للنقد الذاتي أهمية كبرى لتقييم ما أنجزناه كمجتمع أو كأفراد هذا من ناحية، والتخطيط لما هو آت مع العمل على استغلال دروس مختلف التجارب والخبرات من ناحية أخرى.ماهو واقع النقد الذاتي في الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام.. ؟ هل ننظر له على أنه علامة قوة أم علامة ضعف ؟ وهل لتكرار بعض الأخطاء علاقة بطريقة تعاملنا مع النقد الذاتي ؟ وما مصير من يرفض القيام به ؟ استطلاع: نورالدين برقادي محمد بن زيان/ باحث، ناقد الدول والمجتمعات التي تمرّست على المراجعة النقدية لمساراتها هي التي حققت التحولات التاريخية الحقيقة تكمن في حركة التصحيح كما قال الفيلسوف "باشلار"... ولا يمكن بدون نزعة نقدية تملك البصيرة التي تتيح التمكن من تمثل الواقع ومن تملك آليات التعاطي مع مختلف المتغيرات . في مرجعيتنا ألّف علماء كتبا ورسائلا في أداب النفوس وخصصوا فصولا للمحاسبة التي تحمي الذات من التفسخ وتحصن القلوب من عللها... وكتبوا عن عمل اليوم والليلة الذي يجعل الفرد يراجع كل ليلة حصاد يومه وهو ما يتصل بقول الفاروق رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ". كما أن محورية النقد الذاتي مرتبطة بانفتاح الأفق المقترن بالتجدد المتواصل، تجددا مجسدا للأنسنة باعتبار الإنساني صيرورة بتعبير علي شريعتي وهذه الصيرورة بحركتها التصحيحية المستمرة تحفظ للذات توازنها وتخلص الهوية من العمى، العمى الذي يحيلها قاتلة بتعبير أمين معلوف والعمى يتكرس بالجهل المقدس كما عنوّن أوليفييه روا كتابا له . ودلت التجارب أن الدول والمجتمعات التي تمرست على المراجعة النقدية لمساراتها هي التي امتلكت المفاتيح وحققت التحولات التاريخية . كما أن من خاصيات المثقف والباحث عن الحقيقة الاحتياط باستمرار من الارتهان للجاهز والتسليم بالمكرّس لأن في ذلك ما يعادل العدم . و للأسف نتيجة رواسب تلقينية افتقدنا خاصية النقد الذاتي وجرأة مواجهة الذات، و صار كل واحد منا يلحق الغلط والشر بغيره، أما هو فله التبريرات لكل ما فعله و قاله ... رواسب تحجز عن ممارسة النقد الذاتي، رواسب النسق الذي يعتبر الاعتراف بالخطأ ضعفا ويحتاط من كلام الغير وأحكامهم بدل الاعتبار بالحقيقة ... النسق الذي يكفر بالحقيقة الإنسانية التي هي دوما نسبية لا تكتمل ففي الاكتمال الموت، وفي الخطأ مؤشر الحياة ولهذا ورد في الحديث النبوي الشريف: "كل ابن أدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، وفي المثل اللاتيني: "الخطأ من الإنسان لكن الإصرار عليه من الشيطان". و نتيجة لذلك احتوتنا الدوامة وصرنا نتدحرج من منزلق إلى آخر وننتقل من متاهة لأخرى. إن الفضيلة هي لمن أخطأ وامتلك الجرأة على الإعتراف ومعها إرادة التصحيح، فالحسنات تزيل السيئات كما في الحديث ..و في الاعتراف تعاف نفسي وتخلص من ثقل قد يفجع ويدمّر . والنقد الذاتي مستويات، مستوى السلوك العادي اليومي لأي فرد، ومستوى السلوك الخاص بأدوار وظيفية ... وحتى يتحقق المنشود تحتاج ممارسة النقد إلى تأسيس على حس ينمّى تربويا منذ الصغر في الأسرة والمدرسة وينمّى علميا وفكريا بنزعة نقدية تحرّر من الخضوع للوثن بدل التعلق بالحقيقة والحق، ويتأسس على استيعاب للواقع ، ويستثمر ما يتحرى أنه الحق لإدراك الحق المنشود، فالواجب كما تقول قاعدة علم الأصول: "لا يتم إلا بما هو واجب". إن الاعتراف منطلق لإعادة صياغة الحياة، و نحن بحاجة لتجديد حياتنا باستمرار حتى لا نذبل ونتعفن . أبوالعباس برحايل/ روائي، شاعر في بعض الأحيان لن يكون مفيدا لأنه سيكون نقدا متشنجا النقد الذاتي يا صديقي مرتبط بمبدإ آخر هو مبدأ صورة الذات لدى الفرد.. ما هي الصورة التي أكونها عن نفسي في أي مجال من مجالات الحياة حين أنظر في مرآة نفسي ؟.. إن هذه الصورة هي التي تحدد قدرتي على ممارسة النقد الذاتي .. إن تقدير الذات بطريقة موضوعية صرفة تحتاج إلى مران على الديمقراطية وممارسة لأساليبها طوال الحياة مادامت الديمقراطية هي تحمل المسؤولية الفردية والجماعية في أسمى معاني المسؤولية.. لقد كانت صورة الذات لدى شاعر كبير في حجم الحطيئة مثلا صورة منحطة مزرية تنم عن رفض للذات ربما حتى في وجودها حين يقول: أبَت نفسي اليومَ إلا تكلُّما بسوء، فما أدري لمنْ أنا قائلهْ أرى اليوم َ لي وجهاً، فلله خلقه ُ فقُبّح َ من وجهٍ، وقُبّح َ حامله ْ لا يتعلق الأمر هنا بقبح الوجه أو وسامته.. ولكنه نقد ذاتي مرير لتراكمات الإخفاقات التي جعلت من صاحب موهبة كبيرة في الشعر لا ينال حظه من العيش الكريم الذي يناسب تلك الموهبة، وتراكم الإخفاقات لم تترك مجالا للشاعر ليرى قدراته الأخرى التي جعلته بعد موته في مصاف كبار الشعراء.. ويقابل هذه الصورة المتطرفة في تقدير الذات تقديرا سلبيا صورة أخرى في شعرنا العربي، هي صورة تقدير الذات إيجابيا إلى حد التمركز في الذات .. وهي حالة الطفولة في سنواتها الأولى والسابقة للالتحاق بالمدرسة حين يرى الطفل العالم كله امتدادا له وفي خدمة مطالبه ونزواته.. يقول المتنبي في شبابه متحدثا عن نفسه التي يقدرها تقديرا إيجابيا بلغ بها كبد السماء: أي ُّ محل ٍّ أرتقي أي عظيم أتقي؟.. وكلُّ ما خلق الله ُ وما لم يخلقِ محتقرٌ في همّتي كشعرة في مفرقي وهو الموقف الذي ظل عليه طيلة حياته، ولا يتنازل عليه حتى في الظروف الحالكات وها هو يقف أمام سيف الدولة يخاطبه في مجلسه مادحا أو بالأحرى والأصح معاتبا : سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدمُ.. واضطر أحدهم أن يقول له: وماذا أبقيت للأمير بعد هذا؟!!.. بمعنى أن المتنبي ذهب في صورة تقدير الذات حدا تجاوز بها كل حد، على نقيض الحطيئة الذي كانت صورة الذات لديه منحطة .. ولعل اسمه ذاته مستمد من الانحطاط النفسي الشامل الذي كان عليه.. النقد الذاتي إذن على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، ليس هو رغبة ذاتية نتحكم فيها بل هو واقع موضوعي متشعب يفرض على الذات الفردية أو الجمعية توجها ما سلبا أو إيجابا .. إن التوازن النفسي، من خلال النشأة في بيئة غنية متوازنة تتوفر فيها عوامل الحياة الكريمة وتخلو من التوترات والصراعات هو ما يسمح برؤية الأبعاد المختلفة على حقيقتها، ويسمح بتقدير الذات تقديرا قريبا من الواقع ومن الحقيقة.. ومن ثمة صدور نقد موضوعي للذات يسمح للشخصية أن تتجاوز نقائصها وأن تزدهر وأن تطلق العنان لكل إمكاناتها لأن تنمو إلى أبعد مدى تلك الإمكانات.. وحالة الفرد بالضرورة تنطبق على الجماعة .. إن النقد في أي حالة من أحوال التوتر والاضطراب والعوز والألم سيتجه ذات اليمين وذات اليسار ولن يكون مفيدا لأنه سيكون نقدا متشنجا.. لقد كانت نفس الحطيئة متأججة بالكره لمن حوله حين وجد نفسه فردا غير معترف به حتى في نسبه، فصب جام غضبه على الدنيا حوله، ولما لم تسع الدنيا حقده آذى نفسه.. ولم يستطع قط أن يرى تلك القدرات العظيمة وتلك الموهبة الفذة في فن القول.. وظل وجهه القبيح ماثلا أمامه في صفحة ماء البئر .. في حين زُرع في المتنبي فكرة أنه ابن الأكرمين وأنه هو في ذاته معدن الذهب الإبريز.. فقدر نفسه كما سلف، وقدّر موهبته حق قدرها؛ يسهر الخلق جراها ويختصم.. النقد الذاتي تابع لتقدير الذات .. والتربية الصحيحة التي يتلقاها الفرد في أسرته وفي المدرسة وفي المجتمع تسمح له بتوجيه نقد محدد وفق تلك التربية على أن أقوَم نقد هو النقد النابع من الشعور بالآخرين في شتى أحوالهم باعتبارهم من المصادر الثرية التي تغني شخصيته وتغني الوجود حوله، والمنبثق من الاعتراف بالكفاءة والقدرة حيث هي بعيدا عن روح الكره أو الجحود أو الانتقام، وإن الناقد الذاتي الذي ينصف نفسه مسؤول يتحمل المسؤولية الفكرية والأخلاقية فيما يصدر عنه، ولذلك هو القادر على إنصاف الأفراد والجماعة التي حوله، والناقد القادر على رصد العيوب والمحامد في نفسه أولا هو القادر على إنتاج أحكام متوازنة يعول عليها في كل تقويم؛ ورحم الله امرأ عرف مقدار نفسه، وأنزلها منزلتها .. وقديما قال المعيدي عن نفسه مبينا جوانب قوته ونقاط الضعف في شخصيته: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه..أي أنه رجل فكر وحكمة .. ولكنه على وجه المشاهدة والمعاينة لا يسمو لتلك المكانة.. سمير بلكفيف كاتب وباحث، أستاذ بجامعة خنشلة النقد الإيجابي شرط البناء الحضاري للأسف الشديد النقد شبه غائب في المؤسسة الأسرية والمدرسية والإعلامية، وإذا تم النقد، فإنه يمارس بطريقة لا تخدم أهدافه الحقيقية مما يجعله يعني السخرية أو النقد من أجل النقد، فالتركيبة الأبوية للمجتمع الجزائري تجعل من الأسرة متمثلة في الدور السلطوي للأب أو الأم من دون إشراك للأبناء، وهذا يعد من أهم عوامل غياب النقد، فالأطفال لا تبنى شخصيتهم إلا وفق إستراتيجية النقد ومن ثمة تحمل المسؤولية، والنقد أيضا آلية بيداغوجية في المدرسة تساهم في نمو المعارف وتكاملها لدى التلاميذ، وهي الطريقة التي تعكسها بيداغوجيا "جون بياجيه" و"غاستون باشلار" في نمو المعارف وانتقالها من المرحلة العامية إلى المرحلة العلمية، ومع أن وسائل الإعلام قد خطت في طريق النقد نحو الأمام إلا أنه كثيرا ما يجانب النقد الحقيقة المنوطة للإعلام ليصبح تجريحا للشخص. لا يمكن أن يكون النقد علامة ضعف أبدا لأن النقد في جوهره علامة قوة، فلا يمكن أن تتغير الأفكار وتتحول وتتطور إلا بفعل النقد وكذلك الأشياء، فمن الناحية الدينية مثلا أن شروط التوبة أهمها الندم، فإن هذا الأخير ليس إلا نقد ذاتي للذات، وهو ما ينطبق على جوانب الحياة الشخصية والاجتماعية للفرد والمجتمع ككل. إن من يرفض النقد هو ضد الحياة وضد شروطها بما أن الحياة تغير وتبدل وتحول، وقد قال قديما الفيلسوف اليوناني "هيراقليطس": "أن المرء لا يستطيع أن يستحم من ماء النهر مرتين"، في إشارة منه إلى ديالكتيك الوجود والموجود معا، وهو ما يجعل من النقد إستراتيجية أساسية لتحقيق الأهداف والآمال والغايات التي نتطلع إليها، وكذا مراجعة الذات ومحاسبتها، فالنقد درس حضاري بامتياز، يدفع ويساهم في بناء الأمم والمجتمعات، وما أحوجنا نحن العرب- المسلمين اليوم إلى نقد حضاري ثلاثي الأبعاد لتحرير الذات العربية من أسرها التاريخي، الأول هو نقد القديم وإعادة بناء علومه في مرحلة تاريخية جديدة، والثاني نقد الوافد الجديد من الغرب، وأما الثالث فهو نقد الواقع في مختلف تناقضاته، حتى لا يكون النقد نظريا فحسب مرتبط بالنصوص. د.فارح مسرحي/ كاتب، باحث و أستاذ جامعي أداة فعالة في التعلم والتغير النقد من المفاهيم والآليات الأساسية في تنمية الفكر وتطوير المعارف، ومن الضروري العمل على تكريس الفكر النقدي لدى الأفراد وفي كل مؤسسات المجتمع، ومن بين المعاني التي يحيل إليها مصطلح النقد في اللغة الأجنبية حالة الأزمة أو الحالة المرضية الحرجة، أما في اللغة العربية، فهو يفيد ابتداء فحص النقود لتمييز المزيفة منها عن غيرها، غير أن المعنى المتداول والمتعارف عليه لمفهوم النقد هو الإشارة إلى حالة أو عمل أو منتوج فكري يتم تقييمه بالإيجاب أو السلب من خلال ذكر محاسنه ومساوئه، كما يحيل النقد إلى مفاهيم المراجعة، المصارحة، المحاسبة، المراقبة، وبصورة عامة يمكن القول أن النقد هو إعادة ترتيب للأفكار وللعلاقات مع الأشياء والأشخاص، والنقد الذاتي هو ممارسة ينصب فيها التقييم وإعادة الترتيب هذه على أفكار أو سلوكات الشخص الناقد ذاته، بمعنى أنه الناقد هو المنقود ذاته. والنقد كممارسة يعد أداة فعالة في التعلم والتغير نحو الأفضل، من خلال تعديل بعض الأفكار أو السلوكات واستبدالها بغيرها مما تثبت صحته أو فعاليته عند الآخرين، فالنقد الذاتي هو اعتراف الفكر بمحدوديته، ومن ثم فهو يسمح بالكشف عن مختلف المزالق والعوائق التي تمنع الفرد من تحقيق بعض الممكنات النظرية أو العلمية، والتاريخ يعلمنا أن الأمم المتقدمة لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد القيام بنقد شديد لمجمل منظوماتها الفكرية والسلوكية، فالإسلام مثلا شكل نقدا لما سبقه، والفكر الأوروبي المعاصر كان مسبوقا بعصر التنوير الذي هو عصر النقد الشامل بامتياز مصداقا لمقولة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: "كن جريئا واستخدم عقلك"، الذي اشتهر بثلاثيته النقدية: نقد العقل الخالص، نقد العقل العملي ونقد ملكة الحكم، والنقد كان موضوعا محوريا لدى الكثير من الفلاسفة سواء في الفكر الغربي أو الفكر العربي الإسلامي. غير أن ممارسة الفكر النقدي وترسيخه ليس بالعملية اليسيرة، فهي ترتبط بالموقف الذي يتبناه الفرد تجاه العديد من المفاهيم / الكيانات على غرار مفهوم الحقيقة، التاريخ، العلم، التقدم، وكذا موقفه من الماضي / التراث، ومن الآخر...الخ، فكلما كان الموقف من هذه المفاهيم أكثر لينا وانفتاحا كلما سمح ذلك بانبثاق واشتغال الممارسة النقدية، ذلك أن من يعتقد بامتلاك الحقيقة لا يمكنه أن يلتفت إلى تصورات أو سلوكات غيره إلا ليبطلها، كما أن من يشيطن الآخر المغاير له في الانتماء الديني أو الإيديولوجي لا يمكنه أن يستفيد منه وهكذا، ومن يعتقد بأن العصر الذهبي ظهر وعاشه الأسلاف في الماضي لا يمكنه أن يؤمن بفكرة التقدم ولا أن يعمل في سبيلها. ويمكن القول أن النقد الذاتي يمر عبر ثلاث لحظات أساسية أولها: خلق مسافة بين الفرد / المجتمع وأفكاره أو سلوكاته، ثانيا: الانفتاح على الآخر ومحاولة المقارنة والمقابلة بين المضمونين الفكريين للأنا من جهة والآخر من جهة أخرى، بهذه المقابلة يمكن اكتشاف وتركيب مضامين فكرية وسلوكية جديدة أكثر فعالية وأكثر ملاءمة للواقع المعيش، ثالثا: تعديل الأفكار أو السلوكات بناء على هذه التراكيب الجديدة، وليس بالضرورة أن يكون التعديل كليا أو شاملا، المهم فقط أن يكون واعيا. وبالنظر إلى أهمية النقد الذاتي وضرورته فلابد من البحث عن آليات ترسيخه على مستوى الفرد والمؤسسة لأن النقد هو السبيل الأنجع لتحقيق الفرد لذاته عبر تجاوز العوائق وتصحيح الأخطاء والمسارات، وقد كان الحكيم الصيني الشهير "كونفوشيوس" يمدح أنجب تلاميذه قائلا: "أنه لا يرتكب نفس الخطأ مرتين"، مثلما يفترض ألا يلدغ المؤمن من الجحر مرتين، كما أن الأولياء مطالبون بتربية الأبناء على فضيلة النقد الذاتي والاستفادة من تجارب الآخرين، فقد ربط المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي بين غياب النقد والتخلف في كتابه المهم: "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي"، وقل الشيء ذاته على مجمل المؤسسات التربوية والاجتماعية والإعلامية، فهذه الأخيرة مدعوة للانفتاح على تعميم ثقافة الرأي والرأي المخالف، وفتح المجال لكل الأطياف الفكرية والأيديولوجية للتعبير عن آرائها بكل حرية، والحرية شرط ضروري لإمكان الفكر النقدي، ولا شك أن تدريس الفلسفة وإعادة الاعتبار للدرس الفلسفي يعد من بين الآليات التي تسمح بتأسيس ورعاية الفكر النقدي وقد أشار تقرير لليونيسكو حول الفلسفة صادر سنة 2009، إلى أن: "تدريس الفلسفة ليس أكثر من تعليم الحرية والفكر النقدي وهذا الأخير هو الحصن المنيع ضد كل أشكال الاستبداد الفكري والظلامية والتطرف، وهو المسلك لترسيخ الفكر المستقل". موسى بن سماعين أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة أن نملك الشجاعة لاستعمال عقولنا يتفق الدارسون على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم على مكانة النقد في المعرفة، سواء نظرنا إليها من جهة الإبداع والاكتشاف، أو من جهة البرهنة والإقناع ، أو من جهة التبليغ والتعليم، ففي كل الأحوال يحتاج الفكر إلى درب يسير عليه، وخطوات متزنة يتبعها لبلوغ غايته، وستكون الحاجة إلى نقد ذاتي يقوّم نظرتنا وفكرنا، سيرنا وتوجهنا، إننا لا نعني بالنقد جلد الذات كما هو شائع في الكثير من أدبياتنا، ولا نعني به الرفض والهدم والنيل من الآخر. والحق أن تطور الثقافة الإنسانية، مرهون بتطور النقد الذاتي، الذي يعني توجيه النظر من العالم إلى الذات، بغية التقييم والتقويم، لمعرفة موقع الذات في العالم من الناحية الحضارية، وحتى يكون النقد فعالا ينبغي أن يستهدف تحقيق التقدم، والاندراج في التاريخ، والمشاركة في الحضارة الإنسانية، كما كان أسلافنا ذات يوم. تعلمنا من التاريخ أن ما تحقق للإنسانية من تحول نحو الحداثة، كان وليد نقد فعال، تم بموجبه إعادة النظر في ما يبدو مسلمات وبديهيات، في الأعراف والعادات، تلك التي حكمت التفكير والسلوك، أفرادا وجماعات، من منا لا يذكر ديكارت، فرنسيس بيكون، كوبرنيك، غاليلي، طه حسين..الخ كذلك الشأن اليوم، ستكون المجتمعات العربية في أمس الحاجة إلى النقد الذاتي لتخطي ما بها من تخلف وجمود وركود، وتبعية، يمس هذا النقد الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي والسياسي. لا يمكن تحقيق التقدم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ما لم نعد النظر في عادتنا وتقاليدنا، وتجاوز البالي منها، وما لم نعد النظر في نظامنا التعليمي، ونتفادى ما فيه من ارتجال، ونعيد النظر في بنية اقتصادنا وتحويله من اقتصاد ريعي استهلاكي إلى اقتصاد منتج. أما على المستوى الثقافي، فينبغي للنقد أن يستهدف الزاوية الضيقة التي نعيشها حضاريا، من خلال إعادة النظر في إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي، بين الهوية والآخر، بين التراث والحداثة...الخ لنتجاوز الثنائيات التي وضعنا فيها العقل السجالي، ونتساءل كيف لنا أن نحول من قيمنا الدينية إلى فعل حضاري حي؟ وكيف يمكن أن نستفيد من إنجازات الآخر دون السقوط في براثينه؟ ينبغي أن نعي بأن وضع حدود هذه الثنائيات إحداها إزاء الآخر، قد ورثنا اجترار إشكالاتنا طيلة قرن من الزمن دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل في الخروج مما نحن فيه من تردي ثقافي. أما على المستوى السياسي، فمن الضروري مراجعة علاقة الحاكم بالمحكوم، والارتقاء بها إلى ما يحقق الديمقراطية الفعلية، لا ديمقراطية الواجهة. وهذه تفترض الدعوة إلى خروج الأنظمة من تقاليدها العشائرية الضيقة، وتربية المواطن على الديمقراطية. النقد الذاتي ليس إذن، وليس زجرا لها، ليس بكاء على الأطلال، ولا نحيبا على ما مضى، ليس تهليلا وتصفيقا ومجاملة، النقد الذاتي هو أن نملك الشجاعة لاستعمال عقولنا، نسائل واقعنا، ننظر في قيمنا، نستهدف ما نعتقد أنه خير لنا.