عائلات رحلت إلى سكنات جديدة وعادت إلى القبور للاستفادة مرة أخرى زحفوا على الأموات ودقوا أبواب السكينة الأبدية، أقلقوا منامهم، أو ربما أضفوا عليه بعض "الأنس".. ضاقت بهم أماكن العيش، فعجّلوا بدخول بوابة الآخرة... ورافقوا جيرانا يصمتون إلى الأبد... يعيشون الموت "الاجتماعي" اضطرارا أو اختيارا... وإن كانت قلوبهم ما تزال تعرف النبض. ولم تعد مقابرنا حكرا على الأموات فقط، بل وللأحياء بها نصيب.. زرناهم، تحدثنا إليهم، استمعنا إلى انشغالاتهم.. واطلعنا على أحلامهم التي لا تزيد عن أربعة جدران، وجيران غير الموتى، في شارع يسعدون جدا بالانتماء إليه.. إنهم سكان مقابر الجزائر العاصمة. عند دخولك مقبرة العالية، يخفق قلبك من مهابة المكان وربما من جلال الموت والمصير الذي قد يباغتك في أي لحظة. وعلى جانبيي الممر الطويل، تجد أسماء الموتى مكتوبة على مقابرهم المتراصة بطول المقبرة وعرضها، والتي يمكنك بسهولة تمييز مكانتهم ودرجة ثراء أصحابها في الدنيا، من خلال التمييز بين تلك التي استوت بالأرض، وتلك التي رفعت بالرخام. وطيلة الفترة التي مشيناها بين القبور، كنت أتعامل مع الأرض والمحيط العام بحذر شديد.. فكثيرا ما قرأنا أن الأموات يرون زائريهم ويحدثونهم... وكثيرة أيضا هي حوادث السطو التي تتم في المقابر من قبل بعض الشباب المنحرف. بدأنا جولتنا بين القبور التي تكاد شواهدها تختفي من الأرض، فرأيناهم يجولون خارج البيوت التي يسكنون فيها، وهنا تتبادر إلى الأذهان استفهامات كثيرة ما تزال معلقة إلى الآن، وأبرزها: هل يطيب المأكل والمشرب والمنام للإنسان في بيئة لا يسكنها إلا أصحاب الآخرة؟ طلبنا الحديث معهم فرحبوا.. أول من استقبلنا امرأة في الخمسين من عمرها، رسمت السنون على وجهها قصة طويلة مع الفقر والمعاناة، قالت إنها وعائلات أخرى تنتظر الترحيل ب "صبر فارغ" للتخلص من العيش وسط الأفاعي التي تملأ المكان، تتنقل بين القبور. وأوضحت الأمهات اللواتي تحدثنا إليهن، أنه يصعب عليهم التحكم في تحركات الأطفال الذين باتت تقاسيم وجوههم باردة برود النفس التي ألفت جوار الموت وسيناريوهات الجنائز والقبور، ولكن "ما باليد حيلة "ويبقى الانتظار هو كل ما يمكن لهم أن يتمسكوا به. والعلاقة بين سكان المقابر تتسم بالعزلة الاجتماعية، التي تعد سمة خاصة بهم. كما أن الخوف هو سمة أخرى من سمات الحياة في المقابر، مثل الخوف من بعض المعتقدات والخيالات، مثل "الجن والعفاريت" التي تطرق الأبواب ليلا، وهو الاعتقاد الذي يؤمن به الكبار قبل الصغار، ولكن هذا الخوف ليس هو المشكلة الوحيدة التي يعانون منها، فهم يعيشون في خوف مزدوج من الموتى تارةً، ومن الأحياء تارة أخرى، وهناك مشكلات لا تعد ولا تحصى داخل المساكن المتهرئة، مثل ضيق المساحة وعدم وجود مرافق مثل قنوات الصرف الصحي. * أطفال يحلمون بالسكن في عالم الأحياء بين شواهد القبور، هناك أيضا شواهد ناطقة بالأسى، أطفال صغار، ربما لا يعون فعلا المحيط الذي يتنقلون فيه، فكيف يعيش الناس ويأكلون وينامون ويتحركون في حضرة الأموات؟ وأطفال يلعبون في محيط القبور؟ قطعنا شوطا كبيرا في المقبرة.. متوجهين صوب صدى صوت أطفال يلعبون، وجدناهم يلعبون أمام أحد القبور، كانت ابتساماتهم لا تخطئ الإحساس بالمرارة تتدفق بين ثنايا وجوههم، هم جيران يصمتون إلى الأبد جيراننا.. لم يأت باتجاهي أي من الأطفال.. فطلبت منهم الحديث، كانت هناك فتاة في العاشرة حدثتني بقولها: "أنت صحفية؟ قلت: نعم، قلت لها حدثيني عن نفسك فقالت: اسمي أمينة... نحن نذهب إلى المدرسة ونتعلم.. نحن نخاف من العقارب والثعابين... ولكن إقامتنا هنا أفضل من أن لا نجد سكنا يؤوينا". كان يقف بجوارها طفل آخر اسمه محمد.. سألته عما يرغب أن يكون بالمستقبل، فقال على الفور: "نخدم وخلاص". عدت لأمينة وسألتها عما تود أن تكون لما تكبر، فقالت بواقعية أكثر "أكمل دراستي "بسرعة" وأحصل على وظيفة "بسرعة"، لأحصل على منزل". وبعض الأطفال يمتهنون بيع الورود والشتائل عند مداخل المقابر، خصوصا أيام الجمعة والمناسبات الدينية، فيلفون باقات صغيرة يجرون بها على الوافدين من كل باب. أطفال المقابر أكيد عاديون ولديهم أحلام مستقبلية وردية، وإن كانت في محيط قاس بين قبور الأموات التي حوّلتهم إلى شواهد ناطقة تنطق بالأسى، ربما لا يعرفون خلفيات المحيط الذي يتنقلون فيه أو يعرفون... رأينا كيف يعيش الناس، يأكلون وينامون ويتحركون في حضرة الأموات، ولكن كيف ستكون نفسية الأطفال الذين ينامون ويحلمون بغد جديد، وعلى بعد خطوات قليلة من نوافذهم الصغيرة، أموات يرقدون إلى الأبد؟ بالتأكيد أن نموهم النفسي لن يكون سويا، فالفاعلية الذهنية لهؤلاء الأطفال على اختلاف أجناسهم أو أعمارهم، لن تكون إطلاقا موازية لآخرين يكبرون في محيط عادي، لكي لا نقول رفاهي. فالطفل الذي يلعب فوق تراب الأموات ويكبر مع مشاهد الحزن والبكاء، تتكرر على ناظريه بين كل حين وحين، بالتأكيد ستترسب في أعماقه صور كئيبة تؤثر قطعا على تركيبته السيكولوجية ومستوى التفكير، الذي يتجه كرها لا طوعا نحو السلبية والتشاؤم والانطوائية، وكل المفاهيم السلبية التي تحجز لها مكانا قارا وسط المحيط الذي يستوعب الكثير في كل المرات. * مقابر العاصمة لا تخلو من الأحياء يعيش في مقابر ولاية الجزائر وحدها، 138 عائلة، 106 منهم في مقبرة العالية، أي هناك ما لا يقل عن 530 شخص على الأقل يسكنون بين الأموات، هذا حسب الأرقام التي قدمها لنا جخمون أحمد، مدير عام مؤسسة تسيير المقابر والجنائز، التي تتولى الإشراف على تسيير 50 مقبرة ضمن 141 أخرى متواجدة على مستوى ولاية الجزائر. وتبقى هذه الأرقام التي عدّدها مدير المؤسسة، عائقا في وجه التسيير الحسن الذي تهدف إليه المؤسسة، والتي استحدثت أساسا خلال السنوات القليلة الماضية للمتابعة والإشراف على المقابر التي بقيت خارج الاهتمام لفترات طويلة، بما فيها تلك غير الإسلامية. وتقدم هذه الأخيرة العون للبلديات التي تشرف على تسيير المقابر المتبقية، إلى جانب ال 50 التي تشرف عليها مباشرة، خاصة فيما يتعلق بالبلديات الفقيرة، وكل ذلك في سبيل الوصول إلى رسم صورة مثالية عن أماكن هي في الأصل ذات حرمة دينية. ولكن واقع حال مقابرنا حاليا، يحول دوما دون التسيير والتأطير الجيد لها، حيث يصعب التسيير والحراسة، والقائمون على المتابعة لا يقدرون حتى على غلق الأبواب، ولا تحديد أوقات للزيارات ما دام الداخل والخارج لا يعرض للمساءلة ويصعب تحديد الدخلاء، مادامت تلك العائلات تتحرك دخولا أو خروجا مع كل متعلقاتهم الخاصة من مركبات أو حتى شاحنات من دون رقيب، الأمر الذي عده جخمون أحمد مدير مؤسسة تسيير المقابر وحفظ الجثث لولاية الجزائر عائقا يحول دون التسيير الجيد والتأطير المحكم، وكذلك غلق الأبواب. ويبقى هؤلاء بين صغار وكبار، يصولون ويجولون فوق القبور دون قيد أو شرط، رغم أن القانون الجزائري يمنع منعا باتا الإقامة وسط القبور، ومن باب آخر، فإن رأي الشرع صريح ولا يخرج عن نطاق المنع، وللمقابر في الدين الإسلامي حرمة وزيارتها تكون للترحم فقط... ودقائق قليلة، ويمنع منعا باتا المشي إليها دون سبب. * السكان أغلبهم حفاري القبور وعن كيفية دخول هؤلاء إلى المقابر التي تحوّلت مقارا للسكن، قال جخمون أحمد المدير العام لمؤسسة تسيير المقابر وحفظ الجثث أن أغلبهم يكون من عمال المقبرة (حفاري القبور). وبما أن هذه المهنة لا تجد اهتماما من المواطن العاصمي، فقد فتحت الأبواب للقادمين من ولايات أخرى. ولأن العمال الذين يعملون بنظام التناوب سبعة على سبعة، يصعب عليهم التنقل في صفة الذهاب والإياب بين الحين والآخر، اقترحت الإدارة أن تخصص لهم أماكن للمبيت، كانت شاليهات فردية ينامون فيها أثناء العمل، ومن هنا قام المعنيون باستقدام عائلاتهم والسكن النهائي، وسبق وإن قامت الإدارة السابقة بمتابعتهم قضائيا، لكن لم يجدّ أي جديد في الملف. لكن الأمر لا يتعلق فقط بحفاري القبور، فحسب ذات المتحدث وما تم لنا معاينته ميدانيا، هناك أشخاص قادمون من ولايات الداخلية لا يمتون بصلة للهيكل الإداري. والملفت أيضا للانتباه أيضا، أنهم لا يقبعون جميعا في درك الفقر، لأن نوعية المركبات التي يمتلكها البعض، تعكس المستوى المعيشي لبعضهم! وهنا أوضح السيد جخمون أن مصالحه قامت مؤخرا بإعداد بطاقة تقنية للعائلات، تضم كافة المعلومات اللازمة وتم تمريرها إلى السلطات المعنية قصد بحث الحلول اللازمة في أقرب الآجال، مؤكدا بأن هناك قسما كبيرا من العائلات استفادت في أوقات سابقة من سكنات، ولكن للأسف هذا لم يمنعهم من التمسك بالسكن وسط القبور، مشيرا إلى وجود انتهازية ولعب بالأوراق في بعص الحالات. ومن جهتها، السلطات المحلية لبلدية واد السمار التي تكون الجهة الأولى المسؤولة عن تحديد الصيغة القانونية لسكان مقبرة العالية التي تحوي أكبر عدد، قالت على لسان نائبها الأول أنها سجلت 122 عائلة فقط في مقبرة العالية ولا علم لها بالباقين، وهذا خلال عملية الإحصاء الأخيرة. كما ذكر المتحدث بأنه حاليا لا توجد أي عملية إسكان للمعنيين، ولم يغفل المتحدث الجانب الذي تحدث عنه مدير مؤسسة تسيير المقابر، وأكد هو الآخر أن هناك أفرادا سبق وأن استفادوا من سكنات، ولكن عاودوا الرجوع إلى السكن وسط القبور ولا يمكن التجاوز عن هذا في كل مرة والقيام بإعادة ترحيل وإسكان جديدة. وتبقى دوافع السكن في المقابر، تعود إلى البحث عن مأوى بعد الهجرة من المناطق الداخلية نحو المدينة، فلا تجد هذه الفئة سوى المقابر تضمهم في حال عدم توفر إمكانية الكراء أو الشراء. أما التقسيم المهني لساكني المقابر، فهناك أولا حفاري القبور، وهذه الفئة تمثل أبرز المهن، وأخيرًا أصحاب الأعمال المتصلة بمنطقة المقابر كبيع الورود والشتائل والنقش على الرخام.