تدريس التاريخ.. بين المقدس و المحاذير التاريخ من صنع البشر، الذين مثلما لهم ايجابيات قد تكون لهم سلبيات. ولا أحد معصوم من الخطأ. هل تدريس التاريخ تعني ذكر الإنجازات وإهمال الأخطاء ؟ وهل يمكن التعلّم من تجارب الماضي دون معرفة هذا الماضي بكل ما فيه ؟ وهل التقديس مفيد أم مضر بالتاريخ ؟ وكيف يتم التعامل مع ظاهرة إبراز التاريخ الرسمي لبعض الشخصيات وتهميشه لشخصيات أخرى ؟ استطلاع/ نورالدين برقادي كمال حجاج: أستاذ التعليم المتوسط، مقدم برنامج إذاعي تاريخي لا ينبغي أن نحصر تاريخنا في خندق صراع الأشخاص وتصفية الحسابات لطالما كان التاريخ المادة الدسمة التي تختزن ماضي الشعوب وذاكرتها وتحتفظ بتجاربها عبر أزمنة متعاقبة وبحكم وظيفية هذه المادة التي تتمثل في تدوين الأحداث وتسجيل الوقائع وهي عملية ينبغي أن تتحرى الموضوعية والواقعية والمصداقية بعيدا عن التحيز أو التمجيد أو التملق أو المغالطة.إن التاريخ قلم بمثل ما يؤرخ للانتصارات والنجاحات والتي في الغالب ما يحلو لنا تمجيدها وتوريثها للأجيال، يؤرخ أيضا للانكسارات والعثرات، والتي نحاول بالدوام مجافاتها بل ونسعى إلى لفها بين طيات النسيان ونقبرها حتى لا تطفو، فتشكك أبناء الأمة في مخزونها ومحصولها التاريخي. ولكنني أظن أن الزمن كفيل بأن يفعل فعل عوامل التعرية الطبيعية (النحت والنقل والإرساب) لما دفن من حقائق، وأجيال المستقبل الرافضة للتماثل، المدفوعة بالتحرر الفكري والمدجّجة بوسائل التواصل الحديثة سوف لن تدخر جهدا في سبيل كشف كل ما وري التراب من وقائع وأحداث .لقد كانت ولا تزال مناهج التاريخ المقررة في مراحل التعليم الإلزامي وكذا الثانوي تهدف بمضامينها إلى تمكين المتمدرس من ما يرسّخ الثقافة الوطنية بكل أبعادها وعناصرها ومكوناتها، وتجعل منه مواطنا يعتز ويفتخر بما يحمله كبطاقة هوية: جزائري-أمازيغي-عربي- مسلم. بيد أن المنظومة التربوية الجزائرية كرّست جهودها خاصة خلال عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات على إزاحة كل ما من شأنه أن يستبيح الذاكرة الوطنية بالتشكيك أو الطعن في مكوناتها وخاصة في مراحل التعليم الأولى التي يفتقد فيها المتعلمون إلى قوة التبصر والقدرة على التعمق في فهم وتفسير الأخطاء التي وقع فيها أسلافنا وصانعي ذاكرتنا التاريخية. و من هنا أصبح طرح إشكالية الأخطاء التاريخية أمرا ينبغي إرجاؤه إلى زمن آخر وظروف أخرى حفاظا على المصلحة الوطنية. أنا انتمي إلى جيل فجر الاستقلال، جيل تشبع بالوطنية التي كانت تنسكب علينا كماء معين لا ينضب من كل الدوائر التي احتككنا بها (جوامع وكتاتيب، مدارس، كشافة، شبيبة...)، فكانت هذه الوطنية بمثابة اللقاح الذي حصّن عقولنا من عواقب التشكيك والتزييف والمغالطات في زمن كانت قوى الاستعمار تراهن فيه على ضعف ووهن الدولة الجزائرية الفتية وعقم مشروعها الاستقلالي. لقد كان الاستقلال في قناعتنا محصلة ثورة أدركنا بأن صانعيها لم يكونوا ملائكة يفعلون ما يؤمرون ومنزّهون عن الخطأ، فهم ونحن بشر في نهاية المطاف والخطأ وارد في صنع الحدث أو محاولة فهمه وتفسيره. والذي لا يبحث في التاريخ إلا عن الأخطاء والثغرات ليس بنية الاستناد عليها لبناء حاضر ومستقبل أفضل بل للانتقاص من قيمة تجارب الأمة وتشويه ماضيها في أذهان الأجيال الصاعدة هو أشبه بالذي لا ينظر إلا في النصف الفارغة من الكأس لنية مبيتة في نفسه.وعلى رأي ابن خلدون إذا كانت معرفة التاريخ ضرورة ملحة لمعرفة المجتمع فإن كتابته أو دراسته ينبغي الابتعاد فيها عن كل ما هو غريب أو أسطوري لأن ذلك سيؤدي إلى الغموض والتأويل ثم الوقوع في مطب التشكيك. أرى أنه لا ينبغي أن نحصر تاريخنا في خندق صراع الأشخاص وتصفية الحسابات والذي لا يجلب إلا التراشق وتبادل الاتهامات ويعمّق هوة التفرقة والتشتت، علينا أن ندرك أن صراع الأشخاص اليوم الذي تطالعنا به مذكرات حياتهم ليس هو تاريخ الجزائر بل التاريخ هو ما يكتبه المؤرخون المختصون والمؤهلون. على الأقل بعيدا عن الذاتية والجهوية والمحسوبية. صلاح الدين تيمقلين( أستاذ التعليم الثانوي، كاتب) عام 1976 دعا رئيس الجمهورية إلى عدم ذكر أسماء الأشخاص عند تدوين تاريخ الثورة يقول المفكر قسطنطين زريق في كتابه نحن والتاريخ : "التاريخ تاريخان: التاريخ العبء، والتاريخ الحافز"، ثم يمضي في تفسيره، حيث يقول: "فثمة تاريخ يثقل كاهل صاحبه فردا كان أو أمة ويشل حيويته، ويضعف جسمه.. وثمة تاريخ آخر يحفز وينشط ويبعث، ويدفع إلى الإبداع والتقدم..". إن التاريخ المقصود هو التاريخ المكتوب والمدون، فالمسؤولية تقع بالدرجة الأولى على كتّابه من مؤرخين ومختصين في الميدان، كيف يستطيعون نقله إلى الأجيال، والطريقة المتبعة في إيصاله، وبالتالي قد تكون صياغته منفرة ثقيلة ومُمِلة رغم أحداثه الساطعة، أو تكون جاذبة حلوة وطريفة رغم أحداثه البسيطة والساذجة، فجمود التصوير يؤدي لا محالة إلى تحجّر وتكلس العقول، وبالتالي يحدث النفور لجيل ما في عصر واحد، مع بقاء جيل آخر أسير الماضي، يلوك دون عناء ولا ملل قصص بطولات الأجداد .. السيف والرمح والقرطاس والقلم.. في عصر الأسلحة الذكية والذخيرة البيولوجية.. في عام 1976 وفي مؤتمر جمع رئيس الجمهورية آنذاك ومؤرخي وباحثي المركز الوطني للدراسات التاريخية لكتابة تاريخ الجزائر والثورة، كان الرئيس منتصبا على المنصة يجول بنظراته الصارمة والمعتادة، ماسحا وجوه الحاضرين، وبنبرة الآمر أكد على ضرورة تلافي ذكر أسماء الأشخاص عند تدوين تاريخ الثورة، لأن هذه الأخيرة تتجاوز ما قدموه من تضحيات.. ساد الصمت والتعتيم والتهميش، وتحول المؤرخ إلى راو لقصص تاريخية في شكل دونكيشوتي كانت أقرب إلى حكايات جدتي في ليالي الشتاء البارد والجميع متحلق حول موقد تحول جمره إلى رماد ورغم ذلك كنا نشعر بالدفء، كان هدف جدتي وغايتها تنويم الصغار والتخلص من إزعاجهم، كذلك كان المؤرخ الراوي للتاريخ الرسمي لا يختلف في هدفه مع جدتي فتنويم الكبار والتخلص من شغبهم كان من بين السياسة الاستراتيجية للبلاد، لذلك كانت رواياته غامضة ضبابية وميتة، بدون شخوص على الإطلاق وكأنها من صنع الأرواح والمسوخ، أما حكايات جدتي فكانت تعج بالأسماء وتنضح بالحياة .. ثم انتهى عهد الوصاية، ومات الزعيم، فخرج السدنة من معبد التاريخ، بعد أسر دام حقبة طويلة، فتحول السدنة إلى زبانية يحرسون المعبد ويمنعون المتطفلين من الدنو والاقتراب، ولما انقضت فترة الصوم الإجباري على الكلام، وانبلج الفجر الذي فتق طلوعه آذان الصم، وحلت نسماته عُقد البُكم، وكحلت أشعته أعين العمي، عندها هرول هؤلاء إلى الماضي والتمسوا القصص والأحاديث والروايات، وسودوا بها عشرات المؤلفات التي وسمت كلها ب : المذكرات . هذه المذكرات التي ملأت الدنى وشغلت الناس لا تصلح في معظمها إلا سيناريوهات لأفلام ومسلسلات طويلة لا نهاية لها، كالأفلام الهندية ومسلسلات أمريكا اللاتينية، حيث كلٌ يدور حول البطل، وفي المذكرات حول صانعها حتى لا أقول كاتبها. إن تجارب الماضي ببياضها وسوادها عبارة عن وعاء يحوي كنوزا لا تقدر بثمن على الإطلاق، فالعودة إليه لا تعني النكوص والتراجع والوقوع في الأسر التاريخي، وإنما تعني الاستفادة من تجارب الماضي، واستغلال ما أمكن استغلاله للاستعانة به ودرء ما يمكن درؤه مما يتوقع حدوثه. إن ظاهرة إبراز التاريخ الرسمي لبعض الشخصيات وتهميشه لشخصيات أخرى، يعد من النائبات العظمى التي مورست في حق التاريخ نفسه والتاريخ الوطني على الخصوص. فوزي سعد الله( كاتب، إعلامي) يجب أن يكون التعاطي مع التاريخ متماشيا مع مستويات الذين نتوجه إليهم الأخطاء التي وقعت أثناء الثورة يجب الاعتراف بها وتسليط الأضواء عليها، ولا عيب في ذلك، بالعكس ما دام مفجرو ثورة التحرير وقادتها ورجالها بمختلف الرتب والمراتب بشرا فإنه من الطبيعي أن يقعوا من حين لآخر في أخطاء. تقديس الثورة في حد ذاته خطأ من هذه الأخطاء. لكن يجب أن يكون لكل مكان مقال، بمعنى أن يكون التعاطي مع هذا التاريخ متماشيا مع مستويات الذين نتوجه إليهم. إذ لا يمكن الخوض في صراع القادة مثلا مع أطفال في المؤسسات التعليمية الابتدائية، لأن هذه الأمور وهذا النقاش يتكفل به أهل الاختصاص الذين يجب تشجيعهم على الخوض في هذه المسائل وتوفير أدوات البحث لهم. مثلما يجب أن يتحلى الباحثون والمؤرخون بروح المسؤولية والموضوعية في التعاطي مع هذا التاريخ وتفادي التسييس كما يجري اليوم، لتبقى هذه الشريحة منارة يهتدي بها الرأي العام عندما يغالي السياسيون في التسييس والكذب وتحريف التاريخ واسترجاع رموز الثورة بتلوينهم بألوان إيديولوجية أو سياسية غالبا ما كانوا أبرياء منها. كما نعلم، الحل والعقد يبقى بيد السلطات الرسمية واضعة الخطوط الحمراء منذ الاستقلال التي يجب أن تبادر فعليا وبجدية وليس بالقول والخطب السياسية فقط للانفتاح على هذه الرؤية في التعاطي مع تاريخ الثورة والحركة الوطنية. وهذا لا يعفيها من دورها في زجر المتلاعبين بذاكرة الأمة. أ.د. رابح لونيسي( أستاذ التاريخ بجامعة وهران، كاتب) الشهادات والمذكرات تحتمل الحقيقة والتزييف إن هدف التاريخ هو معرفة الماضي لفهم الحاضر من أجل بناء المستقبل، وهو ما يتطلب البحث عن الحقيقة التاريخية كما هي، وإلا فلا فائدة منه، أما التعامل مع رموز الثورة مثلا أو كل رموزنا عبر التاريخ، فيجب أن تسوده الموضوعية، لأنها شخصيات عامة، يمكن أن تتعرض لنقد سياساتهم، لكن دون المساس برمزيتهم، فمثلا بإمكان التطرق إلى أخطائهم في الممارسات أو إتخاذ القرارات لكن دون المساس بشخصهم كعملية التخوين أو الإستصغار كما يعمل بعض المجاهدين في شهاداتهم عندما يمسون بعض الرموز الكبيرة والتشكيك فيهم بدل الاكتفاء بالقول بأنهم اختلفوا معهم فقط في الرؤى والتوجهات. وهو ما يدخل البلبلة في ذهن العامة، ويضربون في رمزيتهم التي تبنى على أساسها الأمم، ولهذا هناك ضرورة ملحة على التمييز لدى أبنائنا وعامة الناس بأن الشهادات والمذكرات تحتمل الحقيقة والتزييف، وتتحكم فيها عدة عوامل كتضخيم الذات والجهوية والأيديولوجية والخصومات الشخصية، وأنها ليست تاريخ، لأن التاريخ يكتبه المؤرخ الأكاديمي وفق منهج علمي صارم، لكن بإمكان المؤرخ أن يتجاوز مسائل يراها مهددة لوحدة الأمة مثلا، ولا تلعب أي دور في عملية بناء الأمة والدولة. أما بشأن التهميش الموجود في التاريخ الرسمي لبعض الرموز والأحداث، فهو يعود في حقيقة الأمر إلى طبيعة الدولة السائدة، فإن كانت دولة/حزب أو مجموعة كما في الأنظمة الشمولية كالإتحاد السوفياتي مثلا، فإن التاريخ يصبح تاريخا إنتقائيا، لكن إن كانت طبيعة الدولة هي دولة/أمة كلها دون إقصاء، فإن التاريخ يجب أن يكون تاريخ الأمة كلها دون إقصاء، وحتى إن غيبت رموز وأحداث معينة فإن الحريات عامة والحريات الأكاديمية خاصة ستبرزها في إطار البحث عن المسكوت عنهم الذي يجب أن يهتم به المؤرخ. أما ظاهرة تقديس الرموز فهو له تأثير سلبي في نظري على الأجيال، بل يجب علينا تربويا أن نعلم أبناءنا طرق الإستلهام من رموزهم، لكن أيضا علينا أن نعلمهم بأنهم بشر عاديون مثلهم، وبأنه بإمكان أي كان فيهم أن يكونوا مثل بن مهيدي أو عبان رمضان أو ديدوش مراد أو مثل الأمير عبد القادر أو ابن باديس أو يوغرطة وغيرهم من الرموز، أفليس مثلا أبطال عملية "تقنتورين" لهم نفس الشجاعة أو أكثر من أبطال تاريخنا. وأريد أن نشير إلى مسألة الرموز، ألم يحن الوقت اليوم لإبراز رموز في مجالات أخرى في تاريخنا غير المجال العسكري فقط، مثل رموز في مجال العلوم والثقافة والاقتصاد وغيرها من نشاطات بناء الدولة في كل هذه المجالات، وندفع أبناءنا للإستلهام منهم، لأننا اليوم في حاجة إلى من يبني الجزائر على كل الأصعدة. أقول أن حتى تدريس تاريخنا الوطني عامة وتاريخ الثورة خاصة يجب أن يبرز مجالات أخرى غير العمل المسلح فقط، كي نغرس في أبنائنا روح البناء السلمي للجزائر، كما نعتقد أنه لابد من تدريس تاريخ الأمة كلها من جذورها إلى اليوم دون إهمال أي حلقة فيه، ولا نكتفي به في مرحلة تعليمية واحدة، بل ضرورة تكرار تاريخ الأمة كله في كل مرحلة تعليمية بالتوسع فيه حسب طاقة إستيعاب التلميذ في كل مرحلة، لأنه بهذه الطريقة سيعرف تاريخ أمته، ويعتز به، ولا يحتقر ذاته، بل أعتقد أن تاريخ الأمة وثقافتها هي الكفيلة بغرس الروح الوطنية في الإنسان الجزائري. د. محمد أرزقي فراد( باحث في التاريخ، كاتب) ليس من الصواب أن نقدّس الأعمال البشرية مهما عظمت التاريخ هو ما صنعه الإنسان بتفاعله مع عنصري الزمن والجغرافيا. التاريخ هو ما تبقى في المدوّنات من جهود بشرية هادفة إلى ترقية حياته. التاريخ هو ما تبقى في الذاكرة البشرية بعد النسيان، إن بالتدوين أو بالتواتر السمعي (المشافهة). وعلى أي حال فإن مصطلح التاريخ له أكثر من تفسير، أوّله بمعنى تدوين الأخبار (التأريخ) كما فعل المؤرخون الأوائل في حولياتهم، ثم انتقل مدلول التاريخ من الفن إلى "علم التاريخ" عندما صار الخبر مقترنا بالتحليل والتعليل، خاصة على يد المؤرخ الكبير عبد الرحمن بن خلدون الذي قال: "التاريخ ظاهره خبر وباطنه نظر". والمقصود بالنظر هو التعمق في دراسة الفعاليات المختلفة التي تصنع الحادثة التاريخية، من عوامل دينية واقتصادية واجتماعية وثقافية. إن الحضارة الإنسانية كائن اجتماعي، تشبه إلى حد ما الكائن البشري الذي يتعلم في طفولته عن طريق المحاولة والخطأ. لذا فإن التاريخ يدوّن الانتصارات والانكسارات على حد سواء، لأن الإنسان يستمد منها الدروس والعبر، فنحن ندرس - على سبيل المثال - النظام السياسي النازي المجرم الذي أهلك الحرث والنسل، من أجل تلافي الأسباب التي أدت إلى ظهوره. كما أننا ندرس عهد ملوك الطوائف في الأندلس المتميز بالانقسام والتنازع، ندرس الثورات الشعبية الجزائرية في القرن التاسع عشر رغم فشلها في استرجاع الاستقلال، كل ذلك من أجل أن تعرف الأجيال أن في الاتحاد قوة وفي التشرذم ضعف. لذا لا بد من تسجيل الماضي بإيجابياته وسلبياته، بصوابه وخطئه. وقد عبّر الشاعر الكبير نزار قباني عن هذه الفكرة بقوله: - لو قرأنا التاريخ ما ضاعت القدس - وضاعت من قبلها الحمراء أي لو استفدنا من أخطائنا التي حدثت في الماضي البعيد، لما ارتكبناها في العصر الحديث من جديد. التقديس لغة هو التوقير والتبجيل. أما اصطلاحا فيعني تنزيه عمل بشري من العيوب والنقائص. وما دام الإنسان غير معصوم من الخطأ، فإنه ليس من الصواب أن نقدّس الأعمال البشرية مهما عظمت أهميتها العلمية. إن تقديس أعمال البشر ينمّ عن التخلف وتحجر العقل، وارتبطت هذه الذهنية مع عصور الانحطاط بصفة عامة. لا شك أن قيمة العلوم الإنسانية والتجريبية نسبية وليست مطلقة، فما كان رقيا وتطورا في عهد أفلاطون مثلا، قد تجاوزه الزمن المعاصر المتسم بتطوّر العلوم والتكنولوجية بطريقة مدهشة. وقس على ذلك بالنسبة للتاريخ، فقد كان الطبري - مثلا- مرجعية لزمانه، لكنه صار في عصرنا كاتبا تقليديا، بعد ظهور التفكير العلمي والمناهج الدراسية الحديثة التي كانت عاملا حاسما في تطور علم التاريخ. لكن عدم تقديس التراث لا يعني تبخيس مآثر الرجال والحط من قيمتها، بل يعني إنزالها في منزلتها الصحيحة والحكم عليها في سياقها التاريخي. إن إدراك الحقيقة التاريخية غاية صعبة المنال، يسعى إليها الباحثون والمؤرخون وهم مسلحون بأدوات التفكير العلمي، التي تقتضي إخضاع جميع الأعمال للنقد قصد تبيان أوجه الصواب والخطأ فيها، بغض النظر عن أصحابها ومكانتهم. وقد أسال المفكر الجزائري محمد أركون حبرا كثيرا حول ذهنية تقديس الماضي التي تحوّلت إلى سياج "دوڤماتي" يحول دون النظر في تراث الأجداد، قصد غربلته بغاية مواءمته مع العصر، وأدّت هذه الذهنية إلى تجميد العقل العربي، وهي الحالة التي صاغها في مصطلح "الجهل المؤسس". يجدر بنا أن نعرّف في البداية معنى مصطلح" التاريخ الرسمي". فهو مفهوم مذموم، مؤداه قراءة التاريخ قراءة سياسية/ إيديولوجية/ انتقائية، تركز على إبراز فصول التاريخ التي تخدم المصالح الضيقة للحكم القائم. إن "التاريخ الرسمي" يعيش عصره الذهبي حيث تسود الأنظمة الاستبدادية كالعالم العربي مثلا. والحق أن ظهوره يعود إلى العهود الأولى للدولة الإسلامية، لذا فإن واجب المؤرخ الذي يريد أن يكتب عن ماضينا، يقتضي منه معرفة الخلفية السياسية للمؤرخين القدامى، لأنه لا يُنتظر من مؤرخ شيعي - مثلا- أن يكتب بموضوعية عن أهل السنة أو الخوارج والعكس صحيح. والجدير بالذكر أن سلاطين الممالك قد شجعوا الكتابة الرسمية للتاريخ، كلٌ حسب انتمائه السياسي. ولعل أبرز مثال للتاريخ الرسمي في حياتنا المعاصرة، هو إقصاء حقبة الحضارة الأمازيغية، والكثير من رموز الحركة الوطنية الجزائرية، وقادة ثورة نوفمبر من البرامج التعليمية في منظومتنا التربوية، لاعتبارات سياسية ضيقة. ولا شك أن الأوضاع قد تحسنت نسبيا بعد انتفاضة 5 أكتوبر 1988م. أما على الصعيد الخارجي فإن أفضل مثال على تسييس التاريخ (تغليب التاريخ الرسمي) هو سنّ قانون تمجيد الاستعمار الفرنسي، في فيفري 2005م. وقد ثار على ذلك المؤرخون الفرنسيون الذين بيّنوا للرأي العام، أن التاريخ هو شأن الجامعة وليس الطبقة السياسية. وعليه فإذا أريد الخير للجزائر، فلا بد من رفع يد "السياسي والسلطة" على موضوع التاريخ، وإسناد أمره للجامعة فقط، لأن أهلها هم المالكون للأدوات المعرفية و المنهجية العلمية التي تمكنهم وتؤهلهم للتعاطي مع التاريخ بنزاهة وموضوعية، تعطي لكل ذي حق حقه.