الكاتبة الفنلندية ناتاليا باشماكوف تستعيد ذكرياتها مع الكاتب الجزائري في حوار للنصر محمد ديب كان يحمل هويته حيثما ارتحل وعشق ليالي فنلندا التي لا يكسوها الظلام '' موطن الحدود... تلك هي حقيقة فنلندا، ترحب بك من ساحل... يطفو بعيدا عن البحر، وحيثما اتجهت في هذه البلاد، تصادف تجربة فريدة، هي ظاهرة الندرة ...ندرة الأشياء، ندرة الأفراد... فجأة، تصادفك فضاءات كثيرة، هواء نقي خالص، سماء أوسع وكذلك صمت، أكثر من أي مكان أخر. وفي غمرة هذه الفضاءات المميزة، يلفك الإحساس، إحساس مثير، وكذلك العزلة. تلك تجربة فريدة فعلا... كل هذه التجارب هي موضوع الأدب الفنلندي... والغوص في هوية هذا الأدب، هو الإنصات إلى كلمة الآخر...'' حاورها بهلسنكي: حمزة عماروش محمد ديب (مجلة أوروبا عدد جوان، جويلية 1985) لم يكن من السهل أن تظفر بحوار مع الكاتبة والمترجمة الفنلندية ناتاليا باشماكوف. أجندتها المليئة بالمواعيد والترحال بين مختلف دول العالم أخر موعدي معها، ولكن موضوع الحوار كان حافزا مهما للمترجمة كي تعدّ نفسها لتغوص في دفاترها التي مضى عليها قرابة أربعة عقود، فجاءتنا بأرشيف نادر وذكريات متعثرة أحيانا، ولكنها ثمينة. أرشيف يؤرخ لزمن ''لا تزال تشتاق إليه'' مع الكاتب الجزائري الراحل محمد ديب، إحدى القامات الأدبية التي تركت بصماتها في الأدب العالمي. ناتاليا باشماكوف هي أستاذة جامعية فنلندية من أصل روسي. تجيد الحديث بستة لغات (الفنلندية، الروسية،الإنكليزية، السويدية، البولندية والفرنسية)، كانت رئيسة قسم وأستاذة اللغة الروسية بدائرة اللغات الأجنبية بجامعة جوانسو، وكذلك أستاذة محاضرة بدائرة اللغة والثقافة الروسية بجامعة تامبيري بفنلندا. نشرت باشماكوف العديد من المقالات في الفن والأدب الروسي، ومن تخصصاتها البحث في الثقافة الروسية للمهاجرين الروس الأوائل إلى فنلندا، وكذلك لها بحوث في استراتيجيات النمط المعيشي للقرى السوفياتية بمقاطعة بسكوف على الحدود الروسية الإستونية. نشرت العديد من المجلدات التي تضمنت بحوثها الأكاديمية ومحاضرات جامعية هامة. إلى جانب ذلك، لها عدة مؤلفات وتراجم أدبية عديدة. ترجمت إلى اللغة الفنلندية من ست لغات، وترجمت من الفنلندية إلى الروسية، الفرنسية والبولندية. هذا باختصار مسار الكاتبة باشماكوف التي تعرفت على محمد ديب منذ السبعينات، وفي هذا الحوار ستروي أهم اللحظات التي عاشتها قرب الكاتب وكذا أثناء ترجمتها لروايتي الدار الكبيرة والحريق. كانت الساعة تشير إلى تمام الخامسة بعد الظهر، دخلت الكاتبة إلى مقهى ''إسبريسو'' بوسط العاصمة الفنلندية هلسنكي، وكنت بانتظارها في الموعد. وفي حرص الإسكندنافيين ، بادرتني بابتسامة عريضة سريعة، ثم ما لبث كلانا أن طلب شايا ثم جلسنا إلى طاولة باحدى أركان المقهى، فقلت لها مازحا: حين طالعت سيرتك كنت أتصور أنك عجوز لا تقوى حتى على السير. انفجرت ضاحكة ثم سرعان ما استعادت هدوءها : شكرا. في الحقية تقاعدي كأستاذة جامعية لم يؤثر على ريتم العمل والسفر الذي اعتدت عليه منذ مدة. إنه من الجيد أن يبقى الإنسان نشيطا حتى يواكب كل ما يؤثر على بيئته من مستجدات. حسنا، دعني أسألك قبل أن تطرح أسئلتك (مبتسمة): كيف حصلت على إيمايلي، خاصة أنه شخصي ولا يملكه إلا المقربون. فقاطعتها مازحا: بالضبط. مقربوك من معهد ألكساندري هم الذين سربوا لي عنوانك. لقد سبق وأن راسلت الكاتبة عن طريق إيمايلها القديم ولكن مضت مدة طويلة دون أي جواب، فقررت البحث عنها بين أروقة جامعة هلسنكي، فكدت أيأس حين أخبرت بأنها تقاعدت منذ مدة وأنها غيرت إيمايلها. كنت أتصور أنها انقطعت عن أي نشاط أو كتابة. لم تفوت باشماكوف موعد الحوار دون أن تأتي ببعض الأرشيف الذي 'وجدته بعد جهد'' حتى تدعم شهاداتها عن محمد ديب. كان بحوزتها مجموعة مهمة من المقالات والتراجم التي كتبتها رفقة ديب خصوصا في الثمانينات. سألتها أول سؤال: متى التقيت محمد ديب لأول مرة؟ التقينا لأول مرة سنة 1975 بهلسنكي. كانت أول مرة يزور فيها ديب فنلندا. اتذكر جيدا تلك المناسبة. كنت حينئذ سكرتيرة متطوعة في ملتقى لاهتي للكتاب العالميين.ومن بين الكتاب الذين حضروا أيضا أتذكر الشاعر والمترجم الفرنسي أوجان جيلفيك الذي ساهم كثيرا رفقة ديب في ترجمة الأدب الفنلندي إلى اللغة الفرنسية فيما بعد. متى تأسس ملتقى لاهتي للكتاب العالميين ومن أشرف على أنشطته خلال تلك السنة؟ تأسس الملتقى سنة 1963 ونظم أول ملتقى في نفس السنة. كانت مدينة لاهتي هي التي تمول أنشطة الملتقى (تقع حوالي 100 كم شمال هلسنكي) . ورغم مرور عقود من الزمن على ذلك الزمن الجميل، إلا أنني أتذكر كيف كنا نشتغل بشكل دؤوب ليل نهار دون أي مقابل لإنجاح التظاهرات الأدبية التي كنا نقوم بها وكنا نحرص على راحة مختلف الكتاب الذين كانوا يأمون فنلندا من مختلف بقاع العالم. كنا متطوعين من ستة إلى عشرة أشخاص. لقد كان ملتقى سنة 1975الذي نظم هنا بوسط العاصمة هلسنكي حدثا مميزا تلك السنة لأنه جاء في عز سنوات الحرب الباردة، وكذا لحساسية عنوانه: الأدب والهوية الوطنية. كنا نشتغل آنئذ في بناية مهترئة تعود إلى القرن التاسع عشر، وقدمت وقتها حوالي خمسة عشر دعوة رسمية لمختلف الكتاب والناشرين الذين حضروا من الإتحاد السوفياتي،ألمانيا، فرنسا، من الدول الإسكندنافية... إلخ وكان من بين أهداف التظاهرة، هو أن يلتقي الكتاب والناشرون فيتحدثون وجها لوجه عن مشاكل النشر، استراتيجياته، ناهيك عن الصفقات العديدة التي كانت تتم بينهم على هامش تلك الملتقيات. وكيف جاءت فكرة ترجمة روايات محمد ديب ومن كلفك بهذه المهمة؟ تعود فكرة الترجمة إلى الصحافي والناشر الفنلندي يوسي سوريونان، أحد مسؤولي دار النشر غوميروس خلال السبعينيات من القرن الماضي. كان يوسي حاضرا خلال أشغال الملتقى وكان أيضا عضوا في لجنة الترجمة، لقد أبرز اهتماما واضحا بمحمد ديب واحتك به في تلك المناسبة. كانت مداخلة ديب مهمة لكونه كاتبا يكتب بلغة غير لغته الأم. كان هناك جدال واسع في هذا الشأن على هامش الملتقى. كان ديب رجلا هادئا، لا يتكلم كثيرا، لكن إن تدخل في مسألة ما، يسوق الحجج بشاعرية مذهلة ينساق وراءها المستمع. وعلى هامش الحديث، عرض يوسي على ديب ترجمة رواياته مقتنعا أن كتابات هذا الأديب المتشبع بثقافة ''إيغزوتيكية'' لا شك أنها ستشكل منعرجا هاما في الثقافة الفنلندية، وستؤثر في القارئ الفنلندي التواق لكل ثقافة تأتي من الجنوب. اهتم ديب بالعرض واقترح علي شخصيا أن أقوم بالترجمة، لست أدري لماذا أنا بالضبط، لكن أغلب الظن لكوني أجيد اللغة الفرنسية وكنت أتردد على باريس كثيرا. كيف وافقت على العرض خصوصا وأن البيئتين المتوسطية والإسكندنافية متوازيتين تماما؟ صحيح، لقد كان العرض بمثابة تحدّ بالنسبة لي، خاصة أن ديب كان إنسانا لا يجامل، ويبدي رأيه صراحة في ما لا يعجبه. كانت مغامرة مليئة بالتحديات ولكنها أيضا لحظات جميلة لا تنسى. أعترف أنني لم أكن أترجم بريتم سريع إلا أنني أصررت على إتقان هذه المهمة. كنت أترجم حوالي ثلاث صفحات فقط في اليوم. تصور أنني كنت مضطرة كي أتصل بديب مرارا للاستفسار عن شيء أو توضيح جملة ما. لم تكن لدينا الأنترنت وغيرها من وسائل الإتصال الحديثة التي ننعم بها الآن. أحيانا كنا نتحدث هاتفيا من فنلندا إلى باريس لنوضح جملة ما، وتصور كم كان ذلك مكلفا (تنفجر ضاحكة). ولكوني كنت أقيم أيضا في باريس، فقد سبق وأن التقينا هناك مرات عديدة لمراجعة فصل ما من بعض فصول الترجمة معا، كنت دائمة الترحال، وكنت أنهل من كل بيئة أقيم فيها لفترة من الزمن. في رأيك، كيف يمكن للمترجم أن يوفق في ترجمة نص يأتي من بيئة متوسطية تختلف جذريا عن النمط المعيشي الإسكندنافي؟ ليس من السهل أن تحافظ على ريتم الترجمة من البداية إلى النهاية. إن المترجم المحترف لا يحدث أثناء الترجمة خللا قد يعيق القاريء من مواصلة القراءة والمتعة، يجب أيضا مراعاة بيئة القاريء الذي تترجم إليه. أعطيك مثالا، عندما ترجمت رواية الدار الكبيرة إلى الفنلندية غيرت العنوان من الدار الكبيرة إلى '' في الساحة'' وأعني بها ساحة دار السبيطار. قد يبدو لك العنوان غريبا، ولكنه يرتبط بثقافة الأفراد الإسكندنافيين، أما الدار الكبيرة فلا تكاد تعني شيئا للمواطن الفنلندي، ليس لها أي مدلول متناسق مع البيئة الجيوسوسيولوجية لدول الشمال. أنا كمترجمة، أفهم جيدا معنى العائلة الكبيرة أو الدار الكبيرة في مجتمعات دول شمال إفريقيا مثلا، ولكن العنوان قد يبدو غريبا للقاريء العادي هنا. أعطيك مثالا آخر، عندما ترجمت رواية الحريق، وجدت أن العنوان قد يحدث خلطا للقاريء الفنلندي. أتذكر أنه كان هناك فيلم فنلندي أثناء السبعينات عنوانه الحريق، وكان الفيلم ذائع الصيت، تصور معي إن حافظت على نفس العنوان، سيحدث هناك خلط قد يفقد الرواية أهميتها. أشير هنا أن الناشر يوسي سوريونان هو أيضا طلب أن أغير العنوان ووافقت فورا لكوننا كنا نحمل نفس التصور. أي عنوان حملته الترجمة الفنلندية لرواية الحريق فيما بعد؟ عند قراءتي للنص جيدا، وجدت أن الرواية تمهد لحدث ما، نلاحظ بوادر الحرب في كامل النص. ديب وصف الجبال أيضا تتهيء لاحتضان شيء ما. كانت الأحداث تدور في صيف متسارع يعجل بالقارئ إلى حدث لم تتضح معالمه بعد. وحتى الناشر يوسي سوريونان قال لي أن كلمة الحريق لا تعني شيئا في القاموس الأدبي الفنلندي. وعليه أطلقت على الترجمة تسمية: ''الجبال تنتظر'. في الحقيقة هذا العنوان مرتبط ببعض الأساطير الفنلندية، فلا تتعجب (تبتسم). كيف كان رد فعل القراء في فنلندا بعد صدور الترجمة الأولى؟ بالنسبة للكتاب والشعراء ومتتبعي الشأن الثقافي فقد أعجبوا بالترجمة لكون أسلوب الرواية وأمكنتها يختلفان جذريا عن الروايات المعتاد قراءتها في الشمال. لقد كان صدور الترجمة حدثا مميزا، وأذكر على سبيل المثال، أن إحدى المكتبات هنا بفنلندا (لا أذكر المكان بالضبط) قدمت دعوة لديب لتقديم الرواية للقراء الفنلنديين. وبالفعل حضر ديب وكان الجمع غفيرا، لم أحضر اللقاء ولكن لست أتذكر بالضبط ما منعني من الحضور . في الحقيقة أعتقد دائما أن الروايتين لو ترجمتا مثلا في الخمسينات مباشرة عقب صدورهما، كان الصدى سيكون أكبر. كانت فنلندا لا تزال بلدا زراعيا وكان المفهوم الزراعي يطغى على كل الميادين بما فيها الأدب. في السبعينات كانت الصناعة قد تطورت في فنلندا وأصبح البلد صناعيا، وعليه أخذت المواضيع ذات البعد الزراعي والريفي تتقلص شيئا فشيئا في القاموس الفنلندي الجديد. (تصمت قليلا كمن يبحث عن ذكريات بعيدة).... دعني أضيف شيئا مهما... تفضلي: أتذكر أيضا أن أحد النقاد أشار في تعليقه على الترجمة أنه على مسؤولي دار النشر أن يحتفظوا بالمترجمة لأنها نقلت النص بأسلوب سلس يوحي للقارئ أن النص كتب أصلا باللغة الفنلندية . لقد أشاد بالترجمة مثلما أشاد بها الكثير أيضا. وهل احتفظت بك دار النشر فيما بعد؟ (تضحك) لا. لم يأخذوا بالنصيحة للأسف... لنعد إلى الترجمة، هل وجدت صعوبة في ترجمة كلمة أو جملة معينة من النص الأصلي إلى الفنلندية؟ أقول أن المترجم يجب أن يتقبل كل الثقافات وينصهر في كل كيان. فعند ترجمة نص ما، يجب أيضا مراعاة بيئة القاريء بعين الإعتبار، أقصد أن القاريء لا يجب أن يشعر بغرابة النص، ينبغي على المترجم أن يخلق ألفاظا مواتية يربط من خلالها بين بيئة النص المترجم وبيئة النص الأصلي. دعني أجيبك وأقول نعم، هناك العديد من الألفاظ التي لم يكن من السهل إيجاد مرادفا لها في اللغة الفنلندية. ولكن من باب البحث، اعتمدت على صيغتين: إما أن تسمى الأشياء بأسمائها الأصلية مع إضافة وصف معين يزيد من متانة الوصف، وإما أن تجد للكمة الأصلية مرادفا، ثم تضيف فاصلة متبوعة بالكلمة الأصلية. كنت أتفادى الهوامش لأنها تشوش أحيانا على القاريء خاصة إذا كان النص حافلا بمفردات من هذا النوع. فمثلا كلمة ''الحايك'' و''البرنوس'' و''الجلابة'' '' هي مفردات جزائرية خالصة يجب ترجمتها وفق ما أشرت إليه وإلا فإن النص المترجم سيفقد مذاقه أيضا. قلت منذ قليل بأنك التقيت ديب مرارا للاستفسار عن كلمة أو جملة ما. هل من مثال؟ أجل، كنا نلتقي وساعدني كثيرا في الترجمة. كان صبورا ومتأنيا، يأخذ الوقت كاملا كي ينجز عملا متقنا.في البداية لم نكن نعرف بعضنا جيد، هاتفته مرارا أثناء إقامتي بباريس، وإلتقينا عدة مرات لنناقش فصلا أو فقرة تحتاج إلى تفسير. (وهنا عمدت إلى ملف كان بجانب الطاولة وأخرجت منه بعض المسودات التي استعملتها أثناء الترجمة) أنظر، هذا رسم تقريبي رسمه محمد ديب نفسه كي يفسر لي معنى كلمة '' لابارات '' بالفرنسية. مثلا في رواية الحريق توجد جملة '' كانت زهور في البيت تهز ممخضة اللبن بيديها ذهابا وإيابا ، هزا يراوح ثدييها ذات اليمين وذات الشمال ...'' التقيت ديب في باريس وأبديت استغرابي من معنى الجملة. نحن في فنلندا كنا نستعمل آلة تقليدية ذات شكل عمودي نمخض فيها اللبن، عكس الممخضات ذات التصميم الأفقي التي تستعملها قديما مجتمعات شمال إفريقيا. استغربت كيف يمكن لحركة خفيفة عمودية أن تهز ثديي امرأة. وأثناء لقائي مع ديب، قام كلانا برسم ''لا بارات'' كلا حسب بيئته، وحينئذ فهمت ما كان يقصده من تلك الجملة. أعطيك مثالا آخر عندما يصور ديب الأطفال يقطفون التين، في فنلندا مثلا لا يوجد هذا النوع من الفاكهة، وعليه، يجب على المترجم أن يجد كلمات مناسبة لا تشوش على القاريء حيث يربطه من خلالها بتلك البيئة المغاربية دون إخلال بالقاموس الجيوثقافي للقاريء، في مثل هذه الحالات ينبغي تفادي ترجمة المعنى على حدة. مثال آخر، يذكر ديب في روايته كلمة الخبز الأسود، حين تكلمنا في هذا الموضوع اكتشفت أن الخبز الأسود الفنلندي ليس نفسه الذي يقصده ديب، وعليه يجب ترجمة المعنى الحقيقي وإلا فإنك قد تعطي للقاريء معنى يختلف عن المعنى الأصلي. أتذكر جملة أخرى، يقول ديب '' كان البرد قارسا، تهتز الأحجار لشدة برودته'' هذه مثلا استعارة ليس لها محل في التعبير الفنلندي.يستحيل تصور هذا المعنى في دول الشمال مثلا رغم برودة الطقس و الثلوج طوال نصف السنة. وماذا عن ترجمة رواية النول، آخر رواية من ثلاثية الجزائر؟ آه... أتأسف أن مشروع ترجمة هذه الرواية لم يكتمل. كان الأمر سيكون رائعا لو تمت ترجمة الثلاثية كاملة. في بداية الأمر أعطى لي الناشر الضوء الأخضر لبدء الترجمة ولكنه غير رأيه فيما بعد. والمؤسف أني تخليت عنها بعدما بدأت الترجمة. صراحة لست أدري ما السبب الذي جعل الناشر يتخلى عن المشروع. ألا تعتقدين أنه سبب تجاري بحت؟ أغلب الظن نعم. أعتقد أن الناشر يوسي سوريونان لم يكن يرى في ترجمة هذه الرواية مكسبا تجاريا ناجحا. كان يقول لي إنه كتاب للأنتلجانسيا والنخبة فقط. في ثمانينات القرن الماضي ترجمت رفقة ديب العديد من الأشعار الفنلندية إلى اللغة الفرنسية للمجلة الأدبية ''كتب من فنلندا''. كيف كانت التجربة؟ صحيح، كانت تجربة مميزة إكتشفت من خلالها جوانب عديدة في شخصية الكاتب. ولكن قبل ذلك زار ديب فنلندا مجددا في صائفة 1980، والتقط لي المصور مارتي هالما صورة نادرة رفقة ديب بوسط العاصمة هلسنكي، ثم نشرت الصورة بجريدة ''فنلندا الجديدة'' في 29 جوان من نفس السنة. كانت الصورة مرفقة بمقال هام أعده الصحافي كايو كيتونان عن ديب يعنوان: ''كيف يصبح معارض الكولونيالية صوتا للهوية الوطنية'.' وفي نفس العدد، كتبت الصحافية الفنلندية المقيمة بباريس ميريا بولغار، مقالا عريضا تضمن شهادة بيار غامارا مدير نشر المجلة الأدبية ''أوروبا'' عن محمد ديب، ووصفه بالكاتب الكبير. لقد لقي ذلك العدد صدى كبيرا لدى النخبة والقراء الفنلنديين، فذاع صيت الكاتب أكثر وزاد الإهتمام الإعلامي به في البلد خاصة أن روايتيه المترجمتين كانتا متواجدتين في رفوف المكتبات الفنلندية. وفي نفس السنة (1980) أعددت رفقة ديب ملفا حول الكاتب والناقد الفنلندي بانتي هولابا نشر بالمجلة الأدبية ''كتب من فنلندا'' في عددها 143، حيث ترجمنا من خلاله مختارات شعرية له. وكيف كانت علاقة هولابا بمحمد ديب؟ كان ديب صديقا لهولابا مثلما كانت له علاقات مع كتاب فنلنديين آخرين. كانت علاقته بالكتاب يطغى عليها الجانب المهني والأدبي. الشعراء عادة لا يتكلمون كثيرا ويترجمون مشاعرهم من خلال ما يكتبون. ديب كان يحب تلك السمة وكان أيضا لا يسرف في الحديث. بالنسبة لهولابا الذي كان وزيرا للثقافة في فنلندا سنة 1972 ولكن فترته لم تتجاوز الستة أشهر. لقد ترجم للعديد من الكتاب الفرنكفونيين مثل كلود سيمون، ناتالي ساروت، آلان روب غريلي، كلود سيمون، ألفرد جاري، كما ترجم أيضا مختارات شعرية لمحمد ديب. من هم الكتاب الفنلنديين الآخرين الذين ترجمتما أعمالهم إلى الفرنسية؟ في العام 1983 كنت لا أزال أعمل في مجلة ''كتب من فنلندا''، فعرضت على ديب أن نعد ملفا عن الكاتب الفنلندي أينو سايسا. كان لا يجامل في الأدب، وافق على الفكرة وأعددنا شبه أنطولوجيا عن الكاتب نشرت في العدد171 . كانت بيوغرافيا موسعة مرفوقة بترجمة قصته القصيرة ''الشتاء في الجزيرة''. كانت مساهماتنا في المجلة مهمة خاصة أن الكتاب الذين كنا نقدم لهم كانوا لا يزالون في أوج العطاء. أما سنة 1984 فقد كانت سنة مهمة للأدب الفنلندي، حيث توج الكاتب بافو هافيكو بالجائزة الأدبية وستادت (كان الكاتب الجزائري مولود معمري عضوا في لجنة التحكيم) فتم إعداد ملف عن الكاتب نشر بمجلة ''كتب من فنلندا'' في عددها 18 2، تضمن حوارا له مع الصحافي فيليب بينهام، وفي نفس الملف ترجمت رفقة ديب مختارات شعرية لهافيكو من مجموعته ''الموطن الأصلي''. أشير في هذا الصدد أن ديب تحصل على المرتبة الثانية في جائزة نوستادت لتلك السنة. في سنة 1985 أشرف ديب على إنجاز ملف هام عن الأدب الفنلندي نشر بالمجلة الأدبية ''أوروبا''، هل ساهمت في إعداد ذلك الملف؟ طبعا، صدر ذلك العدد في صيف 1985 (جوان جويلية) بعنوان ''أدب فنلندا''. لقد ساهم إلى جانب ديب العديد من الصحافيين والكتاب في إعداد الملف. تمثلت مساهمتي في ترجمة مقال مطول للكاتبة كيرستي سيمونسوري من الفنلندية إلى الفرنسية، وكان عنوان المقال: أفاق الشعر الفنلندي المعاصر، حيث تمت مراجعته من قبل ديب فيما بعد. لقد ساهم في ذلك العدد الذي أشرف عليه ديب، العديد من الكتاب الفنلنديين إلى جانب بيار غامارا الذي كان رئيسا للتحرير، وأذكر منهم الأستاذ ماتي كلينغ، بيكا سوهونان، بيكا تاركا، وكذا الصحافية الفنلندية ميريا بولغار المقيمة في باريس. كمساهم أيضا الشاعر الفرنسي أوجان جيلفيك، لوسي ألبيرتيني، الأكاديمية والمترجمة جوسيلين فيرنانداز،أليفيي ديسكارغيس، والجامعية تيرتز أمينوف، إضافة إلى الكاتب الفنلندي بونتي هولابا. بالنسبة لمحتوى العدد، فقد تضمن دراسات وقضايا، الشعر، القصة و المسرح. كان ذلك العدد أجمل هدية يقدمها محمد ديب للأدب الفنلندي، حيث ساهم في التعريف به وتقديمه للقراء الفرنكوفونيين، فلقي تجاوبا كبيرا وتكلمت عنه العديد من الصحف فيما بعد. من تذكرين مثلا من الشعراء الذين نشرت أشعارهم في هذا العدد؟ أذكر مثلا ابونتي ساريتسا، بافو هافيكو الذي توج حديثا بجائزة نوستادت،، بونتي ساريكوسكي وميركا ريكولا التي عشق ديب كثيرا أسلوبها في الكتابة الذي يتسم بالخفة والجمل القصيرة. في رأيك ما سر كل هذا الإرتباط بين ديب وفنلندا؟ بصراحة كنا نلاحظ أن في داخل ديب إرتباط وجداني مميز بفنلندا. كان مثلا يحب الطبيعة الخلابة التي كانت تستهويه كثيرا. وحينما يأتي صيفا كان يعشق الليالي التي لا يكسوها الظلام، مثلا تستطيع أن تلعب كرة القدم في منتصف الليل وسط الضياء وكأنك في عز النهار. أذكر بالأخص تلك الأيام الممتدة بين 21 و 24جوان والتي كان ديب حاضرا فيها ذات سنة. كانت تلك الليالي من أجمل الليالي التي عشقها ديب، تستهويه كثيرا وتمنحه لا شك وحيا وشاعرية قوية. كان متواضعا، منضبطا ويسعى دائما أن يكون في مستوى القراء. كان يحترم كثيرا أولئك الذين يتوافدون على محاضراته وملتقياته الأدبية التي كان ينشطها. إلتقينا آخر مرة في نهاية التسعينات بباريس. وعقب وفاته ببضعة أيام قرأت مقالا نشر بجريدة هلسنكي سانومات اختصر أهم محطاته الإبداعية وعرج على دوره في التعريف بالأدب الفنلندي من خلال العديد من الترجمات. هل قرأت لكتاب مغاربة آخرين؟ نعم قرأت العديد من الأشعار والروايات لكتاب مغاربيين آخرين (تصمت قليلا) أتذكر مثلا عندما زارت أسيا جبار فنلندا في إطار ملتقى لاهتي للكتاب العالميين، كنت في هلسنكي وتحدثت معها هاتفيا وتركت لي رواية لها. كنت مرتبطة بالعمل وللأسف غادرت فنلندا دون أن نجد وقتا للقاء والحديث. ذكرتني أيضا بالكاتب المغربي الطاهر بن جلون الذي كان صديقا حميما لديب، هو أيضا زار فنلندا وكان أحد ضيوف ملتقى لاهتي في إحدى المرات، لست أتذكر السنة بالضبط طالما أن العديد من الكتاب كانوا يزورون البلد في نفس الإطار وللأسف لم يكن هنالك كامل الوقت للحديث مع كل كاتب طالما أنني كنت مرتبطة دائما بالعمل الأكاديمي والملتقيات والسفريات التي تأخذ مني كل الجهد. حسنا، كلمة أخيرة قبل أن نختم هذا الحوار؟ أنا سعيدة حقا بهذا اللقاء لأنه ذكرني كما قلت لك قبل قليل بزمن جميل كانت فيه متعة الإبداع والكتابة لا تضاهيها أي نشوة طالما أننا كنا نتطوع حينئذ من أجل الأدب وكان ذلك يأخذ كامل وقتنا. في الأخير أقول أن ديب كاتب فذ يستحق كل التقدير والإعتبار، ويكفيه أنه كان يحمل هويته أينما ارتحل وابداعه مثل وطنه في كل بقعة. شكرا جزيلا على هذا الحوار. العفو، تحياتي إلى أرض الجزائر التي طالما كان ديب يحدثنا عنها.