رجال يفتقدون سهرات الحومة الفنية و نساء يتحسرن على "القرقاف" يراود الكثيرين الحنين لرمضان زمان و تقفز إلى ذاكرتهم عادات و تقاليد و أجواء لم يعد لها وجود اليوم و يتحدثون عنها بحسرة مثل مشايخ قسنطينة القديمة الذين التقت النصر ببعضهم و رصدت من خلالهم صورا و مقولات و مشاهد مفعمة بالبساطة و العذوبة من رمضان بالماضي. شعور المتحدثين كاد يكون مشتركا من حيث درجة التوق و الولع بيوميات رمضان زمان و ما كان يميّزها من أصالة و تقاليد جميلة يسترجع الكثيرون تفاصيلها بنوع من المتعة التي يفتقدونها اليوم. خلفيات الدكاكين من الحرف الصباحية إلى الأمسيات الفنية من أكثر الصور الراسخة في ذهن ادريس أمين خوجة الذي توارث حرفة النحاس عن والده و لا يزال يحافظ على محله الصغير بحي سيدي بوعنابة بالمدينة القديمة ، تلك المرتبطة بذوق وولع القسنطينيين بالموسيقى، متذكرا كيف كان و هو طفلا يرافق والده إلى متجره بعد صلاة التراويح ليس للعمل و إنما للاستمتاع بقعدات فنية راقية مع مشايخ الزجل كالشيخ حسونة، براشي و غيرهم من أصدقاء والده الذين كانوا يجتمعون في خلفية دكانه الصغير حول صينية القهوة المزّينة بمختلف الحلويات التقليدية و باقات الأزهار التي كان يحرص الفنانون الذواقون على جلبها معهم من سوسن و مسك و ياسمين، لإضفاء لمسة جمالية على لّمتهم الحميمية، مضيفا بأن أغلب خلفيات دكاكين الحرفيين بالأزقة القديمة كانت تتحوّل من ورشات إلى شبه نواد فنية و ثقافية يلتقي فيها الأصدقاء لعرض إبداعاتهم أو التدريب أو التسامر و التحدث في الفن و أحوال المجتمع و يتناقلون جديد الأحداث السياسية فيما بينهم قبل العودة إلى بيوتهم التي لم تكن بعيدة عن مكان سهرهم، ليس كما هو حال الساهرين اليوم الذين يتنقلون على بعد بضع كيلومترات من أجل السهر في وسط المدينة. و تذكر أمين خوجة بنبرة طبعها الإعجاب و الحسرة في آن واحد، صور تهافت القسنطينيين عشية رمضان على محلهم و المحلات المجاورة المتخصصة في حرفة النحاس لأجل تبييض أو تشبيب الأواني النحاسية لاستعمالها بكل ثقة في الشهر المبارك، معلّقا "ناس زمان كانوا يتمتعون بثقافة صحية واسعة و إن لم يرتادوا المدارس"إشارة إلى أهمية "تشبيب النحاس"لتجنب أخطار أكسدة هذا المعدن أو ما يعرف بزنجرة النحاس، ذاكرا بعض الأواني المهمة في مطبخ رمضان كطاجين النمرة الذي تحضر عليه أوراق الديول. الزلابية حلوى لعابري السبيل و ليس لموائد القسنطينيين و عن أشهر حلويات رمضان قال محدثنا، بأن كل الحلويات كانت تحضر في البيوت و ما كان يحضر في المحلات التجارية فكان للإهداء ليس إلا، بما في ذلك حلوى الزلابية التي أكد بأنها كانت تباع لعابري السبيل أو تقدم للمساجد في مناسبات معيّنة كالاحتفال بحفظة القرآن من الأطفال و الطلبة، مشيرا إلى تنافس النساء فيما بينهن في إعداد الحلويات و تقديمها للأهل و الضيوف و الجيران لإثبات شطارتهن و مهارتهن في فن الطبخ. و ذكريات ادريس لم تتوّقف عند هذا الحد بل امتدت إلى سحر تجمع الأطفال في وسط الدار في انتظار دورهم في الأكل، و حصتهم من وجبة الإفطار، واصفا أجواء الاحترام و التقدير التي كان يكنها الكبير للصغير و الصغير للكبير، فلا يكاد الكبار يسمعون أصواتهم و لا يرونهم طيلة تناولهم وجبة الإفطار كما قال. كما تذكر حلوى "واحد كيلومتر" الليّنة التي كان يحملها البائع المتجوّل على قطعة خشبية على كتفه، يفرح الأطفال كلما سمعوا صوته و هو يرّدد: "آن كيلومتر". زرابي مفروشة بالأزقة القديمة و من جهته تذكر رشيد عمروش من حي الشط المتفرّع من حي ملاح سليمان (السويقة) الجانب الجمالي لأزقة قسنطينة العتيقة و حرص القاطنين على الحفاظ على نظافة المكان و المحيط، متذكرا حملات تطوّع الصغار و الكبار لتنظيف الشوارع في الوقت الذي تنظف فيه النساء البيوت ابتهاجا باقتراب رمضان، و قال بأن الرجال منذ القديم يسهرون أمام منازلهم لكن دون إزعاج الجيران أو التقليل من احترامهم. حيث كان الساهرون يجتمعون في أماكن قريبة من بيوتهم بشكل لا يزعج المارة، و روى كيف كان الراغبون في السهر يقومون بتبريد المكان الذي سيجلسون فيه برشه بالماء خاصة في أيام الحر قبل فرش الزرابي على الممرات الحجرية القديمة و السهر في أجواء منعشة إلى غاية الواحدة صباحا. و تأسف لانتشار المظاهر غير الحضارية و اختفاء العادات الجميلة منتقدا طريقة التواصل بين شباب اليوم و ما يطبعه من سوء احترام وتقدير الآخر، إلى جانب سيطرة العبارات البذيئة على أحاديث الكثيرين و انتشار مظاهر العصبية و سرعة الانفعال"النرفزة" و الشجارات بالأسواق و الضجيج الذي يطبع سهرات المدينة، و أضاف مسترسلا بنبرة شخص يتوق لأيام الزمن الجميل: "أحن لسهرات رمضان الهادئة و تجوّلنا بين الأحياء و فرحتنا بحضور الأفلام السينمائية"، يصمت و يواصل متحدثا عن صلة الرحم و كيف كان الناس يتبادلون الزيارات و حتى النساء لم تكن محرومات من الخروج ليلا شرط مرافقة رب العائلة لهن. و من بين الأحياء التي تعرف حركة الساهرين أكثر من غيرها الفنادق و الرحبات و الساحات العمومية كساحة أحمد باي و كل الأزقة التي لا زالت تحافظ على أسمائها القديمة كباشتارزي، الرصيف، الزلايقة، الشط، البطحة، السيّدة...و غيرها من الأحياء العريقة التي فقدت هي الأخرى جانبها الجمالي المتمثل في نمطها المعماري القديم جرّاء الانهيارات المتواصلة لبناياتها و ترحيل سكانها القدامى. و تذّكر من جهته أيضا أمين خوجة ما أسماه ب"قسمة اللبن" و هو دلو نحاسي تزيد سعته عن 10لترات، كانوا يحملونه إلى اللبان لشراء اللبن و اقتسامه مع الجيران أو الأصدقاء لأجل استهلاكه مع طبق "المسفوف" الخاص بالسحور أو "المحوّر" المعد هو الآخر من الكسكسي. "القارقاف" سيّد سهرات الحرائر و إن اختلفت يوميات النساء عن يوميات الرجال، فإن الحنين و الشوق لأيام رمضان تبقى مشتركة بين جميع من كان لهم الحظ في معايشة هذه الأجواء، حيث علّقت السيدة بن نعمون قائلة بأن رمضان فقد معانيه السامية و مذاقه الخاص و حتى أطباقه التقليدية لم تبق لها نفس النكهة في نظرها، مسترجعة صورا عن أيام كانت تقضيها مع بنات الجيران و هن يحضرن كل ما لذ و طاب بشكل يكاد يكون جماعيا لفرط ما يتقاسمنه من نصائح و لوازم تحضير فيما بينهن دون بخل أو ملل، قائلة بأنها لا زالت تتذكر منظر الطابونة الموضوعة في السطح و الحديث مع الأخريات الذي كان يخفّف عليهن و ينسيهن تعب الأعمال المنزلية. و استعادت السيدة بن نعمون ذكريات عن سهرات النساء في الماضي قائلة بأن وقتهن لم يكن يذهب هباء حتى و هن يتسامرن و يروّحن عن أنفسهن، بل كن تشغلن وقتهن بالطرز و الحياكة و كل واحدة تبرز مهارتها أمام رفيقاتها، فكان "القارقاف"(خشب يستعمل لشد القماش المراد طرزه) سيّد السهرات النسائية في أغلب البيوت حيث كانت كل واحدة تنشغل في إعداد فستانها بالطرز التقليدي المتراوح بين "التعداس" و "الحرج" بنوعيه الفتلة و المجبود، بالإضافة إلى تعليم الفتيات الصغيرات فنون الطرز و الخياطة لإعدادهن للحياة الزوجية، أما اليوم فإن التلفزيون حل محل السهرات العائلية و استبدلت الحياة الاجتماعية و المودة بالأجهزة الالكترونية و التواصل الرقمي. الفقيرات للترويح على نساء العائلات الميسورة و تسرد ما رحيمة عضوة بالجوق النسائي المعروف بقسنطينة باسم الفقيرات و القاطنة بالشط بالمدينة القديمة كيف أن سهرات نساء قسنطينة كانت تختلف من بيت إلى آخر، متذكرة أجمل اللحظات التي قضتها مع عضوات الفرق التي رافقتها منذ كانت شابة بدءا بفقيرات بلفرطاس، و وصولا إلى جوق مالك، و اللقاءات الكثيرة التي جمعتها بنساء قسنطينة من خلال إحياء سهرات نسائية ببيوت العائلات الميسورة من أبناء المدينة و التي كانت تنظم خصوصا في ليلة السابع و العشرين من شهر شعبان و ليلة السابع و العشرين من رمضان و التي يحرصن فيها على انتقاء أغاني المدح و الذكر قبل العودة إلى بيوتهن في الصباح الباكر و العودة إلى حياتهن العادية كربات بيوت و أمهات. و تحدثت عن عادة تبادل الأطباق و الأكلات بين الجيران و مساعدة الجار لجاره و السؤال عنه في حال غاب عن النظر على غير عادته و الإسراع لمد يد العون له ماديا و معنويا كما لو كان فردا من العائلة، عكس ما يحدث اليوم من انشغال الفرد عن الآخر بهموم الدنيا و تسابق الكثيرين لملأ الموائد و البطون دون الإحساس بالرضا و القبول على حد تعبيرها. و تحدثت عن أهم الأطباق التي كانت تزيّن موائد القسنطينيين في الإفطار و السحور و التي قالت أن جميعها ما تزال تحضر حتى اليوم ، و ذكرت منها الطبيخ و المحلبي الذي قالت أنه من أهم ما كان يقدّم للضيف في السهرة. أما في السحور فما كان طبق آخر يزيح "المسفوف" بالزبيب عن المائدة في أي ظرف من الظروف و كانت النساء رغم مشقة واجبات النهار تقمن ليلا لتحضيره قبل آذان الفجر بأكثر من ساعة تقريبا لتقديمه ساخنا للعائلة كوجبة خفيفة لا تقلق الصائم صباحا. بوطبيلة و نداء السحور و تبقى نوستالجيا الكثيرين أيضا لصوت بوطبيلة "المسحراتي"الذي كان يجوب شوارع قسنطينة بطبله لإيقاظ النائمين لتناول وجبة السحور و الاستعداد لصلاة الفجر من جهة، و لصوت المدفع و هو يضرب من ثكنة المنصورة لحظة غروب الشمس لإعلان موعد الإفطار و الذي كان يسمع بكل المدينة قبل أن تعوّضه صفارة الإعلان عن الفطور... و أمور أخرى تستيقظ مع الذاكرة كلما حل الشهر المبارك كشريط تتخللّه مشاعر تغلبها الحسرة.