النصوص المترجمة إلى العربية تمر في صمت وكأن لا أحد يقرأ في هذا البلد عبر الروائي والمترجم محمد ساري عن سخطه من الصمت القاتل الذي تواجه به النصوص الجزائرية عند ترجمتها إلى العربية، وقال أنه ترجم 15 عملا لكتاب جزائريين أثارت حين صدورها بالفرنسية جدلا ونقاشا، لكنها لم تثر أي اهتمام لدى صدورها بالعربية، وكان لا أحد يقرا في هذا البلد بما في ذلك الكتاب الذين لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء قراءة هذه الأعمال. ويتحدث ساري في هذا الحوار عن تجربته في ترجمة ثلاثية الشمال لمحمد ديب التي اعتبرها تحد في نقل أجواء شعرية غلى العربية دون المساس بقيمتها الجمالية. حاوره: سليم بوفنداسة بداية، ما الذي دفعك إلى “ثلاثية الشمال” ، وهل تشعر أن محمد ديب قد ظلم حين ربط اسمه بالثلاثية الأولى التي تجاوزها فنيا منذ “من ذا الذي يذكر البحر”؟ اكتشفت روايات محمد ديب، كأغلبية القراء الجزائريين، عبر ثلاثية الجزائر وأنا طالب في الثانوي. وتركت شخصياتها أثرا كبيرا في نفسي. حينما كنت حديث العهد بالقراءة الأدبية الرفيعة، فتعلّمت الأسلوب الواقعي والوصف الدقيق للأشياء والحوار اليومي اللاصق بالحياة. ولكن حينما انتقلت إلى قراءة “من ذا الذي يتذكر البحر” و”الركض في الضفة المتوحشة” وجدت صعوبة في البداية. ولم أستوعبها إلا بعد سنوات من ذلك، بعد نضج تجربتي في القراءة الأدبية. حينذاك، أدركت أنّ محمد ديب قد تجاوز نفسه، ونضج شعريا وسرديا، وما فتئ يفاجئنا بتجاربه الجديدة إلى آخر ما نشر وبالأخص “لايزاه”. فعلا لقد ظُلم محمد ديب حينما أٌلصِق بثلاثية الجزائر التي تعتبر مرحلة شبابه المرتبطة بالكتابة الواقعية والملتزمة بالقضية الوطنية. ولكن من الإجحاف أن يُختزل محمد ديب في هذه التجربة الأولى فقط. كتبت الثلاثية بلغة عالية الشعرية، حيث يبدو كل نص كنشيد ملحمي أو مقطوعة موسيقية تُعاش ولا تُحكى، كيف تجاسرت على فعل الترجمة ؟ صحيح أن لغة هذه الثلاثية (ثلاثية الشمال مثلما تسمّى) غير لغة واقعية الثلاثية الأولى. الأسلوب غاص بالصور الشعرية المنتقاة، فيها من التجريد وتدوير الكلام، والغوص في اللعبة الكلامية بواسطة التكرار والسجع ودفع الصورة إلى أقصى ما تحتمل من الدلالات التي ليست دائما واضحة المعالم في معناها الفكري أو حتى الإحساسي والعاطفي. تجربة تشتغل على اللغة التي تنساب كسمفونية موسيقية قد تُقرأ لذاتها وتستقل بكينونتها، وليست بحاجة إلى مرجع خارجي (سياسي، جغرافي، ديني، اجتماعي...) لتكشف دلالاتها للقارئ. الترجمة عندي تحدٍ من نوع آخر. كيف يمكن نقل هذه الأجواء الشعرية والسردية إلى اللغة العربية دون المساس بقيمتها الجمالية، دون تشويه أسلوب الكاتب، سواء في اختيار الكلمات، وصقل الجمل، والاستعمالات البلاغية والتركيبية الخاصة به؟ إنها مغامرة محفوفة بالمخاطر ولذلك وجب مني الحذر والحيطة والتأني في العمل الترجمي. وأتمنى أن أكون قد وفقت في الوفاء لعظمة الكتابة الديبية. كما أتمنى من النقاد المختصين في الترجمة أن يقارنوا النصين (الأصلي والمترجم) لتقييمه وتثمينه ووضعه في مكانه الذي يستحق. ثمة أجواء صوفية في الأعمال الثلاثة، بطل سطوح أرسول يخترع المحو والنسيان ويكتفي بما هو عليه، وفي “إغفاءة حواء” يتوحد صلح بفاينا توحدا صوفيا أو باتولوجيا لا يعادله سوى النزول من الحب في “ثلوج المرمر” (أو ثلوج من رخام ) التي تأخذ فيها محاورات الأب مع ابنته أبعادا خرافية. ألا تعتقد أن نصوصا من هذا النوع تقرأ في العربية أكثر من غيرها، وأن محمد ديب كتبها في ذهنه بلغة أجداده المتصوفة قبل أن “يترجمها” كتابة إلى الفرنسية؟ إنّ إدخال الأمثال الشعبية الجزائرية عبر الألغاز، وآيات قرآنية، لدليل على أن محمد ديب متشبع بهذه الثقافة العربية الإسلامية، ويعرف جيدا بنيتها وموسيقى لغتها. عند قراءتي للترجمة بقصد تصحيحها (سطوح أرسول) أدركت فعلا أن الأسلوب العربي يوجد أصلا في النص الفرنسي، لذلك يُقرأ بالعربية بانسياب ممتع، برغم طول بعض الجمل وتقطيعها، وهو غير وارد كثيرا في العربية. أما ما تعلّق بالشخصيات، فإن ديب في سطوح أرسول يتحدث عن فقدان الهوية ومعها الذاكرة، لأنّ “عايد” إيد، الشخصية الرئيسية يوجد غريبا منفيا في بلد غير بلده وثقافة غير ثقافته، فتعذّبه ذاكرته ويحلم بالعودة إلى شمس سطوح أرْسول. وكل منظر هناك يذكّره بمناظر الطفولة، بأمّه المحتضرة هناك، التي تنتظر عودته، وهو يتألم لأنه يعرف أنها ستموت دون أن تراه. في غفوة حواء، جرّب محمد ديب فكرة المعايشة بين امرأة من الشمال ورجل من الجنوب يعيش في بلد الصقيع، ولكنها معايشة مرّة، بها عقبات التواصل، والانهيار العصبي، وعدم التمكن من التواصل الحقيقي، برغم جميع المحاولا ت. إنها تجربة قاسية، تمكن الكاتب من إبرازها عبر أسلوب شاعري يزيدها تأثيرا. هل كان خروج الروائي محمد ساري من هذا “الحمام الفنلندي” كالدخول إليه؟ أي أثر تركته معايشة هذه الأعمال الرهيبة في انتقالها على يديك حرفا حرفا وصعقة صعقة من لغة إلى لغة؟ أكيد أن الدخول إلى الثلاثية ليس مثل الخروج منها، إن تمكنت فعلا من الخروج. لا أظن أنني سأتخلّص من أجوائها بسهولة. إن اشتغال ستة أشهر بمعدل أربع ساعات يوميا، وأحيانا أكثر، يملأك إلى حدّ الذوبان الكلي. لا أظن أنّ شلال الصور الشعرية قد يتوقف يوما من إنارة كتابتي، وقد يظهر تأثيرها في كتاباتي اللاحقة. لا شك أن ترجمة هذه الثلاثية إلى العربية ستكون حدثا أدبيا، لو حق الحق. ألا ترى أن هذه الأعمال سترفع السقف الفني للرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، بلغتها وموضوعاتها وخيالها المجنون الذي لا يحده حد، وبالمقابل ستجعل القارئ العربي يكتشف محمد ديب الحقيقي، الذي أختزل في “ثلاثية الجنوب” التي لا تعكس على الإطلاق تجربته. أتمنى أن يكون صدور هذه الثلاثية المبرمج في نهاية السداسي الأول من 2012 عند منشورات الشهاب حدثا أدبيا. وصحيح أيضا أن مثل هذه النصوص قد تجعل كتاب القصة والرواية يعيدون حساباتهم مع الكتابة، ويرفعون سقف الحد الأدنى المطلوب، خاصة أن الرواية الجزائري بالعربية بحاجة فعلا إلى دفع قوي كي تقتحم محافل الجوائز العربية. ولكن ما لاحظته أن ترجمات الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية وقد قمت بترجمة أزيد من 15 نصا من أجود النصوص، وقد ترجم أغلبها إلى لغات عالمية عديدة كروايات ياسمينة خضرا ومليكة مقدم وبوعلام صنصال وسليم باشي وأنور عبد المالك، فلم تثر النقاش المنتظر، بل أغلب الكتاب لم يبذلوا حتى عناء قراءتها، ولم تثر نقاشا نقديا ولا فكريا ولا أدبيا مثلما حدث عند نشرها بالفرنسية. أظن بأن الساحة النقدية الجزائرية أفرغَت من دلالاتها القاعدية ولم يعد هناك أيّ نص يثير النقاش. فما أكثر النصوص التي تنشر وتمر في صمت قاتل كأن لا أحد يقرأ في هذا البلد. شيء مؤسف حقا أن تمر نصوص هؤلاء الكتاب جميعا، المترجمة أو تلك المؤلفة مباشرة بالعربية، في صمت مطبق. فأين دور الصفحات الثقافية المنتشرة انتشار الفطريات؟ أين دور الجامعة التي تخرّج آلاف الطلية بالشهادات العليا الذين لم يقرأوا كتابا واحدا في مسارهم الدراسي؟ وأين دور أساتذة الأدب والنقد الذين تحولوا إلى ببغاءات يرددون دروسا أكل الدهر عليها وشرب وب... من فوق؟ فلا يلتفتون إلى ما ينشر حولهم من نصوص أدبية تحدثهم عن هموم مجتمعهم وعن هويتهم التي هي في حالة اندثار، بحكم زحف التمشرق والتغريب. وقنواتنا التلفزية تبرمج الحصص الأدبية القليلة في منتصف الليل في عز الشتاء وفي أيام الأسبوع، كما لو أنها عار تحرص على إخفائه. إنّ النشر الأدبي في السنوات الأخيرة أضحى كمن يرمي حجرة في وسط لجّ بحر متلاطم. لا يسمعه ولا يلتفت إليه أحد. ألا ترى أن محمد ديب تعرض إلى الكثير من الحيف النقدي والإعلامي في فرنسا، حيث تم تجاهل تجربته، في وقت رفع صناع النجوم كتابا أقل شأن منه؟ ج6- محمد ديب كاتب مستقل برأيه وبطريقة كتابته. ومصير الكاتب المستقل يكون دائما التهميش لأنه يرفض الخضوع للأيديولوجية المهيمنة. محمد ديب همِّش في فرنسا وفي الجزائر أيضا أثناء حياته. رفض أن ينساق خلف موجه تسويد صورة الجزائر مثلما تريده بعض الأوساط الفرنسية التي تحن إلى الجزائر الفرنسية، فتم تهميشه فعلا إلى حدّ أنه رحل إلى فنلندا واشتغل في الترجمة كما كان يعطي دروسا في الجامعات الأمريكية. الجزائر أيضا كان عليها أن تحتفي به في حياته وأن تكرّمه وتعتني بأدبه. صحيح أن مناسبة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011 أعادت له الاعتبار عبر تنظيم ملتقى دولي حول أدبه، وإقامة جائزة باسمه بفصل المؤسسة التي تحمل اسمه واسم رويته الدار الكبيرة، كما أنجز جيلالي خلاص فيلما وثائقيا عن محمد ديب، وموّلت وزارة الثقافة ترجمة العديد من أعماله. إنها لفتة ثقافية تحل دلالات نبيلة قد ترجع نصوص هذا الكاتب إلى أهلها وإلى قرائه المفترضين. النص الأدبي الجيد يعود إلى الواجهة مهما طالت سنوات التهميش أو النسيان أو عدم فهمه في حينه. وهي حالة محمد ديب الذي لا تزال نصوصه نابضة بالشعرية والإبداع بعد سنوات من رحيله.