عبد الحفيظ بوالصوف جنّب سكان ميلة القديمة مجازر ماي 1945 أسهب أعضاء من «جمعية المالغ» بقيادة أمينها العام السيد علي مجذوب وعضوية كل من السادة ابراهيم لحواسة، عبد الحفيظ عباد ونابي عبد الكريم في الحديث عن الخصال العالية لقائدهم الراحل عبد الحفيظ بوالصوف المدعو «سي مبروك» وذلك بمناسبة تأطيرهم للندوة التاريخية المنظمة أول أمس الثلاثاء الموافق للذكرى ال 33 لرحيل الرجل، وهي الخصال التي لاحظوها عليه كما قالوا من خلال معايشتهم له، ومنها تواضعه الشديد وصرامته الكبيرة في نفس الوقت، وكذا تمتعه بالهيبة والاحترام وسط المحيطين به والنأي بنفسه عن الخوض في الأمور الصغيرة التافهة. فالرجل كما وصفوه كانت همّته كبيرة ونظرته عالية وبعيدة واهتمامه كان منصبا على تحرير الوطن من نير الإستعمار لا غير، ولعل ذلك ما يفسر ابتعاده عن الحياة السياسية مباشرة بعد نيل الجزائر استقلالها ورفضه الخوض في كل ما من شأنه أن يمس بسمعة البلاد أو يلحق الأذى بقادتها إلى غاية التحاقه بالرفيق الأعلى. شهادة هؤلاء وإن مست جوانب من حياة الرجل أيام ثورة التحرير وخلال مرحلة الاستقلال برغم قيمتها التاريخية، إلا أنها لم تحط بكل مسيرة الرجل مثلما لم يحطها السيدان الشريف عبد الدايم وعبد الباقي صلاي اللذان شاركا في تنشيط الندوة، الأول عبر مداخلة من كتابه المعنون «عبد الحفيظ بوالصوف ..الثوري ذي الخطى الخفية» والثاني من خلال عرضه لفيلمه الوثائقي « عبد الحفيظ بوالصوف أسطورة المخابرات الجزائرية». و سعيا منها إلى تسليط المزيد من الضوء على هذه الشخصية، ارتأت النصر الاقتراب على هامش الندوة من أحد أصدقاء سي مبروك في طفولته وجاره في نفس الوقت بمدينة ميلة القديمة، وهو السيد حملاوي السعيد المدعو (أبى علي) الذي يصغر بوالصوف بخمس سنوات فقط. و عاد بنا عمي السعيد إلى أحاديث الصبا والشباب التي كانت تدور بين أبناء البلدة مع التركيز على ما كان يبوح به سي مبروك المتشبع منذ صغره بالوطنية والناقم على فرنسا الاستعمارية التي كانت تختار لنفسها كل شيء جميل وتطلق عليه صفة (الفرنسي)، أما الأقل شأنا فتطلق عليه صفة (العربي) ،من ذلك أن الزعرور الحلو والجميل الشكل مثلا هو فرنسي أما الصغير الحامض فهو عربي وكذلك الشأن بالنسبة للقرنون والخرشوف الأمر الذي جعل التلميذ عبد الحفيظ بوالصوف الناقم على كل ما هو فرنسي يزعج معلميه من خلال إصداره بالصوت المرتفع لكلمة ( أنديجان ) داخل حجرة الدرس وهي الكلمة التي كان يمقتها وسعى للمساهمة فيما بعد لتخليص الجزائريين منها عبر لغة السلاح. وأبرز عمي السعيد الدور الذي لعبه بوالصوف بفترة قبل انطلاق الثورة وسعيه للحفاظ على أرواح أبناء جلدته من ذلك، أنه قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية بأيام تمت الوشاية للسلطات العسكرية الفرنسية بأن كل سكان مدينة ميلة القديمة دون استثناء ينتمون لحزب الشعب الجزائري فأرسلت فرنسا استعدادا منها لمواجهة المطالب المنتظرة من الجزائريين بالقوة فرقة من رجال المدفعية تشكيلتها من شلوح المغرب يقودهم ملازم يلقب بإدريس، حيث تمركز بفرقته يوم 15 أفريل 1945 في منطقة المخوض ( بالضبط في المكان الذي كانت تتواجد فيه محطة الخدمات لمؤسسة نفطال على طريق قسنطينة، والتي تمت إزالتها من هناك مؤخرا، مصوبا فوهات المدافع ناحية مدينة ميلة القديمة الموجودة تحت سيطرته. وهي الصورة التي أثارت انتباه عبد الحفيظ بوالصوف الذي توجس من ذلك خيفة واستشعر بفطنته الخطر المحدق بسكان ميلة القديمة، فبادر إلى الاتصال بمناضلي حزب الشعب في ذلك الوقت وقادة ثورة التحرير أمثال السعيد بن زرافة، سي الطاهر بوحوحو، مشري المكي،علي زغدود وأخبرهم بشكوكه حول نية فرنسا المبيتة تجاه سكان المدينة . الأمر الذي جعلهم يسارعون إلى الاتصال بصاحب مخبزة متواجدة بمدينة ميلة ( الجديدة ) وهو مغربي كذلك اسمه ادريس العيد تبيّن بحديث هذا الأخير مع الملازم الذي هو من زبائنه في اقتناء الخبز أنهما من عائلة واحدة وهذا ما سهّل على صاحب المخبزة التوسط للجزائريين في معرفة غرض هذه المدافع المنصوبة أولا وفي اقناع الملازم والضباط المرافقين له على مائدة وليمة نظمها على شرفهم، بأن المعلومات المقدمة لفرنسا والتي على أساسها تم إرسال فرقته لميلة مغلوطة، الأمر الذي جعل الملازم يحول لمرؤوسيه ما استقاه من معلومات من ابن موطنه في تقرير، فأمروه بالعودة لثكنته بقسنطينة، وهذا أيام قليلة قبل حلول الثامن ماي 1945 الذي شهد مجازر سطيف، خراطة وقالمة. أما ميلة فجنبها بوالصوف بفطنته هذه المجزرة. و أضاف المتحدث، أنه بعد مجازر خراطة، سطيف وقالمة، صرح لهم بوالصوف بالحرف الواحد وباللغة الفرنسية ( آديو لافرانس) أي ( فرنسا وداعا) ولما تم استفساره عن سبب اعتقاده بذلك، ردّ بأن فرنسا بجرائمها المرتكبة شهر ماي من تلك السنة دفعت بكل الشعب الجزائري أن يتخندق في صف واحد وأن يكون على قلب رجل واحد ويكتسب قناعة واحدة و ضمير واحد هو أن فرنسا ليس لها بقاء بعد اليوم. أما خلال عام 1948 فقد أوضح بوالصوف لرفاقه بأن فرنسا تتحايل وتريد جس نبض الجزائريين لمعرفة توجههم ومدى توحدهم وهذا من خلال فتحها لهم باب الترشح لانتخابات البرلمان التي كان مرشح حركة انتصار الحريات الديمقراطية بدائرة ميلة وقتها رجل يسمى جيلاني مبارك وهو من مدينة العلمة وقد اختاره ( أنديجان) ميلة ليكون نائبا عنهم في البرلمان بعد حملة قوية تمت تحت أعين بوالصوف وتوجيهه، علما وأن بوالصوف كان وقتها كثير التنقل بين ميلة وقسنطينة، وكانت اللقاءات بينه وبين زيغود يوسف، رابح بيطاط، عمار بن عودة و لخضر بن طوبال مكثفة بميلة بالخصوص. وبعد تشكيل المنظمة الخاصة وانكشاف أمرها اضطر بوالصوف إلى عدم العودة لميلة والبقاء في قسنطينة ومن بعدها سكيكدة قبل أن يتجه نحو الغرب الجزائري كما هو معلوم . بوالصوف هو من أطلق اسم هواري بومدين على محمد بوخروبة ومن الأشياء التي صرح بها بوالصوف - لمحدثنا مثلما يشير - أنه يوم كان في الغرب الجزائري وحتى لا يعرف من قبل عامة الناس أثناء دخوله للمحلات التجارية قصد قضاء حاجاته كان يرخي شاشية قشابيته على وجهه، ولا يزيحه إلا بعد عودته لمأمنه فالناس هناك يسمعون باسم بوالصوف ولكنهم لا يعرفونه شخصيا وذلك كان احتياطا منه. و كشف لمحدثنا أنه هو من أطلق اسم هواري بومدين على رفيقه الرئيس الراحل محمد بوخروبة، وسبب ذلك أنه في يوم من الأيام وأثناء عودته لمقر قيادة الولاية الخامسة بعد خروجه منها لوقت قصير وجد محمد بوخروبة في طريقه وعلامات النرفزة والقلق بادية عليه فسأله بوالصوف عن سبب الغضب الظاهر عليه، فرد أن لا شيء يا سي مبروك لكن هذا الأخير ألح عليه ليكشف له بوخروبة بأنه استأذن بوضياف الذي كان متواجدا هناك في أن يتم تدعيم المقاتلين الجزائريين بشباب مقاتلين آخرين، غير أن رد بوضياف كان بأن الثورة تفتقر للمال وللسلاح فلا يمكن تجنيد عدد إضافي من الجزائريين لأن نهايتهم في هذه الحالة ستكون الموت من دون سلاح. هذا الرد الرافض أزعج بوخروبة وأغضبه غير أن بوالصوف هون عليه وأمسكه من يده ليدخلا معا عند بوضياف ويقوم هو الأول بتقبيل هذا الأخير ثم يطلب من بوخروبة أن يقتدي به في تقبيل بوضياف كون الرجل أكبرهم سنا وأقدمهم نضالا قائلا لبوخروبة أن ما قاله بوضياف حقيقة لكن وطنيتك ورغبتك يا بوخروبة في هزم فرنسا - يقول بوالصوف على لسان عمي علي - هي التي جعلتك تتقدم بهذا الاقتراح الذي ليس له من دافع إلا الوطنية الخالصة، وعليه فإني أرى ما دام أخوتنا في الغرب الجزائري كلما ولد لهم مولود إلا أسموه إما الهواري أو بومدين، أن أقترح من اليوم - يضيف بوالصوف - بأن يكون اسمك الثوري هواري بومدين ثم أنك من هذا التاريخ ستتولى منصب نائبي وذلك ما كان. بعد الاستقلال يقول عمي السعيد حملاوي ولأن الرجل أصبح مسكنه العائلي بميلة القديمة غير قابل للسكن فيه كونه مهدد بالانهيار وليس لبوالصوف مسكن آخر بمدينة مسقط رأسه يبيت فيه عند زيارته للمدينة، اقترحت عليه الدائرة والبلدية وقتها وذلك عام 1976 منحه قطعة أرض صالحة للبناء فقبل الاقتراح لكنه أبدى اصرارا كبيرا على دفع ثمن القطعة المقترحة عليه بالسعر الحقيقي لها في ذلك الوقت رافضا أن توهب له أو يستفيد منها بالدينار الرمزي، غير أن الأجل المحتوم كان أسرع فتوفى الرجل قبل أن يبني مسكنه عليها.