ماذا بقي للرواية التاريخية؟ ما موقع الرواية التاريخية لدى القاريء العربي، لماذا هذا القاريء لا يلتفت لها ولا يقتنيها وبالتالي يعرض عن قراءتها، لماذا لم تأخذ مكانتها بشكل أوفر مثل الروايات الرومانسية أو البوليسية أو الإيروسية؟، هل التاريخ غير قابل للهضم لدى هذا القاريء العربي، هل التاريخ ثقيل إلى الحد الذي لا نعيره أدنى إلتفاتة، لماذا الروايات التاريخية لا تلقى الرواج الذي يليق بها إلا نادرا، هل القاريء العربي يخجل من التاريخ أو لا يحب التاريخ حتى في الروايات، أين يكمن الخلل تحديدا؟. هذا سؤال فيه الكثير من الحيرة والكثير من الشك الشائك بكل استفهاماته واستفساراته وخلفياته وتمظهراته طرحه كراس الثقافة في هذا العدد على بعض الكتاب والأدباء الجزائريين والعرب، فأبحروا بوجهات نظرهم المثقلة بهم التاريخ وهم الرواية وبهواجسهما الفنية والتأريخية معا، وجهات نظر متعددة، متشابكة، فهل لامست موضوعة السؤال، هل أجادت وأصابت في تحليلها ومجادلتها، هذا ما نقف عليه من خلال هذا الملف. إستطلاع/ نوّارة لحرش واسيني الأعرج/ روائي ماتزال أمامها حياة كبيرة الرواية التاريخية أولا هي جهد كبير من طرف المبدع ويقتضي هذا أن تذهب إلى التاريخ وكتبه و وثائقه وتبحث وتتعب وتشقى وتدون حتى تصل إلى أن تحقق شيء، ومرات تقرأ كم كتاب وفي النهاية ترمي كل ما قرأت لأن لا شيء أعجبك في الأمر، وطبعا في كل الحالات الرواية التاريخية فيها جهد كبير من طرف الكاتب كما قلت لك، لكن في المقابل كثير من الناس يهرب منها، وهذا الجهد يضخم عدد الصفحات وفي الوقت نفسه القاريء ينفر من هذا النوع، في حين الرواية التي تكتب في ظرف شهر أو شهرين يمكن أن تنجح أكثر عكس الرواية التاريخية التي تأخذ من كاتبها سنوات وسنوات من الكتابة والإشتغال والبحث. شخصيا كنت أظن أن الرواية التاريخية ليس لها مستقبل ولا قراء ولا إهتمام ولا من يهتم بها، لكن مع الوقت تأكد لي أن هذا ليس صحيحا ومن خلال رواية الأمير وإقبال القراء عليها وما كُتب عنها وما أثارته من إهتمام ومتابعة أكدت لي أن الرواية التاريخية ماتزال أمامها حياة كبيرة، أنظري حتى في كل العالم أيضا، كل الروايات الكبيرة الآن العالمية تقريبا لها تماس بموضوعين إما السيرة الذاتية و إما التاريخ، هذا الغالب. نفس الشيء قمت به بالنسبة ل"سوناتا أشباح القدس" فيها جانب كبير من التاريخ، خصوصا تاريخ بلاد الشام. شخصيا متفائل بمستقبل الرواية التاريخية لأنها بدأت تجد القراء الذين يعطونها ما تستحق وبالتالي بدأت تجد مكانتها بين الروايات الأخرى. مرزاق بقطاش/ روائي ما عاد لها من دور في أيامنا هذه لست أتفق معك بشأن هذا السؤال الطويل العريض. فالذي أعرفه أن الرواية التاريخية عرفت قبولا طيبا من القراء منذ عهد جورجي زيدان، ومرورا بنجيب محفوظ في كتاباته عن التاريخ الفرعوني وكرم ملحم كرم اللبناني ومسرحيات علي أحمد باكثير وبعض الكتاب الآخرين الذين إنصبت إهتماماتهم على التاريخ العربي الإسلامي على سبيل إذكاء الروح العربية الإسلامية وشحذ الهمم الوطنية. وفي الجزائر، على سبيل المثال، كان لتمثيلية (بلال بن رباح) للشاعر آل خليفة رواج كبير في أوساط التلاميذ منذ مطالع الأربعينيات من القرن الماضي، وقد كان لي شرف الإضطلاع بتمثيل الدور الأول، أي بلال بن رباح، في مدرسة التهذيب العربية في جوان 1960، أي في عز الثورة الجزائرية. قد يكون الإنسان العربي (نسايا) على حد ما نردده اليوم في حياتنا الإجتماعية السياسية، لكنني لا أتصور مطلقا أن علاقته بتاريخه، أي بهويته، علاقة فاترة، إذ لو حدث ذلك، لا قدر الله، لكنا اليوم أمة بائدة، لا عاربة ولا مستعربة. الجانب السلبي في علاقتنا بالتاريخ، وفي المجال الروائي بوجه خاص، هو أن علاقتنا بالآخر، أي بالإنسان الغربي الذي يسيطر على مصائرنا باتت أشبه ما تكون بطفرة جلدية نميل إلى حكها بأظافرنا على سبيل إسكات الآلم، ومن ثم، فإن علاقتنا هذه تسير ضمن خطين تلقائيين، بمعنى أننا ننظر إلى هذا الإنسان الغربي الذي لا نقوى على مقارعته ومحاججته، وننظر إلى ماضينا على سبيل العثور على الإجابة الشافية، أي السلاح الذي يمكن أن نستخدمه في حياتنا اليوم. وأحسب أن الكاتب الروائي يسير على هذا الخط بالذات، وهو في أحسن الأحوال يوظف التاريخ بصورة رمزية خوفا من سيطرة الحكام وتهديدات الإنسان الغربي، مثلما يحدث في ورايات جمال الغيطاني وبعض الروائيين الذين استلهموا التاريخ العربي الإسلامي بصورة فيها الكثير من الخوف. عندنا في الجزائر، رأينا كيف وظف الطاهر وطار الجانب التاريخي في روايته الحوات والقصر، ورشيد بوجدرة في روايته ألف وعام من الحنين التي ترجمتها إلى العربية قبل أكثر من عشرين عاما والأعرج واسيني في روايته الأمير التي كانت بحسب رأيي إسقاطا على الواقع الذي نعيشه أكثر مما هي رواية تاريخية. الروائيون يهربون إلى التاريخ بغاية العثور على أجوبة شافية لما يقض مضاجعهم، والسينمائيون يفعلون نفس الشيء، لكنهم في معظم الأحيان يوظفون التاريخ للتاريخ ذاته، بمعنى أنهم لا يريدون إزعاج الحاكم، وليس أدل على ذلك من أن شاشات التلفزيون العربية تزخر بمثل هذا الإنتاج، وكذلك الشأن بالكتب التراثية التي يعاد نشرها اليوم، وذلك لأنها لا تقلق الحكام. وخلاصة القول هي أن الرواية التاريخية حسبما أراه ما عاد لها من دور كبير في أيامنا هذه، وإذا كان بعض الكتاب يميلون إلى وضع روايات تاريخية فإنما على سبيل الترويح على نفوس القراء مثلما هو الشأن اليوم في العالم الغربي. إمبرتو إيكو الإيطالي، على سبيل المثال، يوظف التاريخ، ولكن لبلوغ غاية معرفية محددة مثلما فعل في روايته اسم الوردة وجزيرة اليوم الفائت وغيرهما. وأيا ما كان الأمر، ينبغي التفاؤل لأن الرواية من حيث هي فن أدبي وافد علينا تتسع لجميع المواضيع، وليس بالضرورة أن يكون هناك قراء عديدون لها لكي يستقيم أمرها بيننا. بل إنني أكاد أجزم بأننا ما زلنا نبحث عن أنفسنا وسط هذا الخليط كله، ولذلك لا ينبغي إلقاء اللوم على القراء. ميرال الطحاوي/ روائية مثقلة بالترميز والرغبة في فهم الحاضر الرواية التاريخية الآن لها مكانة كبيرة ويكفي أن آخر ثلاث روايات حققن فوزا في البوكر العربية هن روايات تاريخية، أعتقد أن رواية بهاء طاهر واحة الغروب وعزازيل ليوسف زيدان وأيضا ترمي بشرر لعبده خال روايات تاريخية بإمتياز، كما أن رواية واسيني الأعرج التي فازت كذلك بجائزة كبيرة هي جائزة الرواية زايد رواية تاريخية بإمتياز، والكاتب الليبي إبراهيم الكوني في روايته الأخيرة التي فازت بجائزة زايد أيضا رواية تاريخية، وأزعم أن مجمل أعماله يعتمد على التأريخ الأنثربولجي للطوارق أو شعوب الصحراء، كما أن الكاتب المغربي الذي فاز بجائزة الجامعة الأمريكية سليم بن حميش يكتب الرواية التاريخية بإقتدار. لكن مفهوم الرواية التاريخية تغير قليلا، أصبح أكثر إرتباطا بالتاريخ القريب وأصبحت الرواية التاريخية مثقلة بالترمييز والرغبة في فهم الحاضر. وكما أن السيرة الذاتية أيضا رواية تاريخية بمعنى ما، التاريخ لا يعني فقط التاريخ البعيد كل الأعمال الكبيرة تحاور التاريخ بمعنى ما، وتصبح مرآة لمراحل مجهولة في التاريخ. عدنان كنفاني/ شاعر وكاتب فلسطيني مقيم في دمشق كيف نسعى إلى قراءتها ونحن في داخلنا لا نؤمن بمصداقيتها لا يقتصر أمر العزوف عن القراءة على الكتب التاريخية فقط، بل هي ظاهرة عامّة، عزوف شبه شامل عن القراءة، إجتاحت مجتمعاتنا العربية بعيد فورة وتقنية الإتصالات، وتوسّعها، إضافة إلى أسباب متعددة أخرى لا أجد المكان للإستطراد بشرحها. وللكتب التاريخية على وجه التحديد خصوصية قد تكون متفرّدة في توضيح السبب من عزوف القارئ العربي عن إقتنائها، وقراءتها، وحتى تصديقها كمرجع يمكن الإعتماد عليه، وهذه مشكلة تطرّقتُ إليها في مناسبات كثيرة، وقلت بأن على الباحثين الأكفاء، والدارسين الشرفاء أن يعيدوا كتابة التاريخ كي يقترب من الشفافية والصدق. ويبدو أن السبب، لو أنصفنا البحث، سيبدو على غاية من الوضوح. فالكتب التاريخية المبحرة بالتفصيل، كتبها مؤرخون في مرحلتهم، وهذا يعني أنها تتملّق السلطة، وتجانب الخوض في سلبيات الحالة الإجتماعية والسياسية في حينه، وتعتمد في كثير من المخطوطات المنتشرة بين أيدينا، والتي أعتمد عليها المؤرّخون جيلاً بعد جيل، على مؤرّخ أول، قيل أنه إستمد معلوماته الغيبية، كالتطرّق إلى بداية الخلق مثلاً، من الإسرائيليات، وهذه مشكلة حقيقية تخلط مصداقية التاريخ بطيوف التشويه والكذب والعبث لغايات سياسية ليس إلا. ناهيك عن المؤرخين المستشرقين الأجانب، فأمرهم أدهى وأمرّ، وقد وضعوا السمّ في الدسم لأغراض لم تعد خافية عن أحد، ثم هناك الإطالة غير المبررة في سرد وقائع يدرك القارئ أنها ممهورة بكثير من النفاق، وفي تمجيد السلطان، وفي سبّ وتكسير وتشويه صورة السلطان المخلوع الذي برع المؤرخ السابق بالإشادة به، ثم نأتي إلى أمر يبدو لي على غاية من الأهمية، وهو في تضخيم البطولة، والإستهانة بقوّة الآخر، وقد إنتفى ذلك في ظروف المعطيات الجديدة، فلكلٍّ مواطن ضعف، كما لكلٍّ مواطن قوّة، هنا يتناثر ذلك الخرز المضموم إلى عقد المصداقية في ضمير القارئ عندما يدرك أن الواقع الحقيقي ليس كما جاء في سير المؤرخين. لقد انتفخت كتب التاريخ الذي يخصّنا بالتمجيد والإطناب والتقديس وصنوف البطولة والعزّة والشهامة والنجدة، وكل الصفات القيمية التي يتمناها أي مجتمع لتحقيق كينونته، فماذا عن واقعنا العربي الآن.!! إذن هناك إنفصام في الشخصية العربية بين ما يقرأ من التاريخ، وبين واقعه الذي ينتمي مع الأسف إلى منظومة سقطات أخرى، سياسية واجتماعية وأخلاقية، هزّت حتى إرادة الإنتماء عند المواطن العربي إلى مجتمعه وتاريخه وحضارته، بل وحاضره ومستقبله. وكي لا نستغرق كثيراً وطويلاً في نظرتنا التشاؤمية، أقول بأن الرواية، الإجتماعية أو السياسية أو الساخرة، ليست مهمتها التأريخ، لكنها الأصدق في تأريخ المرحلة والحقبة الزمنية للرواية، ولو قارنا مثلاً بين رواية أو حكاية كُتبت في مرحلة كتبَ تاريخها مؤرّخ متخصص، لوجدنا ولامسنا ذلك التفاوت في المصداقية دون أن يكون ذلك تقصّداً من الرواية، بل تكريساً للمرحلة والحقبة التي كتبت عنها. كيف إذن أسعى إلى قراءة كتب تاريخية وأنا في داخلي غير مؤمن بمصداقيتها؟. وأعتقد أن هذا ليس تفرّداً في أمتنا العربية، ولكن يفرض علينا الحال أن نعمل ونسعى إلى كتابة التاريخ جديداً نزيهاً ومنزّهاً، وهذا يحتاج إلى عمل مؤسساتي كبير ونشط وشفاف، ولو كان يجنح إلى ذكر سلبيات لا يخلو منها أي مجتمع على وجه الأرض. محمد عز الدين التازي/ كاتب وروائي مغربي لا تثير مسألة مقروئيتها وحسب، بل تطرح قضايا التشكل وتخييل العالم لا تثير الرواية التاريخية مسألة مقروئيتها وحسب، بل إنها تطرح قضايا التشكل والبناء وتخييل العالم، أي ما يجعل من المادة التاريخية مادة لإشتغال الرواية، وهنا تتعدد أنواع الكتابة التي تجعل الرواية تقترب من التاريخ، بين ما تستنسخ من التاريخ صورته الماثلة والمعروفة في المراجع التاريخية، وبين ما تعيد تشكيل عوالمه عبر التخييل الروائي، وبين ما توظفه في معنى جديد ودلالات جديدة قد لا تكون ثانوية في المادة التاريخية، بمعنى أن الرواية تبقى مخلصة لطبيعة الكتاب الروائي والإبتعاد عن البحث في الحقيقة التاريخية كما هو شأن البحث التاريخي. لا يمكن النظر إلى مجموع الأعمال الروائية العربية على أنها تنسجم في طبيعة واحدة، فما زالت الحاجة قائمة إلى قراءة روايات جرجي زيدان، لقدرتها المبكرة على التصوير الجمالي للموضوع، أما أعمال الروائيين اللاحقين، فهي تتفاوت في قيمتها الفنية، ومنها ما لا يشجع على القراءة. بيد أن أعمال الروائي أمين معلوف، تحظى بجمالية فائقة في تصوير اللحظات الروائية وتملك موادها التاريخية حتى أنها لا تشعرنا بأنها المادة التاريخية، بل تشدنا إلى المادة الأدبية التي تشخص ألأحداث وتتوغل في بناء الشخصيات والفضاءات. إذا كانت قراءة المتعة لها أسئلتها فكتابة المتعة هي تجربة أخرى يحقق فيها الروائي شيئا من تلذذه بخلق العالم، فلماذا لا تتصاهر المتعتان في متعة واحدة؟. قلولي بن ساعد/ ناقد جزائري التاريخ كمعطى إبداعي في الرواية لم يصل بعد إلى فيض من التراكم يتضح لنا عند إستحضار أسئلة هذا الملف أن نفرق أولا بين الرواية التاريخية والرواية التي تستثمر التاريخ كمعطى إبداعي، فالرواية التاريخية بهذا المفهوم والتي شاع إستخدامها في أوربا كرواية رومانسية إرتبط أسمها بالروائي الأنجليزي والتر سكوت الذي بلور من خلال أعماله هذا النوع من الرواية ككيان واضح في ظل الرومنتيكية التي كانت سائدة آنذاك بقواعدها الفنية الخاصة بها لغاية واحدة ومحددة وهي أحياء الماضي والتاريخ ويبدو أن هذا النوع من الرواية قد تسرب إلى الوعي الثقافي العربي عبر وسائط عديدة ليس هنا مجال الحديث عنها فعرف المشهد الثقافي العربي هذا الجنس الأدبي ممثلا أساسا في ما كتبه جورجي زيدان تحديدا في سلسلة من أعماله الأدبية بخلاف الرواية التي تتعامل مع التاريخ كمعطى إبداعي إذ تنزاح فيه حيل الروائي إلى رصد حركة الشخوص والأحداث ومصائرهما إلى مستوى من(الفسخ) يتمثل تلك البياضات التي نسيها أو تغافل عنها المؤرخ والتي تتصل بعواطف وهموم وأسئلة الشخوص الغابرة بوضعها داخل متتاليات السرد والحوار وإتخاذ شتى الأقنعة الفنية لكشف مكر ودهاء التاريخ كما يقول هيغل ومن ثم تفكيك البنى الدلالية والرمزية للتاريخ والزج بالموصوف التاريخي في كثافة الإيحاء بناء على ذلك ملمحان أساسيان الدلالي فيتقابل في السرد الروائي ملمحان هما: الذات الموصوفة أو المسرود عنها نصا أو بعض نص يرويه سارد معاصر ينتمي إلى هذا الزمن جسدا وعقلا وحدسا حتى ولو حاول هذا السارد الواحد المتعدد إعادة تخييل العناصر النصية للوقائع والمصائر النفسية والإجتماعية والحضارية لشعب ما من الشعوب بلغة ومخيال هذا العصر ثم الذات الساردة أو الواصفة وقد أنعكست تأثيراتها على الرواية- أعني هنا (المجتمع التخييلي) للرواية وهو مجتمع له قوانينه وأنماطه الخاصة حيث تحول المحكي التاريخي من زمنه الراكد وسكونيته إلى زمن آخر منفتح على الأشكال المستعادة مما يؤدي إلى إنفتاح السرد الروائي على نداء الأقاصي في الروح الجمعية التي يجسدها إرث يسكن الكتابة الإبداعية ويحول دون ترسيخ قيمها الجمالية الخاصة ووعيها المختلف للزمان والمكان وطبعا أعتقد أن الوقت لم يحن بعد للحديث عن الأسباب الكامنة وراء عدم الإهتمام والتداول النقدي والإعلامي للرواية التي تتعامل مع التاريخ كمعطى إبداعي ذلك أن كل ماهو موجود لدينا هو مجرد محاولات فردية لا غير ولم تتحول بعد إلى تيار تقف وراءه حركة نقدية واسعة ومؤسسات إعلامية ومخابر بحث جامعية نظرا لمحدوديتها كتجربة يمكن لها أن تستضيء بلحظة الكتابة ذاتها وتاريخ هذه اللحظة عند الإحالة إلى صلتها بالتاريخ ذاته بحيث أنه في الرواية الجزائرية مثلا علاقة الروائي بالتاريخ توقفت عند علامة واحدة وهي مأساة ذبح الشيوعيين من طرف جيش التحرير الوطني خلال الثورة الجزائرية كما هو الشأن مثلا عند الطاهر وطار في (اللاز) والأعرج واسيني في (ضمير الغائب) وقد نجد شذرات أيضا من تاريخ الحركة الوطنية عند حميد عبد القادر في (مرايا الخوف) وشذرات أخرى من التاريخ العربي الإسلامي عند أحميدة عياشي في (متاهات ليل الفتنة) والأعرج واسيني في (رمل الماية- فاجعة الليلة السابعة بعد الألف) لكن عموما هذا لا يكفي. صباح إسماعيل/ كاتب ومترجم كردي القاريء لا يحبذها و لا يبحث عنها لأنه لا يجد نفسه فيها قبل الإجابة على السؤال، أود أن أبحث عن معنى الرواية التاريخية وتعريفها. الكتابة هي التي يجب أن تشكل التاريخ وتصنعه، وليس الوقائع الحقيقية، الرواية التاريخية هي تسجيل لما لم يكتبه أو يدونه التاريخ. يجب أن لا يخضع الأديب أو الأصح الروائي لدور المؤرخ. لأن إذا قام بإعادة كتابة التاريخ بشكله المدون يعني هذا بأنه لم يقدم شيئا جديدا يستحق القراءة والمتابعة. ويجب هنا أن لا نخلط بين الرواية التاريخية ورواية التاريخ، (يحدث هذا الخلط لأن كاتب القصة أو الرواية يجعل الأحداث تأخذ مجراها على يديه، ويستطيع التعامل مع كل وجهات النظر التاريخية، بحيث يدمجها في الدراما الروائية في إنسجام تام، وهو إنسجام لا يستطيع المؤرخ تحقيقه بالدرجة نفسها). إن الرواية التاريخية بمعناها التقليدي تعني تدوين مجريات الأحداث التاريخية كما كانت، ولا تتطرق إلى الحالة النفسية أو المكبوتة للأشخاص، إن القاريء الواعي يبحث عن الروايات التي تلعب الفنطازيا دورا رئيسا فيها، أو روايات يجد فيها الأسلوب أو التقنية الجديدة. وليس الرجوع إلى الخلف والبحث في الماضي. لذلك نجد أن القاريء بشكل عام لا يحبذ الروايات التاريخية ولا يبحث عنها بتاتا، لأنه لا يجد نفسه فيها. إنه يبحث عن التحليلات النفسية للأشخاص، أي الأسرار الداخلية للأشخاص والذي لا يبحث عنه أبدا هو ما يدور خارج ما بداخل أشخاص الرواية. القاريء الواعي لا يجد لذة في قراءة رواية مقدما يعرف نهايتها أو يعرف سير أحداثها أو ملم بمضمونها. إنه يريد أن تكون الرواية تشك في التاريخ وتنفلت منه وتقول أشياء كثيرة ما لا يقوله التاريخ... وجدان الصائغ/ ناقدة عراقية وأستاذة اللغة العربية في كلية واشتيناو ميتشغان بأمريكا القاريء لا يهتم بها لاعتقاده أن المقصود منها العودة إلى التاريخ بلا معالجة فنية هذا التساؤل يعيد إلى ذهني تساؤل مفاده: ما معنى رواية تاريخية؟؟ وهل معنى ذلك أنها النمط السردي الذي يتخذ من التاريخ موضوعا له فقط أم أن النص الذي يؤرخ للحظة الراهنة أيضا ممكن أن ينضوي تحت مسمى الرواية التاريخية؟!، ومن هذا المنطلق ألا يمكن أن تكون روايات أحلام مستغانمي وتحديدا فوضى الحواس وذاكرة الجسد روايات تاريخية ألم تؤرخ للحرب الأهلية الجزائرية، ألم تجعلك وجها لوجه مع الأحداث الراعفة التي عصفت بالمكان الحميم المترع بالذكريات. ومثل هذا ينسحب على روايات نجيب محفوظ التي أرخت للأحداث التاريخية التي حدثت في مصر.وأيضا يحضرني في هذا المجال روايات الروائي الكويتي طالب الرفاعي والروائي اليمني محمد الغربي عمران والروائي المصري جمال الغيطاني والروائي الجزائري أمين الزاوي والروائي السوري نبيل سليمان وغيرها من الروايات التي عرضت بجرأة ما يحصل على الأرض والتي لا تزال هذه الروايات الأكثرتمبيعا. ولكن في الوقت نفسه نجد حضورا للرواية التاريخية التي إتخذت من حقبة تاريخية بعينها مسرحا لأحداثها وتحديدا في روايات الروائي البحريني عبدالله خليفة الذي أصدر ما يشبه سلسلة من الروايات التاريخية التي تناولت حقبة صدر الإسلام فكتب رواية بعنوان رأس الحسين وأخرى تحدثت عن الخليفة عمر بن الخطاب وقد حظيت بإهتمام النقاد والقراء. أما فكرة عزوف القراء عن شراء هذه الروايات أقصد التاريخية فيعود إلى فكرة عزوف القراء عن القراءة بوجه عام لإنشغالهم بهمومهم اليومية ولهاثهم خلف القوت اليومي، بل حين يرد الحديث عن الرواية التاريخية فإنهم سيتوهمون وهم في عجالتهم بأن المقصود منها هي العودة إلى التاريخ بلا معالجة فنية، متناسين أن الرواية التاريخية حقل ممتاز لنسج الأحداث البوليسية تارة والرومانسية أخرى. محمد سعيد الريحاني/ باحث وقاص ومترجم مغربي يجب الفصل بين الإيجابية منها والسلبية الرواية والتاريخ ساحلان لا نهائيان يقود أولهما إلى الخرافة والأسطورة والتخييل ويؤدي ثانيهما إلى التوثيق والإثبات أما مهمة الجمع بينهما فتناط عادة ب "الرواية التاريخية" التي تبقى مسؤوليتها هي "وصل" الرواية بالتاريخ و"إيصال" أحداث ووقائع التاريخ إلى قراء الأدب والإبداع. ولعل هذا الحس بضرورة "الوصل" بين الرواية والتاريخ ناجم عن ضرورة الإنتماء إلى هذا "الزمان والمكان" الكبير الذي يسمى إختصارا ب "التاريخ" والذي ينتج كل الوقائع الإنسانية الصغرى والكبرى ويحتفظ بها مراكما إياها لتطوير حركته وسيرورته. وقد لعب هذا النوع من الروايات أدوارا طلائعية في الإقلاع الثقافي والحضاري وإن كان صعوده غالبا ما يصادف تنامي الوعي القومي لشعب من الشعوب عبر التاريخ. فقد كانت ملحمتي "الإلياذة" و"الأوديسة" تدرس إجباريا في المجتمع الإغريقي القديم لما فيها من تأريخ لإنتصارات الإغريق وأمجاد رموزهم وهو ما ساهم في ضخ دماء الإعتزاز بالإنتماء وبالهوية الإغريقية. لذلك، ينبغي التأكيد على أن "الرواية التاريخية" ليست تأريخا صرفا لعصر من عصور البشرية أو لمرحلة من مراحل شعب من الشعوب ما دامت الحقيقة التاريخية بالنسبة إليه مجرد "مادة" يشتغل عليها لإنتاج الدهشة لدى القارئ. إنها شكل من أشكال "إعادة صياغة التاريخ" بطرق فنية أدبية ولأهداف محددة سلفا: إما لإستنهاض الهمم أو السخرية من مسار التاريخ ذاته أو غيرها... وما دام "كل إناء بما فيه ينضح"، فإن هذه "المادة التاريخية" المضمنة في هذا الشكل الأدبي، "الرواية"، محكوم على نتائجها مسبقا. فلما كانت هذه "المادة التاريخية" في الملاحم الإغريقية "انتصارات" كان المستوى العام للتلقي إيجابيا وكان التفاعل إيجابيا. ولما صارت "المادة التاريخية" مضمونها الهزائم والخيانات والدسائس، دب النفور في نفوس المتلقين خاصة لما صارت "الرواية التاريخية" العربية "تأريخ للهزيمة العربية ولهزائم العرب"... لذلك، يمكن التمييز بين مرحلتين من مراحل الكتابة والتلقي في مجال "الرواية التاريخية": "الرواية التاريخية الإيجابية"و "الرواية التاريخية السلبية". فبالنسبة ل"الرواية التاريخية الإيجابية" فقد تزامنت مع النهضة العربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والحلم بمواكبة العصر وقد إشتهر بهذا النوع من الكتابة الروائية جورجي زيدان من خلال اثنين وعشرين عملا أولهم "المملوك الشارد" الصادرة سنة 1891. أما "الرواية التاريخية السلبية" فقد تكرست رسميا بعد الهزيمة العربية عام 1967 والأمثلة عديدة لكن النتيجة على سبورة القراءة واحدة: همم محبطة وعزوف عن هذا النوع من التأريخ...