السيدة منصوري تترأس أشغال الدورة ال 38 لاجتماع لجنة نقاط الاتصال الوطنية للآلية على المستوى الأفريقي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    وزارة التضامن الوطني تحيي اليوم العالمي لحقوق الطفل    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    "صفعة قانونية وسياسية" للاحتلال المغربي وحلفائه    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    ..لا دفع لرسم المرور بالطريق السيار    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَتى يَنتهي نشيدُ البَجعَة؟
نشر في النصر يوم 12 - 09 - 2011


في نقد النظام الثقافيّ العربي
أحمد دلباني
1
تحدَّث، مرَّة ً، الفيلسوفُ الألماني فريدريك نيتشه (-1844 1900)
F. Nietzsche عن العائق الكبير الذي ظل يأسرُ الفكرَ الغربي، لقرُون ٍ، في المَاورائيَّات وُيبقيه بعيدًا عن الانفتاح على عالم الصَّيرورة والحياة، قائِلاً إنهُ الأخلاقُ ومنظومة القيم التي ترسَّخت في صورة أفلاطونيةٍ استعادتها المَسيحية بوصفها مُؤسَّسة انتصَرت تاريخيا على إرادة القوة والرُّوح المأساوية الإغريقية. وقد شبَّه نيتشه، في ُصورةٍ بديعة، ما عاشهُ الفكرُ الغربي بقوله إن الأخلاقَ مثلت سِيرسه Circé الفلاسفة. والكل يعلمُ أن سيرسه هذه هي تلك المرأةُ التي جاء ذكرُها في الأوديسَة الهُوميريّة، وقد تَمثل عملها في مَسخ أصدقاء أوليس Ulysse بتحويلهم إلى خنازير. هكذا رأى نيتشه كيف أن الفكرَ الغربي وقع أسيرًا في يد الأخلاق باعتبارها قيما شكلت خلفية مرجعية في النظر إلى العالم والأشياء من زاوية اجتهدت في طمس الحياة وصَبواتِها إلى القُوّة والامتِلاء. من هنا ُمسِخ الفكرُ الغربي وحوَّل نظرَهُ عن نداءاتِ الحياة العميقة والإرادة والخلق والإبداع والتجاوز ليسقطَ في أحبولة الانسحاب من العالم ومن هدير الصَّيرورة ويتعلقَ بالعوالم الوهمية. ونحن نعلم، جيدا، أن هذا النقد النيتشوي كان حاسما في الكشف عن بعض أزماتِ الفكر الغربي في ظل حداثة الغرب الكلاسيكية التي شهدَتْ بداية أفولِ المُتعاليات وهجرِ المعنى مخدعَ المطلق وسماءَ اللاهوت ليولد باستمرار، بعد ذلك، في التاريخ.
أردنا أن ُنورد هذا المثال من الفكر الغربي، هنا، كي نفتحَ النقاش على عوائق الفكر العربي المعاصر، وكي نبحث في بنيته العميقة وفي نظامهِ الإبستيمي عن سيرسه العربية التي تبقيه أسيرًا للشلل الذي يعرفهُ أمام تحولات العالم وصيروراتِ المعرفة. أردنا أن نفتحَ أضابير الموروث الفكري والثقافي العربي على النقد بغية فضح تراجع الوعي العربي أمام سديم اللحظة، وبغية إماطة اللثام عن تَشرنُق هذا الفكر أمام جلبة التاريخ وصخب التجربة في عالم لا يكفُّ عن التغير وطرح التحديات. كما نود أيضا أن نتناول، في ضوء جديد، مآزق الفكر العربي المعاصر التي ُتبعده عن الجذرية المطلوبةِ في مقاربة الواقع وتفعيل آلة النقد والمُراجعة. فما هي سيرسه الفكر العربي والحياة الثقافية والعقلية العربية عموما؟ ما أسُسها ومحدداتها؟ أين يتجلى امتدادُها في الحياة العربية بكل مظاهرها؟ ما العملُ من أجل الخروج من أسْرهَا ومواصلة المغامرة في اكتناهِ الوجود والعالم والتأسيس لشرُوط الإبداع؟
هذه الأسئلة وغيرُها نراها ضرورية، اليوم، من أجل بداية العمل على الخروج من الانحباس الذي أصبح يُمثل السمة الأساسية للفكر العربي. وربما كان من اللازم أن ُيدشن العقلُ العربي والإسلامي، بذلك، عهدا جديدا يكتب ِسفرَ خُروجه من تاريخ المصالحة مع التراجع إلى تاريخ أبوكاليبتيكي جديدٍ يشهد نهاية العوالم القديمة ونهاية حساسيّتها ومقارباتها للعالم، ويقفُ فيه على أرضٍ بكر آن أن تمتلئ بمدافن الآلهة التي ُتؤثث حياتنا.
2
يَحسُنُ بنا أن نشير، بادئ بدء، إلى أن محاولاتِ الفكر العربي الحديث الخروجَ من عطالة النظر ومن البطالة الروحية في العالم المعاصر قد انتهت إلى فشل. لم يكن فكرُنا في بداية " النهضة " إلا حنينا ونوستالجيا إلى ملاحم البداياتِ والولادة المقدسة في لحظة الاغتراب عن الحاضر الذي حاد عن اللاهُوت وجَعل فجر الناسُوت يَنبلج عقلانية ً وصناعة وقوة ًوهيمنة عند الآخر الغربي. لم تكن عقلانيتنا إلا انبهارا بالآخر أومصالحة مع موتنا التاريخي ونفخا في رماد ثقافتنا القديمة التي لم نعثر على وصفةٍ تعيد لها شرارة الحياة من جديد. لم تكن، بعد ذلك، يوتوبيا " الثورة " إلا بلاغة ورنينا في صحراء اللامعنى، ولم تكن " الصباحاتُ التي تغني " إلا وهما وسرابا وانحدارًا إلى جحيم الاستبداد وتدجين الإنسان ونَمْذجةِ الفكر؛ ما جعلنا نعتقد، شيئا فشيئا، أن غودو Godot المُخلّص لن يأتي أبدا. وفي خِضم الانهيار والخيبة الشاملة نرانا، اليوم، ُنشِيح بأوجهنا عن القدر العولمي الجديد، ونُؤثر الزواج بالأبديّة والمُقدَّس كتعويضٍ عن فقدان العلاقة الهارمُونية بالحاضر. هذا حصادنا في القرن الماضي. هذا وجهُنا الذي أطلَّ على تراجيديا التاريخ الحديث الماكر وهو ُيصنَع بعيدا عنا وُيوسّع تخومَ المعنى خارج بيتنا الصغير الذي اختنق بفعل العزلة واللافاعلية.
إننا ُنسلّم بأن الفكر، في عمقه، يقوم على فاعلية النقد. إنه مراجعة دائمة للمراسلات التي ُنقيمها مع العالم، وهو ترحال لا ينتهي في مفازة العالم والوجود بحثا عن حجر الحقيقةِ المقدس. بل إن الفكرَ اليوم، أساسا، ما هو إلا ذلك التفكيكُ الذي لا يتردد في نقد مؤسَّسة الحقيقة ذاتها ونقد تمظهراتها الفكرية والاجتماعية والسياسية. ألم تكن كلُّ أشكال الاستبداد والتحنط في الماضوية وكلُّ أشكال سحق الإنسان تتمُّ بواسطة الحقيقة مفهومة ً على أنها نظرية تعلو على التاريخ الذي أنتجها؟ ألم يكن العالمُ في منظور هذه الحقيقة ُيشبه " غولاغ " كبيرًا أو معتقلا للزج بهيُولى العالم في نظام المعنى المُؤسَّس على الواحدية؟ ألم تكن مؤسَّسة الحقيقة، في أوضاع كثيرة، تواطؤا مُعلَناً مع قوة النظام لا مع قوة المعنى؟ هذا ما يجعل من الفاعلية الفكرية فاعلية نقدية بالأساس. سيكون المفكرُ، بالتالي، هو ذلك الذي يمُد يدَه إلى ثمار شجرة السّر مُنتهكا قداسة المعنى المؤسس والمعمَّم. سيكون مغتبطا وهو ُيعيد اكتشاف فضيلةِ السقوط في المنافي الجميلةِ حيثُ بكارة المعنى.
هذا تحديدا، ربما، ما يجب أن ُيشكّل مدارَ المساءلات بالنسبة للفكر العربي اليوم. نقول ذلك ونحن نعتقدُ أن هذا الفكر لم يمتلك - طيلة نصفِ القرن الماضي - الجرأة الكافية في الذهاب عميقا نحو الأسس التي تشلُّ حركة الحياةِ العربية وتُبقيها بعيدةً عن الفاعلية والإبداع. لم يستطع هذا الفكرُ أن يدخل العالم المعاصر ولا أن يمتلكَ أبجدياتِه أو يسهم في تغيير وجهه. لقد استعاض عن المنظومات الفكرية التقليدية بمنظوماتٍ فكرية وافدة وأسهم بذلك في تراجُع الذات العربية وفي جعلها ُموميَاء لا روح فيها. لم تكن فلسفتنا أنسنة ونقدا للأوضاع التي أنتجت الاغتراب عن الواقع وإنما تكنولوجيا جديدة أجْهزت على الإنسان وطمسَت فيه منافذ الحرية وينابيع الصَّبواتِ الأولى إلى الانعتاق. لم تكن حداثتنا روحا جديدة وعقلا متحررا من الوصاية والمرجعيات المتعالية وإنما كانت تحديثا شكليا وآلة لم تُغيرْ نظرتَنا إلى ذاتنا وإلى العالم. ولكن كيف حصل ذلك في العالم العربيّ وهو يتأهبُ للتحرر من الأمبريالية ويحلم بدخول مسرح التاريخ الذي أصبح ميدانَ إبداع وصراع على امتلاك معنى الكينونة التاريخية للبشر؟ كيف وقع عقلنا وتفكيرنا في آلة الارتهان لما يسدُّ آفاق المعنى ووشوشاتِ الحياة العميقة؟ كيف فقدنا صداقتنا مع المجهولِ الآسر واكتفينا بالحكمة والتعاليم والوصايا المقدسة بكل أشكالها؟
3
هنا، تحديدا، نصلُ إلى تشخيص الأزمة التي أعاقت الفكر العربي المعاصر عن الحضور الإيجابي الذي يعني إنتاجَ زمنٍ مختلف عن أزمنة العوالم القديمة، يقطعُ مع محدداتها ومع نظرتها إلى العالم والأشياء. لم يكن الفكرُ العربي المعاصر نقدًا جذريا وقطيعة معرفية مع السّائد وإنما لحظة تَمثلَ عملُها في إعادة إنتاج زمن الواحدية والشُّمولية والأنظمة المغلقة. ذلك هو الزمن الثقافي الإيديولوجيُّ بامتياز. لم تكن الحداثة العربية، بذلك، انتصارا للحرية والإنسان وإنما انتصارا للمرجعيات ولأنظمة الواحدية الفكرية والسياسية التي حلت محل الواحدية الدينية القديمة. من هنا أتيح للحداثة العربية ( حداثة الدولة والفكر الإيديولوجي معا) أن تخلعَ الجُبة العلمانية المعاصرة على البنية القمعية القديمة، بعيدا عن روح الحداثة الفعلية التي تعني انبثاق زمنِ الإنسان المُتخلص من الوصاية ومن زمن المطلق في جميع مناحي الحياة – معرفة ً واجتماعا وسياسة.
في هذا يكمن، برأينا، شللُ الفكر العربي الذي لم يُؤَسس لحداثته الخاصة بوصفها سؤالا وأنسنة ً ومغامرة في المجهول، لا بوصفها تورطا في إنتاج منظوماتِ الإخضاع واستبدال اللوغوس العلماني باللوغوس الديني القديم. إن التفكيك الجاري اليوم في العالم يَجتهدُ في فضح البنياتِ الخفية لكل أنظمة الاستبعاد والنبذ التي تمارسُها منظوماتٌ فكرية ظلت، لزمن طويل، تدعي العمل على تحرير الإنسان من الاغتراب. وربما بيَّن التفكيكُ الفعلي لخطابنا الفكري المعاصر أن جرثومة الاستبداد والروح القمعية وحضور المقدس في صورة المرجعية المذهبية - ظلت كلها تنخرُ حياتنا من الداخل وتفضحها وتبقيها أسيرة للادعاء الفارغ الذي جعل من فكرنا المعاصر بيانا حداثيا تقدميا كما كنا نعتقد. هنا نعثر، ربما، على الملامح الأولى لوجه سيرسه العربية التي مسخت الفكرَ العربيَّ المعاصر وحوّلتهُ عن سُبلِ توسُّل الحداثة الفعلية في التأسيس لشروطِ الحرية والإبداع. هنا نتعرَّف على أزمة أوليس العربي الذي لم يستطع مواصلة رحلته إلى جزر الضوء والانعتاق، وسقط في أحابيل سيرسه العربية – عنيتُ بذلك بنية َ الفكر المرجعية والروح المذهبية والرؤية الشمولية القائمة على ادّعاء احتكار الحقيقة.
نستطيع أن نقرر، انطلاقا من ذلك، أن نظام المعرفة العربي العميق الذي تحكم في إنتاج رؤيتنا للعالم والأشياء ظل خاضعا لمحددات يمكن تبين ملامحها، جيدا، في سيادةِ المرجعيَّة والتعالي النصي للحقيقة. ذلك ما يكشفُ عنه فكرنا السائد منذ أكثر من نصف قرن، وهذا قبل أن تنتفض بعضُ صورِ هذا الفكر على الأبوية العقائدية المكرَّسة التي لم تكن إلا استعادة للأصولية التقليدية في ثوب دنيوي. لقد كان فكرنا، بالتالي، يُطل على العالم وعلى تراجيديا التاريخ من علياء النظرية، وظل يجتهد في العثور على نظام الأشياء والعالم مبتعدًا عن حركية الواقع الفعلي وهو يكتب ِسفرا جديدا قدر له أن ُيدشن انهيار زمن العقائديات المتصلبة والإيديولوجيات الشمولية. هكذا خسر هذا الفكرُ رهان الانخراط في العالم ورهان فهمه واستيعاب إيقاعه تمهيدا لتغييره نحو الأفضل كما ظل يدعي. إن المشكلة الكبرى لكل فكر، بالتالي، هي النزوع اللوغوسي الذي يجعله ُيشرف على التاريخ من ِخدْر ِ الكلمة الأولى، دينية كانت أو علمانية / إيديولوجية. الموقف واحد في الحالتين وهذا بمعزل عن مضامين رؤية العالم التي يحملها الفكر. إنه موقف الأصولية التي لا تحيدُ عن المرجع النصي، وُتؤسس عليه مواقفها الفكرية والسياسية وتصورها لعمل المجتمع وقيمِهِ ومُبادراتهِ التاريخية. ربما هذا ما عاشه الفكر العربي بصورتيه الذائعتين: القومية والماركسية / الاشتراكية.
ولكن ما يكونُ موقفُ فكر مماثلٍ من قضايا الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية واحترام الاختلاف؟ ما يكونُ موقفه من قضايا الإبداع والنقد والمُساءلاتِ الفكرية الجذرية؟ أعتقد أن هذا السؤال لا يحتاج إلى عناء كبير من أجل الإجابة الشافية. لقد ظل الفكرُ الإيديولوجي منظومة نبذٍ واستبعاد وانغلاق إزاء المختلف، وظل مَعينا يهدر بكل صنوف الإدانة والتخوين باسم الوحدة؛ كما ظل سيفا مقدسا مُسلطا على صبوات الإبداع والمغامرات الفكرية خارج سلطة النموذج. من هنا نفهم كيف كان الفكر المستند إلى البنية الواحدية والشمولية يضمر في ذاته عنفا رمزيا لا يستطيع أن ُيترجمهُ - سلطويا وسياسيا- إلا في صورة قمع واضطهادٍ مُؤسَّس. هذه، بالتالي، مشكلة الحقيقة المؤسَّسية وقد ابتعدت عن كونها مغامرة في اكتناه ليل العالم والوجود.
4
إنَّ وضعنا الثقافيَّ والحضاريَّ اليوم – بوصفنا عربا ومُسلمين – لا يُمكن أن ُيقرأ إلا باعتباره انسحابًا من كوميديا التاريخ الحيّ ودخولا في مُتحف العوالم المُنتهية. إننا، فعلا، لا ُنسهم في صنع وجه العالم ولا في ابتكار دروب الآتي لأننا لم نجعل من ثقافتنا مَعينا لهوية جديدة تجترح آفاق التعبير الكوني عن تطلّعِنا إلى الحرية والكرامة وإبداع الحياة في ألق المغامرة. لم نجعل من خصوصيتنا حركية تأخذ شكل شجرةٍ تنمو في اتجاه الضوء والأعالي التي تسكنها اللانهاية. لقد كان لفشلنا التاريخي في احتضان إيقاع العصر وتحديث مجتمعاتنا وحياتنا، وكان لمُجمَل الأوضاع التي عرفناها، بالطبع، أن دفعت بنا - أكثر فأكثر - إلى الانغلاق داخل أسوار الذات التاريخية الموروثة وإلى هجر فضائل المغامرة وقيم الإبداع والتطلع إلى المستقبل. لم نعُدْ نتحدث عن الحداثة والتجاوز والإبداع والاختراق وإنما عن الهوية المُهدَّدة بفعل عولمةٍ كاسحة لم تحقق نهاية سعيدة للتاريخ. لم تَعُد هويتنا مشروعَ بناء للذات في أفق ِ التغير ولم تَعُد سمفونية لا تكتمل، بل أصبحت رغبة انكماشٍ أمام تِنين التاريخ المُتَعثر. هذا ما طبَع ثقافتنا الحالية بنوستالجيا البحث الضمني عن حضن الأبِ المؤسس وعن التماهي مع ضوءٍ أصلي ينتشلُ الذاتَ الخائبة من هاوية التاريخ السَّديمي.
إنَّ التفكير في هذا الاتجاه يعني، بكل تأكيد، المصالحة الضمنية مع السقوط المُدوّي لذاتنا الحضارية المُنهَكةِ وغير القادرة على مُجابهة العالم. بهذا تكون ثقافتنا نشيدًا للبجعة التي يرتفعُ صوتها بالغناء عندما ُتحتضر. هذا هو السِّياقُ العام لكل أحاديثنا عن الهوية والخصوصية ولكلّ أشكال شبقِنا الذي لا يَرتوي إلى أبُوّة التراث الرمزية وإلى القراءة الدينية الخلاصيَّة للعالم والتاريخ. كأننا لم نعُد نفكرُ إلا بوصفنا أيتامًا من أبُوّة التاريخ أو بوصفنا من ذرية آدم الذين يحملون معهُم فاجعة السُّقوط من فردوس مفقود. سيكونُ تفكيرنا، بالتالي، توبة ورجوعا عن خطيئةِ المُغامرة والإبداع وخطيئةِ احتضان التاريخ باعتباره زمنَ التغير والصيرورة والتقدم. سيكون تفكيرنا أصولية تسفحُ دمَ الأسئلة الكيانية والوجودية على مذبح مَرْضاةِ الآباء.
لكنَّ الحداثة الفعلية ليست زمن آدم الذي يَدين بالطاعة الأبدية للآلهة. إنها زمنُ سارقِ النار: بروميثيوس. إنها زمنُ الإنسان المُتطلع، أبدًا، إلى هتك حُجبِ العالم ومُطاردة السر وتأسيس وجوده على المعرفة والحرية والإبداع. الحداثة زمن الإنسان المُنتفض على أبُوَّة الماضي والآلهة والمغامر بمد اليد إلى ثمار الشجرة المحرمة. بهذا تكون الحداثة الفعلية تاريخا يَعبقُ برائحة الإنسان، ويكون الإبداع الحقيقي أثرا تفوحُ منه رائحة الدم النافر من كبد بروميثيوس وهو ينازعُ منظوماتِ القمع التاريخية وصايتَها على المعنى. نستطيع أن نلاحظ أن الثقافة العربية الحالية - انطلاقا مما سبق - لم تَعُد تجِدُ نماذجَها في سيرة بروميثيوس التي صَنعت مجد الإنسان، ولم تَعُد تَحتفي بالاختراق أو تتأسَّسُ على السؤال، وإنما أصبحت حشرجة وتأوُّهًا في دهاليز التاريخ. لم تَعُدْ هذه الثقافة بحثا عن الخروج من مآزق الوعي في مجابهته الوجودَ والعالم، وإنما انزواء في الغسق حيث يرقد المعنى وقد تصَلَّبتْ شرايينهُ وأُحِيل على التقاعد. وإذا كان بروميثيوس العربي، في الماضي، قد كتب ملحمتهُ في صورة صَعلكةٍ بهيةٍ ناوشت سلطة الحقيقة المحتكرة في الفضاء السوسيو- سياسي، فإنه اليوم ما زال يؤدي الدَّور نفسهُ ولم يُتح له أن يُدشنَ زمنَ الإنسان المُتخلص من سطوةِ الآلهة نظيرَ ما حدث في الغرب الحديث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.