنسبة للغة يمكن أن نتحدث عن لغات لنجيب محفوظ، حيث تؤدي اللغة وظيفتها الروائية دون فائض أو طغيان على النص. لغة "الثلاثية" تختلف عن لغة "الحرافيش" وكلتاهما تختلف عن لغة "ثرثرة فوق النيل". وعلى تنوع عوالم رواياته، أو تنوع التمثيلات البشرية إلا أن السؤال الواحد يتكرر في التجربة بشكل مخفي هنا وأكثر خفاء هناك. هناك سؤال العدل الاجتماعي وعلاقة تحقيقه بالقوة الغائبة التي قد تكون "الجبلاوي" في أولاد حارتنا أو "سيد سيد الرحيمي" في الطريق. عُرفت رواياتك وكتابات منذ البداية بمناهضتها للنظام والاستبداد وبانتصارها للخير والعدالة والحرية، هل يعود هذا إلى وعيك السياسي والإنساني المبكر؟ عزت القمحاوي: لا أعرف إن كان انحيازي ناتجًا عن وعي سياسي أم عن انحياز طبقي أم انحياز إنساني، لكن في النهاية أستطيع أن أنظر ورائي بفخر، وفي فترة التحولات هذه لن يجد أحدهم كلمة فيما كتبت في الصحافة من عام 1980 حتى الآن كلمة تناصر طاغية صغيرًا أو كبيرًا جادًا أو هازلاً. ولكن في الأدب لا أدع هذه المواجهة تفسد نصي وتجعله متشنجًا، كنت محظوظًا بمهنتي الصحفية، عبرها دفعت ضريبتي الوطنية ووفرت الرواية للعب، وأنا مؤمن تماما بمقولة الإمام ماركيز: مسئولية الكاتب أن يكتب جيدًا. هل تؤمن أن الكتابة قادرة على التغيير، وهل شباب ثورة 52 يناير مثلا تكوّن وعيه السياسي على خلفية قراءات تنويرية معينة لبعض الكُتاب والأدباء الذين ناهضوا النظام والاستبداد والظلم من خلال رواياتهم وكتاباتهم، والفيس بوك كان فقط فضاءً للتنسيق والتخطيط؟ عزت القمحاوي: من المؤكد أن الكتابة النزيهة والكتابة الجميلة تخلق الوعي وتقود إلى التغيير. وشباب 25 يناير تربوا على روافد كثيرة عربية وأجنبية، كان الفضاء الإلكتروني نقلة جديدة فتحت الشباب على أفكار العالم، وأعتقد أن ما حصلوه من العربية كان أكثره من الأجداد لا الآباء. ولا نتجنى إذا قلنا أن الثورات قامت على سلطات فاسدة وثقافة فاسدة متحالفة معها كذلك، وكان انسداد الأفق السياسي متواز مع انسداد أفق ثقافي نال فيه البعض لقب "كاتب كبير" مثل الألقاب الاجتماعية التي كان ملك مصر السابق فاروق يمنحها للمواطنين مقابل مبلغ من المال. المثقفون على العكس، حصل الكثير منهم على اللقب وفوقه المال. وعلى الرغم من أن الربيع العربي لم يثمر بعد في السياسة والاقتصاد إلا أنه أفرغ الكثير من البالونات الثقافية التي سقطت في اختبارات الضمير. الكاتب والسلطة، كيف تقرأ هذه الثنائية الملتبسة وكيف تجد معادلتها بعد ثورة يناير مثلا؟ وهل ستظل هذه العلاقة نفعية على الدوام من جهة المثقف المنضوي تحت سقفها، ومتسلطة من الجهة الأخرى المُنتفع منها، أيضا ألا تنتفع السلطة على الدوام من المثقف المنتمي؟ عزت القمحاوي: المثقف والسلطة ثنائية تزدهر في ظل الاستبداد، من المفترض أن الثنائية الحقيقية هي "الكاتب والقارئ" في ظل العلاقات الديمقراطية. عندما يمول القارئ عمل الكاتب يحرره. في بلادنا كان أسوأ ما تم هو إنشاء دور الطباعة العامة التي تختار على أساس الولاء، تنشر وتكدس، ثم تمنح الكاتب غير المقروء جائزة، وهكذا انتفخت البالونات التي كانت عبئًا على الوعي وعلى المستقبل. ألم تؤثر الصحافة على الكاتب فيك، ألا تلتهم الصحافة من وقت المبدع وتتغذى منه،؟ ألا تتعارض الصحافة مع مزاج وطقس المبدع أحيانا؟ عزت القمحاوي: الصحافة يمكن أن تكون خادمًا ويمكن أن تكون سيدًا أو وحشا يلتهم الكاتب. هي مفيدة للكاتب على صعيد الأسلوب واعتياد الاختصار، وهي مقبرة عندما تجره إلى السطحية أو إلى الرضا عن النفس والشعور بالتحقق الكاذب عندما يرى اسمه موقعا في جريدة، أو عندما تحمله إلى خارج ذاته فتأكل وقتًا كان يجب أن يخصصه للقراءة والكتابة. وقد علمتني قسوتها ألا أستنيم لطقس أو مزاج، أصارع للحصول على وقت الفراغ ولا أكترث صباحًا كان أو مساءً، وأستثمره كما ينبغي. تطل على القارئ بمقالات سياسية أسبوعية وبعد تجربة ثرية في "أخبار الأدب" انتقلت إلى مجلة الدوحة، كيف تنظر الآن إلى تجاربك الصحفية المختلفة وماذا عن تجربة الدوحة؟ عزت القمحاوي: أشعر بها رسالة ومهنة، أظل في المكان طالما احتملني، وعندما لا يكون هناك مفر من الفراق أفارق. ولذلك عندما ألح الكثير من الزملاء على توضيح ملابسات خروجي من أخبار الأدب، قلت عبارات مقتضبة، من بينها: "لن أقول أفنيت عمري فيها، فالناس لا بد أن تفني أعمارها في أعمال قد تكون أقل مما زاولته في أخبار الأدب. في الدوحة لن يختلف الأمر، سأعمل طالما كان هذا ممكنا، وطالما كنت مفيدًا من دون أن يكون في هذا عدوانًا على نصي الخاص. وأظن أنني مع زملائي ومع كل الأقلام الجيدة التي نستكتبها استطعنا أن نقدم ما يرضي ضمائرنا على المستوى الإنساني والمهني. ماذا أضافت الصحافة لك ولأدبك وماذا أخذت، وما الذي أضافه الأدب لك وللصحافة، وكيف هي العلاقة بينهما؟ عزت القمحاوي: تاريخيا، ولدت الصحافة من ضلع الأدب ثم تمردت عليه طويلاً فأصابتها الضحالة، هذا على الصعيد العام، وأما على الصعيد الشخصي فقد عرفت من الصحافة كيف أقول ما أريد في أقل عدد من الكلمات. ولكنها أخذت الكثير من الوقت، وألقت على نصي الكثير من الإيذاء. كثير من المثقفين يفكرون بطريقة "أهلي وعشيرتي" مثل محمد مرسي الرئيس الإخواني، إذا رفضت نصًا ضعيفًا فذلك لأنني لا أحب الكاتب، وإذا عملت بجوار شخص مراوغ، فأنا بالضرورة مراوغ، وبالضرورة جزءً من تشكيل عصابي. أظن أن الخسائر أكبر من المكاسب. "بيت الديب" تُعد أكبر رواية كتبتها حتى الآن في وقت يرى البعض ضرورة أن تكون الرواية الحديثة صغيرة الحجم تماشيا وسرعة العصر التي لم تعد تحتمل حسبهم الروايات الضخمة كثيرة الصفحات، ما رأيك؟ عزت القمحاوي: أصدقك القول، عندما انتهيت من الرواية خفت من نفسي، قلت: "يبدو أنني أصبحت أكتب بقلب ميت" تخيفني فكرة الاجتراء على الكتابة، وأعمالي نحيفة جدًا. ولكنني عندما قرأت بيت الديب وجدتها أكثر نحافة، فهي تتناول 150 سنة في ثلاثمائة صفحة. ولذلك فإن إيقاعها سريع جدًا وتكتفي من حرب عالمية استمرت خمس سنوات بجملة أو جملتين موحيتين. "بيت الديب" رواية أجيال، ورواية تاريخ وذاكرة أمكنة، رواية يتجاور فيها الخير والشر، التاريخ والذاكرة، ما المطلوب برأيك كي يوفق الروائي في وضع مسار حضاري ما أو مسار تاريخي ما في سياق روائي إبداعي؟ عزت القمحاوي: لا أستطيع أن أضع وصفة لنفسي حتى، يبدأ العمل عندي ولعًا بشخصية أو حالة، ويبدأ العالم في التكون أثناء الكتابة، وأما مسألة تجاور الخير والشر، بل تمازجهما فتحتاج إلى رحابة نفسية من الكاتب نفسه بوصفه إنسانًا قبل أن يكون كاتبًا. والإنسان إن كان صادقًا مع نفسه سيعرف أن الشر والخير متمازجين بداخله، وإذا أخلص لذكرياته ومخاوفه فستخرج روايته أقرب إلى الصدق الفني. الرواية وصفها البعض بأنها تنتصر للمرأة، وبأنها رواية "جندر"، ما رأيك؟ عزت القمحاوي: فعلا بعد الانتهاء من الكتابة، تعاملت معها كقاريء ووجدت نفسي منحازا جدا للمرأة. ألمع الشخصيات لنساء ولم أقصد ذلك أبدا. هذا هو موقفي الطبيعي خرج من اللاوعي. أحب المرأة جدا وأراها أصل الحياة ودعامتها عند الخطر. هل أنت متفائل بالحِراك السياسي الذي يحدث في مصر، وهل برأيك الذي يحدث حاليا هو الشوط الثاني من ثورة حدثت في حساباتها بعض الأخطاء ؟ عزت القمحاوي: متفائل بألم. أرى المستقبل بلا قوى الماضي، ولكن المؤلم أنها لن تمضي في هدوء. مصر محظوظة لأن جماعة الحكم جاءت أكثر عجلة وأقل خبرة وأقل لياقة سياسية مما تصورنا في أسوأ كوابيسنا، في المقابل فإن مصر ليست ابنة اليوم، هذه دولة ضاربة جذورها في المدنية بلا أي عداء للدين، والأشهر المنقضية كشفت عن قوة مؤسسات الدولة المصرية التي وقفت في وجه الشراهة غير المتعقلة. والغريب أن هذه القوى كشفت عن سذاجة سياسية وانعدام رؤية جردها من كل الرصيد الذي كسبته عندما كانت في دور الضحية. وهذا من حسن حظ مصر وثورتها.