أيوب المزين – كاتب من المغرب غدا أخرج من الغرفة. غدا أو بعد غد، إذا أسعفني الوقت. لم يبق في المطبخ إلاّ القليل من الجبن ونصف رغيف قديم وقنّينتان من نبيذ الألزاس القوي ولترٌ من زيت الزّيتون لآلام الحلق وسبعُ زجاجات بيرة للفطور. يلزمني، قبل الخروج، أن أقف أمام المرآة طويلاً لأتلمّس أعضائي، أتأملُّ انعكاسها وصدى طراوتها، ولأتأكّد من جاهزيّتي للحركة والقتال، ومن صفاء ذهني وطهارته التامة. مازالت نحيفة كما هي. الأعضاء والطّهارة، بلا رجع صدى. الحرب في الخارج. وإنْ بقيَت على حالها وتغيّرتِ النّاس؛ قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وفُقئت أعينهم من القزحيّة أو طالت آذانهم ونبتت قرون لولبيّة على أطراف رؤوسهم؟ سيرونني مخلوقاً مبتذلاً، اختفى خمسا وعشرين عاماً ولم يتطوّر قطّ. كيف يتأتّى ذلك يا ترى؟ بالذهاب للتسوق وارتياد المَعارض وكتابة أناشيد العزاء للمقهورين في منتزهات المقابر؟ هكذا؟ ولمن أترك المكان وفيه كلّ هذه الأوراق والصّور والزّجاج: مُلخّصات كتاب "الكينونة والزّمان" وجرد حسابي البنكي وقائمة الأوراق الإداريّة اللاّزمة لتغيير الجنسيّة، وحول السّرير لوحة "المُسافرِ متأمّلاً بحراً من السُّحب"، ورسومات أخرى لأفاعي وحيتان المحيطات المظلمة، تشطرها ساقاها الممدودتان فوق الجدار مثل قارورتين نفيستين، انتبذها اليائس لعشائه الأخير. لن أخرج اللّيلة، ولن آكل الجبن والرّغيف، سأجلس إلى المكتب وأنهي المشروب المنزلي وأنا أفكّر بها. قنّينتان في المطبخ ومئة أو تزيد، وسط الخزانة، بين الملابس والكتب. قد أنهيها غدا أو بعد. غداً، عندما أشرب كلّ القناني، وأستفيق، سأعيد قراءة الرّسائل. ثم أنهض للشّرب مجدّدا، فيما يذهب الأسوياء والمتطوّرون إلى أشغالهم وهم يطالعون أخبار الجنوب في الميترو. يبدو أنّني أتثاءب كثيرا خلال الخريف، ولا أخرج. كلّما تكوّرتِ الشّمس الغدّارة، من وراء السّتائر، انفتح فمي وتدوّرتُ في الغطاء وأنا أبلع. لا أنام، وأبلع الشّعاع الخافت والسّحاب المتقاعس عن المطر. أستمرّ في البلع، حتى في الصّيف، ولا أغادر المسكن. لا أتذكّر يوما خرجت فيه، مذ وُلدت، ولا أعرف العيش في غير الدّاخل. داخلي المبحوح بالكدمات والحروف. أصبح خروجي الآن ضرورياً. بقيَت قارورتان في بالي، عدا ساقيْها، للاحتساء أثناء ليلة واحدة. وما داعي المغادرة إذا كانت ستأتي في اليوم الموالي، حتّى هنا، الأرض الموعودة، ستخرج من آكس-آن-بروفانس إلى باريس. المسافة طويلة والآلة سريعة. مدينة بأكملها يسبيها قطار فائق السّرعة في ثلاث ساعات. تعرف القانتة جيّداً محلّ البقالة جنب الدّار. ماذا لو اقترحتُ عليها الذّهاب إلى الحانة المجاورة؛ ملتقى المتقاعدين والمنهكات من خرافات الرّبيع، يأتون للاستماع لأغنية "العزلة" لباربارا، جماعة ولساعات، وهي تتكرّر دون انقطاع، كلٌّ في زاوية. حاولتُ إقناعها بقرب المسافة ووجوب الفسحة، لكنّها أصرّت: "هذه المرّة سأسافر إليك. إلزم مكتبك وترقّب مجيئي بالنّظر إلى النّهر". تشتهي الخيال في نصّي وتشتري لوازم اللّيل من المتجر. كرّرت لي: "امكث في البيت، ولا تضجر". كلّ ما عليّ فعله هو أن أكتب. أكتب لها وإليها، ولا أكتب عن أساطير الأديان، عن خروج العبرانيات من مصر، وعن دخول الأخريات إلى مشرب الحيّ الصّغير في النّاصرة بفساتين مزركشة وقَصّات شعر منفوخة. كتبوا فوق مدخله بخط كوفيّ: بروليتاريا الحزن. سأبني مكانا مشابهاً، نفترش فيه التبن والحشائش، وأنحت على بابه منجلاً مثل قمرة معقوفة أتعبها الشّهر. رأيتها تلج باب العمارة بالأكل والشّراب. ظهرت لي فلّينة الPetit-Chablis الأبيض المُناور، ثم ارتفعت موسيقى فاغنر فجأة من ردهة الطّابق الثالث. مخيفٌ مطلع أوبرا"تريستان وإيزولده"، والكمنجات تذبح نفسها، الواحدة تلو الأخرى، ليكتمل اللّحن ويبقى، وتنتهي الأوبرا أمام جثة مثقوبة. سمعتُ بوّاب العمارة يَقسم باباً بعد ربع ساعة. المدة الكافية لانتهاء المقطع الأوّل. كانا يلهثان من الدّفع والضّرب، فيما انخفضت المزامير ومعها أنين الأبواق الجهيرة. شاهدتهما، من خلف الدفة، يمسحان العرق عن بعضها. من الصعب بذل جهد مماثل خلال لحظات متتالية: تحطيم الخشب والاستماع لفاغنر واغتيال رجل حزين. كنت منهمكاً في الكتابة إلى حبيبتي البعيدة، قصيدة غزل عنوانها: القلب الصّغير. كانت تقول له: انظر كيف انتهى به الأمر، غاطساً في المُخدّر، لا زوجة ولا أولاد. لا ميراث للشّيطان. هل كانت عشيقةَ حارس الإقامة؟ لذلك أصرّت على البقاء في الدّاخل؟ تجعله يشرب وينام لكي تنزل. كنت أسمع حركات مخض داخل مراحيض سلالم الإغاثة. ربما لم تكن هي. مات ولم يترك شيئا. كانا كما لو أنّهما يُدقّقان النظر في آخر كشوفاته البنكيّة. كلّ ما تركه، حسب محاضر البوليس، كان مئات الزجاجات الفارغة، بلا فلّين، وملخّص كتاب "الكينونة والزّمان" والقصيدة التي تمثّلتُ كتابَتها معه، مع اختلاف في العنوان، يقول مطلع مسودّتها: "غارقةٌ في الدّم يا آكس. الشّامات العائدات إلى النّحر، ذابلاتٍ كنجوم السّماء الخفيضةْ، يتأفّفن الجلد الذي نبتن عليه. ما أحزن القصيدة غيرَ الله، يا ورطة السّائل، ويا عزاء الرّحيل. يا أمسَ الشِّعر، ويا حظّ الذين عادوا للحياة، فأفناهم الرجوع. كف..في مداداً بي نبيذ...". دلق الرّاحل الكلام في صهوبة المشروب ولم يستطع المختبر الجنائي تفكيك المحاليل. دخلتُ غرفته بعد غياب دام خمساً وعشرين سنة. كان يمنعني من الدّخول. كان يطردني ويدفعني إلى الخارج، لأرى العالم، كان يقول. لم يتردد في سبّي مراراً، حتى وأنا ميّت الآن يستخفّ بي: يا ساردي وناسخي، ها أنت ملقى على المكتب، ورأسك مسنود إلى النافذة، منتهٍ في النص والفضاء؛ هذا الفضاء الذي ظننتَه ممتدّا لك وحدك، يلفظك اليوم إلى الخارج. أغسّلك وأكفّنني ونمشي بك إلى كرمة التل المهجور، تحتها تماما، نرميك إلى الشجرة كما أوصيت، نحن الثلاثة: هي والبواب وأنا. عندما أُقفِلت المحاضر وطُويَ الملف، اقتبس الواقعة صديقٌ كثير السُّكر وأخرجها للسّينما بعنوان كلاسيكي للغاية: "غرقٌ في وحل سبتمبر". تصل حبيبته، في نهاية الفيلم، من آكس، وتدخل بالمؤونة كما وعدته. يُقبّلان بعضهما ويشربان. يروي لها حكاية مؤثّرة عن مرض شخصية من شخصيات روايته الأخيرة بالنسيان المزمن، ويقفلان الأنوار. من مات، في حقيقة الأمر، كان أنا. أنا الذي أكتب هذه النهاية الاعتيادية ولم أشرب قطرة ممّا شرب. أستمرّ في الكتابة إليها، عن حبّي، أكثر منه، أفتح القنينة الأخيرة وحيداً ولا أنوي الخروج، حتى لا تغضب. كم بقي في الخزانة من قنّينة للغد؟ لن أخرج اللّيلة. سأكتب عن تعاسة روحي، وأختبر مقدار الكحول في الذكريات، قبل أن تجرفني إلى الحافة. سأحرق ملخّص "الكينونة والزّمان" وأفتح "رسائل في التّهذيب الجمالي للإنسان" لألخّصها لها، هي دارسة القانون، ألخّصُها وأذيّل الصّفحة رقم 88 كما يلي: يا شامتي، كوني لي، ادخلي قلبي الأحمر النّابض، قلبي المفتوح، قلبي المشرب الصّغير. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته