أموات يتزاحمون على قبر واحد وعائلات تدفن موتاها في البيوت أزمة الحصول على سكن أو مأوى ليست مشكلة الأحياء فقط بالقل، بل يعاني منها حتى الأموات ، فرحلة البحث في الدنيا عن سكن والتي قد تطول وتمتد لدى القليين إلى سنوات، تتواصل أيضا بعد وفاتهم للبحث عن قبر جديد في ظل تشبع المقابر الموجودة بالمدينة على غرار كسير الباز ، و عين الدولة ، وسيدي عبد الرحمان ، وسيدي حمزة. طالت الأزمة و امتد التزاحم و الاكتظاظ عالم القبور،فأصبح القبر الواحد يضم أكثر من جثمان في غياب التكفل بالمقابر وانعدام مصلحة على مستوى البلدية لتسيير المقابر وإعداد الجنائز و اكتفت البلدية بتحرير شهادة الوفاة فقط،حيث يتولى أهل الميت أو متطوعين البحث في قبور قديمة بالموازاة مع مواصلة رحلة البحث عن مكان لحفر قبر جديد ،ناهيك عن الإهمال الذي طال المقابر وغياب سياج يحيط بها وحراس يحرسونها . واقع جعلها عرضة للحيوانات الضالة التي عاثت في القبور فسادا وحطمت الكثير من شواهدها ، وتحول البعض من المقابر إلى أماكن يقصدها الشباب الطائش لممارسة طقوسهم الممنوعة دون أدنى احترام لقداسة المقام، خاصة في ظل غزو الأعشاب الضارة و النباتات و الأحراش التي تغطي محيط المقابر، و في مرات عديدة تقوم مصالح الشرطة بضبط عصابات ترويج المخدرات و المهلوسات بين القبور. مقبرة الشهداء وحدها نجت مؤخرا من الفوضى و الإهمال السائدين ببقية مقابر المنطقة بعد أن كانت شبه منسية حيث تم تنظيفها و تهيئتها و تحولت إلى تحفة تحفظ ماء وجه المسؤولين المحليين. إن دقيقة الصمت التي تلزم الزوار بالوقوف أمام قبور الشهداء في المناسبات الوطنية، تحولت إلى صمت وسكوت دائمين على مدار السنة نظرا للإهمال و اللامبالاة التي طالت المقابر. طرائف و شجارات و اعتداءات بالمقابر ارتبطت عمليات الدفن و إعداد الجنائز بالقل منذ أمد بعيد بالكثير من الحوادث التي تحولت إلى نوادر وطرائف يتم تداولها، كتلك التي تم فيها الخلط بين جثتي شخصين توفيا بالمستشفى وتم دفن شخص في قبر أعد لشخص آخر ميت من بلدية الزيتونة الواقعة على بعد14 كلم عن القل. عندما تم اكتشاف هوية الجثة الثانية استخرجت الجثة الأولى بعد يوم من دفنها و أعيد دفنها بالقبر المعد لها في مقبرة عين زيدة . و ربما تبقى حادثة دفن شيخ ينتمي للطريقة العمارية داخل مسكنه بحي شبه الجزيرة خير دليل على أن المقابر بالقل قد امتلأت ولم يعد المكان يتسع لقبر جديد واحد. حتى و إن كان لأتباع الشيخ و مريدي الطريقة مآرب وأغراض أخرى من دفن جثمانه داخل مسكنه لجعله مزارا ،فذلك يحدث وسط الصمت المطبق من المواطنين و السلطات فقد وصل الأمر في بعض الحالات إلى حفر قبرين لميت واحد في مقبرتين مختلفتين وغيرها من الحوادث التي أصبحت تؤرخ لغياب الوعي وانعدام التكفل بالمواطن القلي حتى بعد وفاته وعدم إعطاء أدنى قدسية أو حرمة للميت. كما تشكل حادثة تشويه قبر مجاهدة معروفة بكتابات مشينة على الشاهد، تزامنا مع الاحتفالات بذكرى اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر . في حين شهدت جنازة بمقبرة عين الدولة مناوشات كلامية بين أهل الميت وواحد من رجال الحماية المدنية بالقرب من الشاطئ تطورت إلى شجارات و اعتداءات ووصلت القضية إلى أروقة المحاكم حيث تمت متابعة أفراد من أهل الميت بتهمة الضرب والجرح العمدي. وقائمة الحوادث و المشاكل و الشجارات طويلة بالمقابر، وتبقى معاناة سكان القل تتناقلها الأجيال في ظل الحرمان المتواصل لسكان المنطقة الأحياء منهم والأموات. القليون وحكاية عشقهم الأبدي للبحر القادم إلى القل كالخارج منها عليه المرور أمام منظر قبور مترامية الأطراف على طول الشريط الساحلي الممتد من وادي الشركة إلى الميناء بمدخل المدنية وشبه الجزيرة في لوحة فسيفسائية تجمع بين الأزرق اللامتناهي والنهاية المحتومة للإنسان ، فمقبرة الشهداء تستقبل الزوار وترشدهم نحو شاطئ تلزة تم شاطئ عين أم القصب وامتدادا لها تجد مقبرة "كسير الباز" تحتضن الزائر وترافقه نحو مدخل المدنية مع منعرجات الطريق الصخري المطل على الميناء. بينما مقبرة عين الدولة تبدأ القبور فيها من عند أقدام جبل الولي الصالح "سيدي عاشور" و شاطئ الفتيات الجميلات وتتسلق جبل "ضامبو" في شموخ وكبرياء، تجعل من قمة سيدي عاشور حارسها وحارس المدينة، وتقابله في الواجهة الأخرى شبه الجزيرة كبطاقة بريدية للمدينة و تضم مقبرتين هما سيدي عبد الرحمان وسيدي حمزة الخاصتين بموتى عائلات محدودة و تتوسط المقبرتين بنايات قديمة تعود للعهد الروماني وأخرى جديدة يتنافس فيها الأحياء مع الأموات من أجل الفوز بالمأوى بين قبور الدنيا وقبور الآخرة ، فلا تجد قبرا إلا وتجد بجانبه حائطا لمسكن جديد قد يمتد مستقبلا إلى أبعد من ذلك. إن ارتباط سكان القل منذ القدم بدفن موتاهم بجانب البحر يؤرخ ويروي حكاية عشق القليين لهذا الأزرق ودفع بالمصطافين ليقاسمون يوميات استجمامهم مع الموتى والقبور. كما هو الحال في مقبرة عين الدولة، فأشجار الزيتون المنتشرة بين القبور تتحول أثناء الصيف إلى مظلات للمصطافين ،تقيهم حر الشمس من جهة ويتناولون تحتها طعامهم من جهة أخرى. عند المدخل الغربي للمدينة توجد المقبرة المسيحية وهي الأخرى لم تنج من عبث الأشرار والمغامرين الذين ينبشون قبورها بحثا عن كنوز مزعومة، خاصة وأن الحكايات المتداولة تشير إلى دفن النصارى لموتاهم مع حليهم ومجوهراتهم ، وعند الحدود مع بلدية الشرايع توجد مقبرة دار عمر و بمنطقة عين زيدة توجد مقبرة أخرى. أموات يبحثون عن قبور ومقبرة تبحث عن جثث فشلت السلطات المحلية المتعاقبة في إيجاد حل نهائي لغزو القبور لجوانب الطريق الوطني رقم 85 الرابط بين القل وقسنطينة. فبمدخل مدينة القل توجد مقبرة "كسير الباز" التي لا تزال عملية الدفن متواصلة بها و في كل مرة يؤدي تشييع الجنازة إلى قطع الطريق.البلدية اكتفت بوضع لافتة كتب عليها ممنوع الدفن على جانبي الطريق،فيما تتواصل عملية حفر القبور بجانب ذات اللافتة. إن فكرة إنشاء مقبرة جديدة لم تتجسد منذ الاستقلال رغم أخذها الحيز الكبير من اهتمامات المترشحين في الحملات الانتخابية للمجالس المحلية، إلى درجة أن أحدهم ذكر في برنامج حملته الانتخابية من أجل استمالة أصوات الناخبين للوصول إلى الكرسي، بأنه سيقوم بانجاز مقبرة عصرية في حالة الفوز برئاسة البلدية ربما يقصد بها مقبرة خمس نجوم ... فيها إنارة وقاعات انتظار وأماكن للوضوء والصلاة على الميت ... وغيرها من المرافق.. لكن ذلك ذهب مع رياح الإعلان عن نتائج الانتخابات و تبقى كل المقابر بالقل قديمة وتعود بداية ظهورها إلى العهد الاستعماري وبعضها إلى العهد العثماني. حتى مشروع انجاز مقبرة جديدة بمنطقة بومهاجر منذ بداية سنوات التسعينيات خطفه الأحياء من الأموات وسقط في الماء. و ذلك رغم صرف مبلغ يتجاوز أكثر من 200 مليون سنتيم لانجاز جدار حول القطعة الأرضية التي خصصت وقتها للمشروع، إلا أنه سرعان ما تم التراجع عن المشروع بحجة أن الأرضية تتوسطها القناة الرئيسية للمياه التي تزود سكان المدينة.و بالتالي الدفن بها قد يؤثر على نوعية المياه إضافة إلى نوعية التربة الطينية.هو ما جعل المسؤولين يقتنعون بنزع القطعة من الأموات وتحويلها إلى الأحياء لإنجاز مشروع 400 مسكن وحاليا أشغال المشروع جارية من قبل الشركة الصينية. إن اجتهاد السلطات المحلية بالقل لإنشاء مقبرة جديدة تنهي فوضى القبور و اكتظاظها، يصطدم دائما بمشكل نقص العقار في بلدية تقلصت مساحتها إلى 24 كلم مربعا، فالبحر من أمامها وغزو الاسمنت من ورائها فأين المفر ؟ حتى القطعة الأرضية التي تم تخصيصها لإنشاء مقبرة جديدة بمنطقة "كدية مومن " القريبة من حي محمد جمعون ( لمساسخة ) على بعد 3 كلم عن وسط المدينة، عزف السكان عن دفن موتاهم بها بالرغم من قيام البلدية منذ عدة سنوات بتسييج القطعة لتبقى المقبرة تبحث عن جثث في الوقت التي يبحث فيه الأحياء عن قبور لموتاهم بالمقابر القديمة. في ظل هذه المتناقضات التي تطبع يوميات المواطن القلي يبقى هذا الأخير في رحلة البحث عن سكن في حياته تتحول إلى أزمة البحث عن القبر الذي يأويه بعد مماته. أزمة السكن بالقل أبدية إن تزايد عدد سكان مدينة القل الذي فاق 40 ألف نسمة بسبب النزوح الكبير الذي عرفته أثناء العشرية السوداء من القرى والمداشر ببلديات المصيف القلي و قلة المشاريع الموجهة للسكن بحجة نقص العقار من جهة وعدم اجتهاد السلطات في انجاز أحياء سكنية جديدة للقضاء على أزمة السكن التي تبقى أبدية بالقل. فالظفر بسكن أصبح بمثابة الحلم الكبير بالنسبة للمواطن القلي، حيث فاق عدد الطلبات 4 آلاف طلب يتنافس من خلالها المواطنون على حصة لا تتعدى 200 مسكن بالنسبة للسكن الاجتماعي. وهو ما أفرز الاحتجاجات العارمة عند كل توزيع وأصبح العديد من طالبي السكن يهدد بالانتحار أمام مقر البلدية أو الدائرة لاستعطاف المسؤولين في لجنة التوزيع. و تبقى عشرات العائلات تتجرع المعاناة من أجل الظفر بسكن وهناك من عاشوا أكثر من 20 سنة داخل أكواخ وماتوا ولم يحققوا حلم الظفر بسكن عصري.