الفقيه المستنير الذي اجتمع في حبه العلمانيون والاسلاميون مرت منذ أيام الذكرى الأربعون لرحيل العلامة التونسي محمد الطاهر ابن عاشور ، هذا المجدد الذي يعد رائد التحرير والتنوير في المغرب العربي ، ومن المفارقة أن يجتمع الإسلاميون والعلمانيون على حد سواء على فكر هذا الرجل ، حيث وجد كل قبيل ضالته فيه ورآه انعكاسا لنظراته وتصوراته لمشروع المجتمع وآفاق الحداثة ، إذ يعده الاسلاميون مجددا كبيرا في الفقه وأصوله ومقاصده ومصلحا للتعليم الديني بعد الجمود الذي ران على التراث الإسلامي قرونا ومخلصا للتفسير من تاريخية الآراء والعادات مسجلين له مواقفه الشجاعة في مواجهة الاستبداد والانتصار للدين ، والآخرون رأوا فيه الفقيه الحداثي الذي تجاوز الفتاوى المنغلقة المكبلة للحريات والمتجنية على حقوق المرأة وإنسانيتها والمتكيفة مع تطور العصر وحداثته والمؤصل الأول لقيمة الحرية فكرا وسلوكا بعد عصور التقليد والأبوة والوصاية الفكرية والسياسية والفاصل بين الدين والتدين ، الوحي والتراث ، الإلهي والبشري . وتزداد الحاجة إلى فكر بن عاشور في هذا الظرف الذي تعيشه تونس وبلاد المغرب في مواجهة فتاوى عابرة للصحراء. عبد الرحمن خلفة "الطريق" إلى دار بن عاشور وأنا أتحسس عبق مدينة تونس وأطوف بشوارعها ونهجها وأزقتها استحضرت دور أعلامها من قديم الزمان إلى الآن ، فزرت دار ابن خلدون وخلوة الشاذلي بلحسن وتربة الباي وزواياها ومساجدها العتيقة ، وغيرها من الآثار ، قبل أن أيمم وجهي شطر دار مجددها الكبير رائد التنوير والتحرير وملهمها الديني والثقافي مستعمرة ومستقلة ، الإمام الطاهر ابن عاشور . لم يكن صعبا العثور على دار بن عاشور لأن التونسيين ما فتئوا يحفظون دور وآثار أعلامهم من عهد حنبعل إلى بورقيبة مرورا بمئات الأبطال والعلماء والمصلحين الذين تركوا بصماتهم في تاريخ هذه الدولة على مدى آلاف السنين ، لكن الوصول إليها حتم علينا سلك نهج الباشا أسفل القصبة ، وفي دروب هذا النهج تصادفك دار الباشا ومدرسته ودار بن عرفة وغيرها من الدور في مشهد عمراني يشي بحي ارستقراطي بمقاييس زمن الباشوات إبان الحكم العثماني ، وبهذا المشهد تتكشف لك بعض مداخل شخصية الإمام استعدادا لمشهد مسكنه الذي لن يختلف حتما عن دور الطبقات الارستقراطية عصرئذ ، فعلى خلاف الصورة النمطية التي عادة ما نحملها عن رجل الدين في مخيالنا الجمعي كواحد من اللصيقين بالأوساط الشعبية وأحيائها تربى ابن عاشور سليل عائلة بن عاشور الأندلسية ضمن تقاليد العائلات العريقة بدءا بمسكن مسقط رأسه بالمرسى وانتهاء بداره هذه ، لكنه بين غدوه ورواحه بين مسالك هذا النهج متجها للزيتونة التي كان شيخها الأول أو المدرسة الخلدونية أو المدرسة الصادقية أو دار القضاء كان يلوح بيده محييا من يقابله في تواضع جم ، لكنك لا تستغرب وأنت تقتحم أزقة النهج أن يكون هذا العالم وعلى خلاف نظراء عصره متفتحا مستنيرا له فهم للدين مختلف عما ورثه أو عاصره، فهو يحتكم إلى المقاصد أكثر من احتكامه إلى الآثار والآراء ، فللبيئة تأثير كبير على الفكر والوجدان وسلوك الإنسان ، فهل كان ابن عاشور سيغدو فقيه التحرير والتنوير لو عاش في بيئة غير هذه أم أنه سيكون نسخة مكررة عن مخطوط قديم لفقه تراثي تاريخي ؟ . تابعت السير والمارة يشيرون علي بمواصلة السير، تملكني شعور غريب خلت نفسي تحت تداعياته أنني على موعد مع لقاء ابن عاشور ذاته في داره المعلمة هناك ، بدأت أرسم صورة في ذهني لفقيه وقاض وإمام ومجدد يعبر هذا المكان بوقار العلماء وتواضع المؤمنين ويستقبل في داره كل طارق متعلم أو سائل ، كانت صورته التي التقطت له مرارا ماثلة بين عيني تقدم فكرة أكثر وضوحا عن هذا العالم . وأخيرا وصلت إلى الدار ! ، كانت على جدارها لافتتان إحداهما تشير إليها والأخرى إلى مكتبة بلدية ، الأمر مفهوم ومقصود فتونس ترفض مناطق الفراغ وترفض ترك دور وآثار أعلامها طي النسيان ، فهذه الدار تحولت إلى مكتبة للمطالعة لتواصل رسالة صاحبها في نشر العلم والثقافة والتنوير ، لم أجد على الباب المفتوح على مصراعيه أحدا فدخلته بذات الشعور الذي لم يفارقني، يحيل الباب على بهو استقبال بمقعدين حجريين متقابلين وجدار رخامي بطراز مغربي وأندلسي كان قاعة انتظار للوافدين على الشيخ وحجابا يحول دون اقتحامهم لداره على حين غفلة ، لم أطل الانتظار وواصلت المسير منعطفا يمينا لأجدني داخل بهو دائري جديد تنفتح عليه غرف الدار كلها وأدركت أني داخل دار عربية أصيلة بالطراز ذاته الذي بنيت عليه دار ابن خلدون ومعظم الدور التاريخية بتونس العتيقة وأحيائها ، وهو الطراز ذاته الذي بنيت عليه دور المدينة العربية مغربا ومشرقا . جاءني هذه المرة صوت من داخل مكتب صغير : تفضل مرحبا ، مرحبا ، تقدمت نحوه ، واستسمحت في دردشة حول الدار وحالها ، فقدم لي عرضا موجز خلاصته أنها أصبحت مكتبة بلدية مفتوحة للطلبة والباحثين والقراء ، تطلعت لمعرفة إن كانت بها بعض آثار ابن عاشور فخاب ظني لما قيل لي إن كل آثاره وأغراضه حملت لمسكنه الأول بالمرسى ! لم يكف الوقت لطلب إذن زيارة مسكنه هناك لكني حظيت بفرصة الإطلاع على بعض آثاره بمعرض خاص أقيم على هامش ملتقى حول فكره وفكر فتح الله كولن بفندق إفريقيا بقلب العاصمة تونس .خرجت من الدار بعد أن أشبعت نهمي من التحديق في أجنحتها لعل نظري يطابق نظر الإمام وأنفاسه تخترق أنفاسي وهو يخط أشهر مؤلفاته ويجود بعصارة فكره وأدق فتاويه ، وفي طريق العودة عاد بي المخيال مجددا إلى هذا العالم الفذ وهو يعبر المكان متجها نحو الزيتونة هذه الجامعة الجامع التي احتضنته طالبا وأستاذا وشيخا حتى ارتبط اسمه بها وارتبط اسمها به فقد كسر ابن عاشور فرضية النبوغ المشرقي وأن الطريق إلى العالمية يمر حتما عبر جامع الأزهر وأزقة القاهرة ، فالرجل تونسي التعليم وتونسي النبوغ يوم كانت الزيتونة تناطح الجامعات المشرقية وهي التي أبهر مستواها محمد عبده أثناء زيارته لها ولقائه بطلبتها وشيوخها فقال : "إن مسلمي الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر"-كان يمكن لها أن تظل رائدة لو أتيحت لها فرصة الإصلاح والتحديث وحافظت على استقطاب الطلاب من المغرب العربي ، وليس غريبا أن تكون الزيتونة بهذا المستوى فها هو ابن باديس لم يدرس بغيرها العالم النابغة الذي لا يشق له غبار في الفقه واللغة والتفسير . جامع الزيتونة :هنا بدأ معركة التجديد والإصلاح فعلى مسيرة ربع ساعة أو أقل من دار ابن عاشور يقف جامع الزيتونة المعمور هذا الجامع الذي يقبع على بضع عقود من قرنه الرابع عشر متصدرا جوامع العالم الإسلامي وجامعاته ليكون ثاني جوامع المغرب العربي بعد جامع القيروان والخامس مشرقيا بعد الحرمين الشريفين ومسجد الكوفة والمسجد الأموي وأول جامعة عالمية متجاوزا بذلك جامع الأزهر وجامع القرويين وغيرهماكان العامل الأهم في صقل شخصية الطاهر بن عاشور وهو يرث عصارة من مر قبله من فطاحل العلماء أمثال ابن خلدون وابن عرفة والرياحي وبوحاجب ومحمد الخضر والثعالبي الجزائريين والشابي والحداد وغيرهم لكنه لم يكن العامل الوحيد ، فثمة عوامل أخرى ساهمت في بناء إنشاء هذه الشخصية وتصديرها رائدة للتحرير والتنوير ولعل من أهمها : الإطار التاريخي الذي عاش فيه الإمام كواحد من الشاهدين على القرن العشرين ، حيث واكب وتفاعل مع كل التحولات التي حدثت بالعالمين الإسلامي والعربي ، وخاصة صدمة الحداثة التي أصابت العرب غداة احتكاكهم بالغرب سواء من خلال البعثات العلمية أو الاستعمار الأوروبي ولا شك أن هذه الصدمة قد حركت الفكر الجامد وعرت واقع المسلمين المتخلف وحفزت المصلحين الرواد على حمل لواء التجديد الشامل في محاولة للنهضة والالتحاق بالركب ، تجديدا شاملا تعدى السياسة والعمران إلى الفقه والتشريع والأصول والتفسير والأخلاق وقد تجلت بوادر انخراط ابن عاشور في هذا المسعى بلقائه التاريخي بمحمد عبده أحد أكبر المجددين في العصر الحديث إن لم يكن الوحيد من منظور الإبستيمولوجية ثم ما تلا ذلك من إعلان سقوط الخلافة الإسلامية بعد أن عمرت أربعة عشر قرنا ، هذا السقوط المدوي لم يكن ليمر دون أن يحدث تحولا عميقا في الفكر الإسلامي ويظهر أسئلة كانت مغيبة من قبل لعل أبرزها لماذا تقدم غيرنا وتخلفنا نحن ؟ وكيف السبيل للعودة ثانية إلى الإمساك بزمام الحضارة ؟ لم تعد الأجوبة التي ترمي بالمسؤولية على الحكام والملوك وبطشهم واستبدادهم تقنع الخاصة أو العامة ، فاتجه المفكرون لاستقصاء الداء وتشخيصه في المنظومة الفكرية والتشريعية ليتضح أن الأزمة أزمة فكر ، فكر ظل يدعي الحقيقة المطلقة والصبغة الإلهية وهو مزيج من الوحي والأفكار البشرية والشعوبية وعادات الأمم التي عبرت الحضارة الإسلامية ، وفي خضم هذا جاء السؤال العريض الذي ظل مصادرا منذ نهاية القرن الأول هل نظام الخلافة تشريع الهي آم اجتهاد بشري وبلغة الفقهاء هل هو توقيفي أم توفيقي ؟ هكذا تساءل لأول مرة علي عبد الرازق في كتابه (الاسلام واصول الحكم )ربما كان منتظرا من ابن عاشور أن يسير في فلكه تجاوبا مع تصوره الذي انتهى إليه لكن الإمام الذي لما يتشبع بأفكار خير الدين وبيرم والحداد والكواكبي فضل أن يظهر في ساحة السجال بمظهر الفقيه المحافظ فأصدر كتابه ( نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم) والكتاب الذي صدر في الثلاثينيات ينبغي أن يقرأ في حدود زمانه لأن كثيرا من آراء ونظريات ابن عاشور وتصوراته لنظام الحكم والخلافة التي توصل إليها بعد اجتهاد السنين لم تكن تبتعد كثيرا عما دونه عبد الرازق في كتابه المردود عليه ، فرد ابن عاشور لا يعبر عن قناعته بقدر ما يعكس مرحلة من مراحل فكره المتطور باطراد لأن ابن عاشور وبمجرد أن تبوأ الريادة العلمية في قومه نحى نحو التجديد والإصلاح وبث آراء جريئة لم يسبق إليها فجاءت كتبه عاكسة لفلسفته ونظرته للفقه والتدين والاجتماع ، فتفسيره الكبير التحرير والتنوير الذي لم يعرف له مثيل مند عهد تفسير الإمام الرازي حبله على مدى أربعين سنة بآراء نقدية للتفاسير التي سبقته طارحا ما تمجه العقول السليمة والفطر السويةوكاشفا ما تلبس منها بالعادات والبيئات وما استند إلى مطلق الوحي واللغة ، فتفسيره كتاب نقد بامتياز تبنى التحليل والتفكيك وإعادة البناء والتركيب بأقوال وآراء حرص على بثها والتصريح بها مهما خالفت السائد المتداول عصرئذ متعاملا مع النص القرآني وكأنه نزل لتوه في محاولة لتقديمه للمسلمين للانتفاع به مجددا بعيدا عن تاريخية التفاسير التي حجبت رؤيته وهي الغارقة في المرويات والآراء الشخصية والمذهبية ، وتفسيره هذا أضحى اليوم ومنذ نشره صاحبه مرجعا أساسيا في الثقافة التونسية المدرسية والجامعية والدينية الرسمية والشعبية إلى جانب كتابه في أصول النظام الاجتماعي الإسلامي الذي عرض فيه نظريته في سياسة الأمم وبناء المجتمعات من منظور إسلامي ، ويبقى كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية ) معيارا ومنهجا ، معيارا للحكم على الآراء والأقوال والنظريات والفلسفات والاجتهادات الفقهية والسياسة والاجتماعية ومنهجا للتنظير والتشريع الفقهي والسياسي والاجتماعي ، فلأول مرة يعيد بعث علم المقاصد بعد أن حجبه الجمود والتقليد غداة مولده على يد الإمام الشاطبي وفيه حدد المقاصد والكليات التي يجب أن يراعيها كل مشترع ومجتهد لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والحرية مقررا أن غاية كل تشريع تحقيق المصلحة ودفع المضرة وإقامة العدل فالشريعة مصالح كلها وعدل ورحمة ، علاوة على منهجه في التعامل مع الأحاديث التي أخضعها لمحك النقد بما فيها تلك التي رويت في الصحيحين وظلت تتوارث مسلمة على مدى قرون . إن ما تشترك فيه جل كتب ابن عاشور هو التركيز على بعد الحرية باعتبارها مقصدا شرعيا وفضاء للتفكير والتجديد وحرصه الدائم على تخليص الفقه مما علق به من العوائد وبيان الأحكام الشرعية التي ربطها الشارع بالعوائد وتلك التي ربطها بالمقاصد وتلك التي سنها مطلقة بغض النظر عن بيئتها ، وفي خضم التجديد سعى ابن عاشور إلى وضع برنامج إصلاح شامل للتعليم الزيتوني الذي ظل يحتكر الساحة التعليمية والثقافية لقرون قبل أن تجاوره المدرسة الصادقية التي أسسها خير الدين باشا ، فأعاد تنظيم التعليم الزيتوني وأنشأ كليات وبنى لها مقرات فاخرة بتونس العاصمة ، لكن التجربة أجهضت في مهدها بدعوى توحيد التعليم مند حوالي نصف قرن لتتحول جامعة الزيتونة التي أنارت العالم وشمال إفريقيا قرونا من الزمن إلى مجرد جامع للصلاة وتلاوة الورد القرآني . ولئن أغلقت الزيتونة أبوابها فإن فكر الطاهر بن عاشور الذي أحرج أقرانه في حياته وسبق عصره امتد كالنار في الهشيم في العالم الإسلامي شعبيا وأكاديميا والجامعات اليوم تحصي عشرات الرسائل والأطروحات حول فكره الفقهي والأصولي والمقاصدي ، بل إنه أضحى أحد أكبر فقهاء التنوير بعد أن تفطن له الحداثيون واكتشفوا آراءه المتقدمة في قضايا الحريات وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والأسرة والمدنية والاجتماع البشري . حفيد ابن عاشور : قطيعة إبستيمولوجية أم فاتحة أخرى ؟ شدني الفضول للبحث عن أحفاد ابن عاشور فقد كنت على يقين أن هذا النسل العلمي الذي تدفق من الأندلس على مدى خمسة أجيال لن ينضب لاسيما وأن الفضل بن عاشور الابن البار لأبيه قد كان أحد علماء الزيتونة ولكنه توفي قبل وفاة أبيه ، وقد صدق حدسي فالتقيت بحفيده عياض بن عاشور شخصية تونسية عالمة تحمل الكثير من الصفات الخلقية والخلقية للطاهر ابن عاشور ، لكن وعلى خلاف ما كنت أنتظر لم يكن عياض فقيها دينيا وإن كتب في الدين ولم يكن أستاذا بالزيتونة بل كان أستاذا في القانون وأحد أكبر الخبراء الدوليين في القانون وحقوق الإنسان وتعده تونس اليوم أحد حكمائها وإن اختار لنفسه معسكر الحداثة والدولة المدنية بعيدا ربما عما ينتظر من حفيد عالم زيتوني أن يكون مناصرا لدولة دينية ، كان اللقاء به بمناسبة تقديم ترجمة كتابه – الفاتحة الثانية – من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية بعنوان – الفاتحة الأخرى – الذي أهداه لي . بعد عرض للمترجم وعرض للمؤلف ، تفاعلت مع المتدخلين وسجلت نقاط تقاطع مع ما ورد في الكتاب ونقاط اختلاف اعترضت على تغيير عنوان الكتاب من الفاتحة الثانية إلى الفاتحة الأخرى لأن ما ورد فيه وهو تحليل لمضامين وصايا ذات بعد إنساني عالمي وردت في سورة الإسراء لم تكن مغايرة ومقابلة وفاتحة الكتاب بل مكملة لها ، جاراني عياض في ذلك وحمل مسؤولية التبديل للمترجم ، ربما كان الحفيد بكتابه هذا يريد أن يكون ابن عاشور الثاني وليس ابن عاشور الآخر ، كما كان ابن رشد الحفيد ابن رشد الثاني ، ولكن المجتمع المحيط به يريد له أن يكون ابن عاشور الأخر ؟! وتلك حكاية أخرى بين القوة والفعل ، بين منطق التاريخ ومنطق الجماعة ، منطق الدولة ومنطق الأسرة ، لكن الحفيد ومهما اختلفت معه تعترف له بشخصيته الفذة وتملكه ناصية العلم ، ربما أفضت به قراءاته المتأنية للتراث الإسلامي والأرذوذوكسية السنية واستقراؤه للدين والسياسة في الوطن العربي إلى التحرر والانتهاء إلى ما انتهى إليه وكل إنسان حر في اختيار مساره الفكري والسياسي ، ولكن إن قيض لهذا العالم أن ينخرط في مسار التجديد الفقهي الإسلامي الحديث والمعاصر فسيكون له باع طويل وإثراء كبير مستفيدا من ذخيرة الحداثة والمدرسة القانونية الغربية على غرار ما فعل عبد الله دراز ومصطفى الزرقاء وغيرهما بالمشرق العربي ، ومهما يكن فإن دم العلماء سيظل يتدفق من الأصلاب إلى الأرحام ولابد يوما ما أن يتمخض عن حفيد آخر يواصل مسيرة العائلة العلمية تبعا للمسار التاريخي الذي خطته بالأندلس ذات قرن . ابن عاشور في سطور ولد محمد الطاهر بن عاشور -بتونس، 1296 ه/1879 وتوفي في 12 أوت سنة -1393 ه/1973م ، من أسرة منحدرة من الأندلس ترجع أصولها إلى أشراف المغرب الأدارسة تعلم بجامع الزيتونة ثم أصبح من كبار أساتذته. سمي حاكما بالمجلس المختلط سنة 1909 ثم قاضيا مالكيا في سنة 1911. ارتقى إلى رتبة الإفتاء وفي سنة 1932 اختير لمنصب شيخ الإسلام المالكي، ولما حذفت النظارة العلمية أصبح أول شيخ لجامعة الزيتونة وأبعد عنها لأسباب سياسية ليعود إلى منصبه سنة 1945 أعيد تعيينه شيخًا لجامع الزيتونة سنة 1364ه/ 1945م، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.وحرص على أن يصطبغ التعليم الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية مع التقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ وظل به إلى ما بعد استقلال البلاد التونسية سنة 1956. ومن مؤلفاته التحرير والتنوير، تفسير القرآن وهو مختصر من اسمه الأصلي: "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد". أصول الإنشاء والخطابة موجز علم البلاغة أليس الصبح بقريب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام الوقف وآثاره في الإسلام نقد لكتاب الإسلام ونظام الحكم شرح لمقدمة المرزوقي لشرح ديوان الحماسة شرح قصيدة الأعشى ديوان بشار، مقدمة وتحقيق الواضح في مشكلات شعر المتنبي، البسمة مقاصد الشريعة الإسلامية كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا"، و"النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح"، و"التوضيح والتصحيح في أصول الفقه"، "قصة المولد"، "أمالي على مختصر خليل"، شرح معلقة أمرئ القيس، وغير ذلك. إبن عاشور أديبا ولغويا على غرار وجه الأصولي الفقيه المجدد الذي يعرف به الإمام ابن عاشور في مصنفاته الشرعية وجهوده الإصلاحية فإن له وجها آخر لا يقل حضورا وإشراقا عن سابقه ، وهو وجه الأديب اللغوي البليغ الذي تجلى على مستوى مجالين من مجالات إنتاجه . أولها مجال المصنفات الشرعية أين أظهر تحكما كبيرا بناصية اللغة وتوظيفا محكما لحقولها الدلالية والبلاغية كما هو حاله في تفسير التحرير والتنويرفلا تكاد تخلو صفحة منه من الكشف عن سر من أسرار البلاغة أو نكتة لطيفة من لطائف اللغة أو توجيه من التوجيهات النحوية أو إبراز سر من أسرار الإعجاز القرآني . وكذا حاله الذي يؤكد علو كعبه في اللغة في كتاب كشف المغطى من المعاني و الألفاظ الواردة في الموطا . والمجال الثاني مؤلفات ابن عاشور التي تدخل في صميم التأليف اللغوي والدراسة الأدبية ومنها كتاب شرح الاقتضاب لابن السيد البطليوسي و أصل هذا الكتاب شرح لأدب الكاتب لابن قتيبة و هذا الكتاب للأسف مفقود ، و له بالإضافة إلى هذا الكتاب خمس مقالات في اللغة منها مقالة في غرائب الاستعمال اللغوي و مقالة في الألفاظ المشتركة و مقال في أخطاء الكتاب في العربية رد به على مقالة نشرها في البصائر عالم جزائري هو أبو يعلى الزواوي و مقالة في تصحيح أخطاء في اللغة العربية وقعت في إحدى طبعات كتاب جمهرة الأنساب لابن حزم . و له في علم البلاغة كتابان هما أصول الإنشاء والخطابة و موجز البلاغة و كان غرضه منهما أن يضع بين أيدي طلاب العلم نماذج للإنشاء الأدبي البليغ يحتذوها في محاوراتهم و تكون لهم نبراسا في كتاباتهم وله بالإضافة إلى هذبن الكتابين شرح مختصر لكتاب دلائل الإعجاز للجرجاني . وشرح مختصر علي كتاب المطول في علم البلاغة للإمام التفتازاني ابن عاشور يحقق الأدب العربي القديم و للشيخ دراسات أدبية و تحقيقات بارعة تدل على سعة اطلاعه على الأدب العربي القديم ومنها شرحه لمعلقة امرئ القيس وجمعه و إتمامه لديوان سحيم عبد بني الحسحاس و تحقيقه لديوان النابغة الذبياني وتحقيقه و تعليقه على ديوان الشاعر بشار بن برد وإن عناية الشيح ابن عاشور بديوان هذا الشاعر تدلنا على قوة ملكته في النقد و التحليل وعلي سماحة هذا الإمام الكبير لأن في شعر يشار حسب خصومه كثيرا من الزندقة و العنصرية تجاه العرب و لكن العلم و الأدب شيء و الموقف النقدي و الإيديولوجي شيء آخر اعتنى بالتعليق و الشرح و التحقيق لبعض الكتب التي شرحت ديوان المتنبي ومنها الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصبهاني و هذا الكتاب في الأصل رد على أقدم كتاب تعرض لشرح شعر المتنبي و هو كتاب الفسر لابن جني فقد تعرض الإمام إلى التعليق على كثير من المواضع النقدية و اللغوية في هذا الكتاب و شرح الألفاظ الغريبة مما يدلك على دقته في تحقيق النصوص و إحاطة واسعة بلسان العرب . و للإمام بعد ذلك كتابان آخران أحدهما تحقيق كتاب قلائد العقيان للفتح بن خاقان الإشبيلي الأندلسي والثاني شرح لمقدمة شرح المرزوقي لحماسة أبي تمام .إذ نالت مقدمة هذا الكتاب شهرة فائقة في ميدان النقد العربي جعل النقاد يهتمون بها و كأنها جزء مستقل عن الكتاب الأصلي كما اشتهرت مقدمة ابن خلدون الشهيرة و كأنها مستقلة عن كتابه ، فشرح الإمام مقدمة شرح الحماسة و بين ما تضمنته من الأسس التي يتبعها القديم الشاعر العربي القديم. إن مؤلفات الإمام ابن عاشور الأدبية و اللغوية كثيرة جدا و إن جهوده في العناية باللغة العربية لا يمكن إنكارها أو التقليل من أهميتها و لا عجب فإن كبار العلماء عند المسلمين كانوا أئمة في علوم متنوعة فهذا الإمام يصدق عليه قول الشاعر مادحا كالبدر من حيث التفت وجدته يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا. إبن عاشور مجدد علم المقاصد يعد العلامة بن عاشور مجدد مقاصد الشريعة في العصر الحديث، تتمة للجهد الذي قام به الإمام الشاطبي-ت 790ه الذي شهد علم المقاصد على يديه تطورا نوعيا لم يُسبق إليه، فخصص الجزء الثاني من كتابه "الموافقات في أصول الشريعة" للمقاصد الشرعية، فجمع شتاتها وشيد بنيانها وأصل مسائلها ومثّل لها وفصّل مباحثها ووسّع مجالاتها وأشار إلى كلياتها وقواعدها ووصل بها إلى درجة الإبداع. و الكثير من الباحثين يعتبرون الشاطبي مبدعا لعلم المقاصد بل الشاطبي نفسه يقول أنه أتى بما لم يسبق إليه، وفي الحقيقة أن عمله تتمة وتتويج لجهود العلماء قبله كالجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وابن الحاجب وابن تيمية وشيخه أبي عبد الله المقري الجزائري، إلا أن المقاصد عند هؤلاء - رغم أهميتها - كانت في شكل إشارات وتلميحات متناثرة إلا ما كان من الإمام ابن عبد السلام الذي ألف كتابا في المصالح والمفاسد بعنوان "قواعد الأحكام في مصالح الأنام". ولكن فضل الشاطبي أنه جمع ما كان متناثرا من المقاصد وعمق مسائلها وأضاف إليها أبحاثا وعناصر جديدة تعتبر خلاصة نظره الاستقرائي، ولفت انتباه العلماء إلى أهميتها الشرعية في مجال الفهم والاستنباط والاجتهاد والتطبيق. ثم وقع بعد الشاطبي انقطاع في مجال البحث والتأليف في المقاصد وبقيت فيه على الحال التي تركها فيه إلى غاية العصر الحديث حيث جاء العلامة ابن عاشور فجدد العمل فيها فعمل من خلال كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية" على بناء أركانها، وتحرير مسائلها و وتوطيد أسسها وقواعدها، ودعا إلى أن تفرد المقاصد فتكون علما مستقلا عن علم أصول الفقه، كما بين أهمية المقاصد بأنها الكفيلة على حسم الخلاف بين المجتهدين، وتجاوز التعصب للآراء والمذاهب، وتكون محل اتفاق بين العلماء يصار إليها عند الاجتهاد والاستنباط، ويتحاكم إليها عند الاختلاف فيقول: "فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة و أن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر و النقد فتنفي عنها الأجزاء الغريبة التي علقت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه و النظر ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، و نترك علم أصول الفقه على حاله تستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية ونعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير منزو تحت سرادق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة فنجعل منه مبادئ لهذا العلم الجليل علم مقاصد الشريعة". وقد تميز منهجه في المقاصد بأن قسّمها المقاصدَ إلى مقاصد عامة ومقاصد خاصة ووضع تعريف لكل قسم ، وقد بدأ في كتابه بمقدمات تناول فيها إثبات المقاصد والحاجة إلى معرفتها ومراتب الناس في تعلمها وطرق معرفة المقاصد ومراتب المقاصد ومسألة تعليل الأحكام. فأما القسم الأول فتناول فيها أوصاف الشريعة وركز على وصف الفطرة كأساس للمقاصد كما نبه إلى الحرية كمقصد لا يقل أهمية عن الكليات الضرورية الخمس، وبيَّن مفهوم المصلحة والمفسدة وتقسيمات المصلحة، ومقصد التخفيف والتيسير. أما القسم الثاني وهو المقاصد الخاصة فبين فيه المقاصد الخاصة بأحكام الأسرة والتصرفات المالية، والمعاملات المنعقدة على عمل الأبدان، ومقاصد أحكام التبرعات، ومقاصد أحكام القضاء والشهادات ومقاصد العقوبات. وهذه المقاصد الخاصة من أهم ما أبدع فيه ابن عاشور والتي فتح فيها الطريق للباحثين في التوسع فيها وإفرادها بالتأليف و تجلى ذلك في كثير من الرسائل الجامعية. وقد وجد لأفكار ابن عاشور صدى في الأوساط العلمية قبدأت جهود الكثير من المعاصرين تنطلق في التأليف في مجال المقاصد ومنهم أحمد الريسوني، وإسماعيل الحسني، وعز الدين بن زغيبة، ويوسف حامد العالم، ومحمد سعد اليوبي. ومعظم الذين كتبوا في المقاصد من المعاصرين إما مستفيدا من الشاطبي أو من ابن عاشور أو منهما معا.ويبقى جهد هؤلاء ينتظر من يستفيد منه ويؤسس عليه، ويوظفه في مجال فهم أحكام التشريع الإسلامي، والاستنباط والاجتهاد، واستيعاب قضايا الزمان والمكان. ولعل من أسباب تخلف المسلمين وتخبطهم في اضطرابات فكرية وسلوكية هو عدم وعيهم الكافي بمقاصد شريعتهم، ماجعلهم لا يحسنون مواجهة التحديات وترتيب الأولويات، فكان ذلك ثغرة للأعداء لاتهام الإسلام بالجمود والعجز. فكلما زاد وعي المسلمين بمقاصد الدين زاد تمسكهم بإسلامهم، وتمكنوا من تحقيق التناغم بين سنن الله في الآفاق والأنفس وسننه في التشريع.