أمطار وثلوج على عدد من الولايات    وساطة الجمهورية تنظم ندوة حول تعزيز حوكمة المرفق العام بعنابة    بوجمعة يعقد اجتماعا مع الرؤساء والنواب العامين للمجالس القضائية    الدراج الجزائري ياسين حمزة يحتفظ بالقميص الأصفر    سفيرتنا لدى إثيوبيا تفوز بمنصب نائب رئيس المفوضية    الطيب زيتوني..تم إطلاق 565 سوقًا عبر كامل التراب الوطني    وزارة الصحة تنظم فعاليات الأسبوع الوطني للوقاية في تيبازة    الصحفية "بوظراف أسماء"صوت آخر لقطاع الثقافة بالولاية    الشهداء يختفون في مدينة عين التوتة    غريب يؤكد على دور المديريات الولائية للقطاع في إعداد خارطة النسيج الصناعي    خنشلة.. انطلاق قافلة تضامنية محملة ب54 طنا من المساعدات الإنسانية لفائدة سكان قطاع غزة بفلسطين    انخفاض حرائق الغابات ب91 بالمائة في 2024    جانت.. إقبال كبير للجمهور على الأيام الإعلامية حول الحرس الجمهوري    عطاف يتلقى اتصالا هاتفيا من قبل رئيس الحكومة اللبنانية    هذه رسالة بلمهدي للأئمة    تسويق حليب البقر المدعم سمح بخفض فاتورة استيراد مسحوق الحليب ب 17 مليون دولار    فريقا مقرة وبسكرة يتعثران    الجزائر تواجه الفائز من لقاء غامبيا الغابون    متعامل النقال جازي يسجل ارتفاعا ب10 بالمائة في رقم الأعمال خلال 2024    بداري يرافع لتكوين ذي جودة للطالب    معرض دولي للبلاستيك بالجزائر    وزير العدل يجتمع برؤساء ومحافظي الدولة    أمن البليدة يرافق مستعملي الطرقات ويردع المتجاوزين لقانون المرور    توفير 300 ألف مقعد بيداغوجي جديد    هكذا ردّت المقاومة على مؤامرة ترامب    حملات إعلامية تضليلية تستهدف الجزائر    قِطاف من بساتين الشعر العربي    كِتاب يُعرّي كُتّاباً خاضعين للاستعمار الجديد    هكذا يمكنك استغلال ما تبقى من شعبان    شايب يشارك في لقاء تشاوري مع جمعية الأطباء الجزائريين في ألمانيا    الجيش الصحراوي يستهدف قواعد جنود الاحتلال المغربي بقطاع الفرسية    محمد مصطفى يؤكد رفض مخططات التهجير من غزة والضفة الغربية المحتلتين    عرض فيلم "أرض الانتقام" للمخرج أنيس جعاد بسينماتيك الجزائر    المغرب: تحذيرات من التبعات الخطيرة لاستمرار تفشي الفساد    الرابطة الأولى: نجم مقرة واتحاد بسكرة يتعثران داخل قواعدهما و"العميد " في الريادة    موجب صفقة التبادل.. 369 أسيراً فلسطينياً ينتزعون حريتهم    الذكرى ال30 لرحيله : برنامج تكريمي للفنان عز الدين مجوبي    إعفاء الخضر من خوض المرحلة الأولى : الجزائر تشارك في تصفيات "شان 2025"    سلمى حدادي تفتك منصب نائب رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي    تضاعف عمليات التحويل عبر الهاتف النقّال خلال سنة    6 معارض اقتصادية دولية خارج البرنامج الرسمي    الديوان الوطني للمطاعم المدرسية يرى النور قريبا    "سوناطراك" تدعّم جمعيات وأندية رياضية ببني عباس    انطلاق التسجيلات للتعليم القرآني بجامع الجزائر    تنسيق بين "أوندا" والمنظمة العالمية للملكية الفكرية    22 نشاطا مقترحا للمستثمرين وحاملي المشاريع    حمّاد يعلن ترشحه لعهدة جديدة    دراجات: طواف الجزائر 2025 / الجزائري ياسين حمزة يفوز بالمرحلة السابعة و يحتفظ بالقميص الأصفر    محرز ينال تقييما متوسطا    كيف كان يقضي الرسول الكريم يوم الجمعة؟    سايحي يواصل مشاوراته..    صناعة صيدلانية : قويدري يبحث مع نظيره العماني سبل تعزيز التعاون الثنائي    وزير الصحة يستقبل وفدا عن النقابة الوطنية لأساتذة التعليم شبه الطبي    وزير الصحة يستمع لانشغالاتهم..النقابة الوطنية للأسلاك المشتركة تطالب بنظام تعويضي خاص    وزير الصحة يلتقي بأعضاء النقابة الوطنية للأسلاك المشتركة للصحة العمومية    هذه ضوابط التفضيل بين الأبناء في العطية    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرقابة الذاتية.. عدو الحرية الأول
نشر في النصر يوم 09 - 06 - 2014

لم تعد للرقابة التقليدية سلطة فاعلة على الابداع كما كان الحال في سنوات ماضية، أو أن دورها تقلص بشكل ملحوظ، إلا أن هناك رقابة أخرى،هي رقابة الكاتب لأدبه وفكره وكتاباته وموضوعاته، هي رقابة داخلية، تنبعث من الكاتب نفسه. فهل يرى الكاتب أن هذه الرقابة ضرورية، أيضا متى يكون ظهور الرقيب الداخلي ضروريا ولازما؟، وهل الرقابة الذاتية لا تتعارض مع حرية الكتابة والابداع؟. وهل بإمكان هذه الرقابة أن تُطبق وتُجهز على حرية الكتابة؟، أم أن عدم تملص وتخلص أغلب الكُتاب منها دليل آخر على ضرورة توفرها.
كُتاب ونُقاد،يتحدثون في ندوة "كراس الثقافة" لعدد اليوم، عن الرقيب الذاتي/ الداخلي، الذي يظل يمارس دوره تماما كما لو كان شريكا في العملية الإبداعية.
إستطلاع/ نوّارة لحرش
أمين الزاوي/ روائي و أكاديمي
لا تخيفني ذاتي حين الكتابة و لكن صورة القارئ العربي تخيفني
في رأيي، إن أكبر خطر وأكبر رقيب على الإبداع الحر في الثقافة العربية المعاصرة هو القارئ العربي الذي أنتجته قرون من تراكمات الثقافة المتعصبة الدينية، القارئ العربي، وفي حالة الجزائر القارئ المعرب، يخيفني كثيرا وأفكر في عنفه وتشنجه الخارج-تاريخي أكثر ما أفكر في رقابة مؤسسات الدولة.إننا حين ننتج أدبا خارج المقاييس المتعارف عليها، مع أنني لا أومن بأن هناك مقاييسا متعارف عليها في الأدب من حيث شكل التناول والموضوعات المطروحة، حين ننتج نصا خارج نصوص القطيع نشعر بنوع من الخوف من قارئ معرب قد يسقط بين يديه النص الروائي، وأقول يسقط بين يديه، لأن ليس للقارئ بالعربية تقاليد قراءة الرواية، لذا فقراءته إما مغرضة أي بنية التصيد، أو قراءة بالصدفة ومرات تكون القراءة بحكم الواجب البارد "عمل جامعي"، وفي كل هذه الحالات فهي قراءة غير متحررة من الذاكرة الدينية السياسية المتعصبة، لذا فالخوف الفاناتيكي يجيء من مثل هذه الحالات السائدة في الثقافة العربية وفي أوساط القارئ المعرب.
إن الذي يقرأ الرواية من منطلق الفقيه أو رجل الدين أو الإمام أخطر بكثير من ذاك الذي يقرأها بعين رجل المخفر والشرطي، لأن الأول ينتمي إلى الغوغاء وهي قادرة على إنتاج الفتنة في المجتمع والثاني ينتمي إلى مؤسسة قمعية دون شك ولكن لها تقاليد المجتمع المدني.
أمام خوفي من القارئ العربي والمعرب، لا أريد أن أعمم لكن الاستثناء يؤكد القاعدة، حين أكتب أحلم بيوم يتم فيه الفصل ما بين الإبداعي من جهة والديني من جهة ثانية في رأس وتقاليد القراءة عند القارئ العربي والمعرب، وقتها تتحقق حرية المبدع ويتخلص من الخوف الساحق: الخوف من القارئ الببغائي الفناتيكي.
وأعتقد أن الكِتابات التي يعاديها القارئ المعرب ويمارس ضدها الترهيب هي تلك النصوص الإبداعية التي تعمل على خلخلة الجاهز القائم في نمط الثقافة والفكر وفي نمط الحياة، فالقارئ الببغائي كلما شعر بأن إبداعا يهز الأرض من تحت قدميه يمارس الهجوم من موقع غير موقع الأدب، يمارس الهجوم من موقع الفاناتيك الديني والمعاداة للمختلف وللآخر. من هنا يصبغ على كل إبداع يذهب مذهب الحداثة المناهضة للتقليدية الماضوية وللتكلس بأنه إبداع غريب وشاذ وأن غرابته وشذوذه من نتاج التأثر بالآخر وهي تُهم مؤسسة على فوبيا الآخر وهي دعوة تريد عزل الثقافة العربية عن الثروات الإنسانية وقطعها عن كل سياقاتها التاريخية.
شخصيا لا تخيفني ذاتي حين الكتابة، لأنني وأنا أطرح وأسائل في رواياتي جميعها (منذ أول رواية لي وهي "صهيل الجسد " وحتى آخر رواية لي كتبتها بالفرنسية وهي "آخر يهودي تمنطيط" مرورا ب: "الخنوع"، "حارة النساء"، "شارع إبليس"، "لها سر النحلة"، "حادي التيوس"، "غرفة العذراء المدنسة"، "وليمة الأكاذيب"، "يصحو الحرير"، "الرعشة"، "السماء الثامنة"...) الموضوعات الممنوعة كالجنس والدين والسلطة والمرأة وهي الموضوعات التي لا تغفل عنها عين الرقيب الديني والسياسي المؤسساتي، حين أقارب روائيا هذه الموضوعات، أقاربها من باب المعرفة، فبقدر ما أكتب روايات للمتعة إلا أنها روايات عالمة في التراث وبه، فتكسير الطابوهات ليس لعبة مراهقة أدبية إنها عمل إبستيمي معرفي مؤسس على القراءة والسؤال والمعرفة، أنا ضد تكسير الطابوهات المجانية التي يكون فيها النص ينزلق على مسألة الغواية أو الاستفزاز المجاني، تكسير الطابوهات عملية تاريخية مارسها الفلاسفة العقلانيون والأدباء الذين انتموا إلى فلسفة العقل وإلى وهج الحياة سواء في الثقافة العربية- الإسلامية-أو الثقافات الإنسانية بشكل عام، فلا أحد يمكنه أن يمحو أو ينسى أسماء كانت ولا تزال رموزا لتكسير الممنوع من أمثال: أبو نواس وبشار بن برد وابن الحجاج والجاحظ والمعري وغيرهم وقد ظل هؤلاء عيون الأدب العربي على الرغم من أنف حراس المعبد.
أكتب بحرية لأنني أعتقد أن الأدب توأم الحرية، ولا مساومة في الكتابة الإبداعية، أكتب دون التنازل عن قناعاتي ولكن صورة القارئ العربي والمعرب تخيفني وهي حاضرة بين الفينة والأخرى ولكني أحاربها. انطلاقا من ذلك فأنا لا أخدع قارئي حين أنتقل من الكتابة بالفرنسية إلى العربية أو العكس، فرواياتي باللغتين تتناول ذات الهموم وذات الأسئلة دون خديعة القارئ، وأعتقد أن هذه هي المقاومة في الأدب.
عبد القادر رابحي/ شاعر و أكاديمي
الكاتب لا يزال يحافظ على هذا الحارس "الرقيب" بوصفه سادنا لمعبد الوعي في ذاته
الرقابة الخارجية حاضرة في لاوعي الكاتب نظرا لقوة وقعها وأثرها في مسار ما يعتقد الكاتب أنه نضال طويل ومستميت من أجل الوصول إلى التخلص من إكراهات الرقابة الخارجية التي فُرضت عليه، وكذلك نظرا للدور الذي قامت به في تسقيف حلم المبدع بسبب الظروف التاريخية المعروفة. ولذلك فإن الكاتب لا يزال يحافظ على هذا الحارس بوصفه سادنا لمعبد الوعي في ذاته خوفا من انفلات ما يحويه من عقد نفسية وتاريخية، وربما ربّاه وأطعمه وسقاه، لضرورة ما يراه الكاتب من دور لهذا السادن لا تتحقق إبداعية الكاتب، فيما يعتقد أنه إبداع، بدون حضوره النّاظم لتوترات الوعي بالذات وبالحرية، والناظم، من ثمة، لدفعات الخوف من الآخر الذي تحول من السلطة القامعة القاهرة إلى الخوف ممّا أصبحت السلطة نفسها تخاف منه. أن تتحرر من هذه الرقابة لا يعني بالضرورة أنك أصبحت حرّا.
ربما تكمن هنا المشكلة. مشكلة أن الكاتب لا يزال يقطع حياة الكتابة التي يدّعي أنه تحرر من عوائقها، حاملا معه هذا السادن/ القناع الذي يُحمِّله في النهاية كل خيباته الموقفية وفشله في التحرر ممّا ينتجه من عوائق ذاتية تسنده في الاعتراف بأن التحرر من أعباء ما ننتجه من تراكم إبداعيّ ومعرفي يعكس صلتنا الباطنة القوية بمرحلة الرقيب الخارجي. والمشكل أن الرقيب الخارجي استطاع التحرر من السوط، بينما لا زالت آثار هذا السوط بارزة في ما يكتبه الكاتب من خلال عدم قدرته على التحرر من الجلاد الذي تحول هو الآخر، نظرا لاعتبارات تاريخية إلى غول رمزيّ يخيف الرقيب الخارجي والكاتب معا.
لعلنا نتذكر جميعا كيف كان الكاتب في العالم العربي يصور ما وصفه في مرحلة الستينيات وما بعدها بالثالوث المحرّم، الدين والجنس والسياسة، وكيف أن الكُتّاب الأكثر جرأة في ذلك الوقت كانوا يشيرون من بعيد إليها، ويصورون خطورة التعرض لها في كِتاباتهم، ويعلقون عليها فشلهم في تجاوز الخوف الرهيب من الرقيب الداخلي الذي ولد وتربى مع نمو الأنظمة الدكتاتورية والإيديولوجيات المغلقة الناشئة مع الدولة الوطنية المستقلة في العالم العربي خاصة.
في وقتنا الحاضر أصبح الجميع يخوض في الدّين وفي الجنس وفي السياسة من دون رقيب خارجي ومن دون سقف مسبق أو حدود مرسومة مسبقا نظرا لتغيّر الشرط التاريخي والظرف السياسي والاجتماعي. لكن، هل يعني هذا أن الكاتب حقق فعلا حرية ممارسته للكتابة من خلال التخلّص النهائي من الرقيب الداخلي الذي زرعه الخوف من الرقيب الخارجي في بطنه؟ وهل يعني أنه تجاوز الوعي الفلسفي والوجودي بهذه الإكراهات التي زرعها الرقيب الخارجي باعتبارها دليلا على زمنية تسقيف الحرية نظرا لخصوصية المرحلة التي وضع فيها هذا التسقيف؟ وهل يعني أن انتقاله من الخوف من الرقيب إلى الخوف من الثالوث المحرم هو دليل امتلاكه لإرادة تسقيف الحرية كما يشاء، أم هو مجرد تحريك الكاتب لعينه إلى حقل خوف جديد من دون أن يتحرر من الخوف من شيء ما؟ بمعنى هل التخلص من الرقيب الخارجي هو مجرد تغيير لموقع الخوف في حين أن كاميرا الكاتب الخائفة هي نفسها لم تتغيّر؟.
ثمة حقول باطنة لا زالت ملغمة بطريقة معقدة جدا في ذات الكاتب وفي لا وعيه لا يملك الكاتب نفسه خرائط انتشارها في الذات المبدعة. وقد يرمز التعرض العشوائي المستمر لما يحمله هذا الثالوث المحرم من حقول جديدة بالنسبة لكاتب يعتقد أنه يستطيع من خلالها تحقيق حريته التي سلبها منه الرقيب الخارجي لزمن طويل، إلى ما يعانيه الكاتب من عدم قدرة على الوعي بما سلب منه طيلة هذا الزمن وهو ما يمكن أن نضيفه لخوف الكاتب من العناصر الثلاثة السابقة وهو الخوف من الحرية نفسها.
عبد الوهاب بن منصور/ كاتب و روائي
لا أحد يكتب متخلصا منها
قبل زمن التكنولوجيا، وقبل سقوط كل الجدران بدءا بجدار برلين إلى جدران بيوتنا ومنازلنا أمام أنوار الفضائيات ومواقع التواصل، التي لا قيد لها غير قيد ضغط الزّر، لم يكن للرقابة، بأشكالها التقليدية وطرقها القمعية من منع وحظر وقتل، فاعليتها وجدواها، ولنا أن نتساءل على سبيل المثال لا الحصر، هل كان لصلب الحلاج "القرن الرابع الهجري" منع من وصول فكرته وتداولها وحتى تبنيها؟. وهل ماتت أفكار ابن رشد بعد حرق كتبه؟ هل كان حظر كِتاب أو مقال أو سجن كاتب أو قتله كافيا لردم فكرته ورأيه؟. إن الرقابة، سياسية أو دينية أو أخلاقية كانت، لا يمكنها بحال أن تحدّ من خروج النص الأدبي أو الأثر الفني للناس وتقاسمه معهم. وفي حياتنا المعاصرة لنا نماذج كثيرة ومختلفة التوجهات والآراء تبرهن عن ذلك.
إنّ الكتابة، كأثر يتعذّر محوه بالقمع أو المنع، تملك سلطة المقاومة والاستمرار. مقاومة الزمن وتقادمه. مقاومة النسيان بكل أشكاله. لذلك فإن محوها أو تصحيحها لا يتم إلاّ بكتابة موازية ومضادة.لكن هل الكاتب حر؟ يمكنه أن يكتب ما يشاء وما يرغب؟ يرى رولان بارت، أنّ الكاتب مهما حاول تحرير كتاباته من كلّ سلطة فإنّه سيظل أسير كتابات الآخرين وحتّى كتاباته السابقة. فالتاريخ عاجز عن توفير لغة يستهلكها الكاتب بحريّة، فيضطر للبحث عن لغة ينتجها بحريّة. لأن اللغة ليست بريئة وتملك ذاكرة استخداماتها السابقة. لذلك كانت الكتابة تراض أو ميثاق بين ذكرى وحرية وبتعبير أدق لحظة حرية. حرية الاختيار. اختيار الكتابة.
إنّ الكتابة تنشأ من مواجهة "مهما كانت سماتها" بين الكاتب ومجتمعه، فيحاول أن يتخلص من كلّ ما يمكن أن يحدّ من حريته. وقد كان الثالوت المحرّم "الجنس والدين والسياسة" يشكل هدفا لخرقه كتعبير عن مدى هذا التحرّر. لكن الحقيقة الآن أظهرت أنّه مهما بالغنا في خرق هذا الثالوث فإننا مجبرون، بعلم أو بغير علم، على التقيد بما تحمله اللغة من ذاكرة.إن الكاتب لا يكتب ويبدع لنفسه، فالكتابة لا معنى لها إلاّ في عين رائية/قارئة أو أذن سامعة، لذلك قد يلجأ لاستحضار أو تخيّل هذا القارئ /المتلقي بكل تكويناته الدينية والسياسية والأخلاقية، فيسقط في فخ الكتابة على قياس المتلقي دينيا أو سياسيا أو أخلاقيا.
إنّ محاولة التخلص من الرقابة الذاتية أو غيرها هي محاولة فاشلة لا شك في ذلك ما دامت الكتابة لم تتخلص من ذاكرة لغتها. وبالتالي، أعتقد أن لا أحد يكتب متخلصا من الرقابة الذاتية، عدا بعض الصوفية الّذين تمكنوا من تفريغ اللغة من حمولتها الأولى بقصد الكتابة متخلصين من كلّ رقابة. فهذا ابن عربي يشير إلى أن بعض ما كتبه كان بأمر من رسول الله ثم يقول ما يكتب متخلصا من كل رقابة ذاتية أو غير ذاتية. ألم يقل بارت، أنّ مهمة الكتابة هي أن تضع القناع وفي نفس الوقت أن تشير إليه.
قلولي بن ساعد/ قاص و ناقد
"الرقابة المسبقة المعيارية" تتنافى مع حرية الإبداع
إذ كان المقصود بالرقابة الذاتية، تلك التي يفرضها المبدع على نفسه لحظة كتابته للنص الإبداعي الذي يحمل توقيعه و"هويته النصية" ويقدمه إلى القارئ بكل تراكماته ومكوناته النفسية قبل أن يفرضها عليه الآخر، أعني هنا المتلقي، ودعوني أسميها هنا "الرقابة المسبقة المعيارية"، تتمثل في استحضاره للرقيب السياسي أو الديني أو الأخلاقي أو الإجتماعي، بإعتبار المبدع فرد من المجتمع الذي إستكان لبعض اليقينيات العمياء أو صدقها ولا يقبل مطلقا أي إختراق لطمأنينته ولو كمعطى إبداعي، خاصة إذ كان النص يتناول بعض موضوعات القهر السياسي والإجتماعي والديني الذي بلغ ذروته في مرحلة ما بعد جلاء الإستعمارالتقليدي عن بلداننا العربية بلغة عارية من كل مساحيق النفاق الإجتماعي وقيم "الطاعة الإبداعية" أو مصادر النسق الثقافي الأبوي الرمزي التي تريد أن تسجن الكتابة الإبداعية داخل أطواقها المغلقة المحافظة التي تتنافى مع ثورية الإبداع، وهو ما تريده بالضبط أنظمة الحكم العربية الشعبوية القائمة التي ليست من مصلحتها مطلقا أن يحتفظ المجتمع العربي بحقه المشروع في التحرر نهائيا من كل عقده ومكبوتاته السياسية والإحتماعية والذاتية كون التحرر السياسي الجذري الصادم للوعي البائس يبدأ أولا من تحرر الذات، فهذا النوع من الرقابة بالطبع يتنافى تماما مع حرية الإبداع الذي لا ينمو إلا في أجواء الحرية دون قيد أو شرط، أما إذ كان المقصود بالرقابة الذاتية معنى آخر وهي "الرقابة البعدية" إن صح التعبير، أي تلك التي يلجأ إليها المبدع بعد إفراغه لشحنة النص كنوع من النقد الذاتي الذي يمارسه المبدع على نصه بحثا عن الحد الأدنى من المعقولية الإبداعية بما يترتب عن ذلك من أسئلة وهواجس، وهنا يلجأ إلى استحضار رقيب آخر في لاوعيه وهو الناقد المتخصص الذي سوف يتناول عمله بالنقد والتحليل أو حتى المترجم إذ ما وضع في ذهنه أنه من الممكن أن تمتد يد الترجمة لنصه إلى لغة أخرى وغير ذلك مما يسمى في لغة النقد الحديث "أفق التلقي" فهذا النوع من الرقابة ضروري ولا بد منه وتمليه جملة من الإعتبارات النفسية والموضوعية وهي شائعة التداول في كل الآداب ولا أعتقد أن هناك من يعترض عليها أو يتحقظ بشأنها تحت أي مبرر.
محمد الأمين سعيدي/شاعر و أكاديمي
تتنافى مع جوهر الإبداع
تتأسَّسُ الرقابةُ على عداوةٍ لتفكيراتِ الفرْد وخصوصيّته، لأنَّها عادةً ما تبرِّرُ لشنائعها في حقِّه ومحاصرتها له بانتهاكه للعرف في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والدِّينية. هذا ما يجعلُها الوجهَ الأوضح للأحاديَّة المقيتةِ التي ترحِّبُ بالتشابه وتجعلُ منه أساس بنية التفكير في شؤون الحياة، كما تضيقُ بالاختلافِ لأنَّها تدركُ بأنَّه الاتّجاه الأمثل لزوالِها الأكيد. من هنا، وقبلَ الحديث عن الرقابة الذّاتيّة، لا بدَّ من الاعتراف أنَّ العالمَ العربيّ لا يزال غير قادر على تقبُّل المختلف، لأنَّ سيف الرّقابة يتوهَّمُ، في المجالين الاجتماعي والدِّيني، بأنّه يمتلكُ الحقيقة وبأنّه حارسُ النوايا بزعْمٍ هزيلٍ يخوِّف النّاسَ من بعض الأفكارِ التي لا تخيف أصلا. وفي المجالِ السياسيِّ يستند سيف الرّقابة على المجاليْن السابقين لينالَ شرعية باطلة يصفِّي بها أعداءه ومعارضيه، وهذا ما يحدثُ في بعض المجتمعات التكفيرية التي تقتلُ باسم الدّين خصومها السياسيين من كتّاب ومفكرين ونخبٍ. ومأساة نصر حامد أبو زيد ليستْ بعيدة، ومثيلاتها كثيرة.
هذه الرّقابة العامَّة، الجماعية إنْ صحّ التعبير، هي التي تؤطِّر الرّقابة الذاتيّة لدى بعض الكتّاب، لأنَّ هذه الأخيرة، وإنْ تحجَّجتْ بالمنطقِ وادّعتْ بالبرهان العقليّ فهي نتاج الرّقابة الأولى، لأنّها نشأتْ عليها وانبنتْ رؤيتُها على أرضيّتها. هذا ما يسمّيه د.علي الورديّ ب"الإطار الفكري"، ويرى من خلاله العقل، في كتابه"مهزلة العقل البشريّ"، محاطا بغلاف سميكٍ، وأنَّ"النطاق الذي تنفذ من خلاله الأدلّةُ العقلية مؤلَّف من تقاليد البيئة التي ينشأ فيها الإنسان".(ص55). هذه مهزلة الرقابة الذّاتيّة أيضا، إذْ يتوهَّم صاحبُها بأنَّ عزوفه عن بعض الأفكار والموضوعات هو قناعة ومبدأ لأنّه قلّبها فوجدها غير مهمّة للكتابة، لكنّ الحقيقة المرة التي لنْ يقبلها، لأنّه لا يشعرُ بها لتمركزها في لا وعيه، فهي أنّه يعبِّر عن تلك الرقابة الجماعية، ويستحضر وهو يكتبُ دون شعور منه أنيابها الكثيرة المسلّطة عليه.
تتنافى الرّقابة مع جوهر الإبداع، لأنَّ هذا الأخير ينطلق من الحرية ليسبر أعماق النفس الإنسانية وهي ترى إلى كلّ شيء بعين النقد والشكِّ واللا يقين، وليعبِّر عن قيَم الإنسان وخوالجه ورغباته جميعا دون تقديس لبعضها أو تدنيس لأخرى. أمَّا الرّقابة فهي نقيض لذاك الجوهر الإبداعيّ والفنِّيّ لأنّها تنطلق من تأطير التفكير وترشيد وجهته، وهذا لا يعني مطلقا بأنَّ الرقابة راشدة، بل ينطبق عليها تماما بيتُ بشَّار بن برد:"أعمى يقود بصيرا لا أبا لكمُ/قد ضلَّ من كانتِ العميانُ تهديهِ".
بقيَ وجهٌ أخيرٌ من وجوهِ الرّقابة في العالم العربيّ، وهو في الحقيقة يُدخِلُ كثيرا من الكتّاب إلى مأزَقٍ أخلاقيٍّ كبير، إذْ لا يعبّرونَ حقًّا عمَّا يفكّرون فيه خوفًا من دكتاتورية الرّقابة، وإذا كان كاتبٌ جزائريّ قد لا يشعر بهذا كثيرا إمَّا لانفتاحٍ أو لأنَّ النّاسَ لا تقرأ لتهاجم، مع وجود تجاوزات كالدعوات التي رأينا مؤخرا لحرق كتب أدونيس مثالا، إلا أنني أتساءلُ حقا كيف يمارسُ الكتابة أصدقاء الكلمة في البلدان التي فيها لجنة الحل والعقد، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترسانة من التكفيريين والمتشدِّدين الذينَ لا يطفئ نارَهم إلاَّ رؤية رأس مبدعٍ أو فنَّان يتدحرجُ بسبب ضربة سيَّافٍ يختصر كلَّ تاريخ العنف وحاضر الرجعية والتخلّف.
لونيس بن علي/ ناقد أدبي
الابداع هو ما يمنحنا الوهم بالحرية
حين نتحدث عن "الرقابة" في الابداع، فإنّما المسألة في جوهرها تطرح جدلية الابداع والحرية. هل المبدع حر في أن يكتب ما يشاء. ما هي حدود الإبداع. حين كتب دان براون روايته "شيفرة دافينشي" لم تخرج الرواية إلى العالم دون أن تثير اللغط الإعلامي، ودون أن تستفز المؤسسة الدينية المسيحية، والسبب أن الروائي قد طرح موضوعا هو من المسكوت عنه في الثقافة المسيحية، وهو علاقة المسيح بمريم المجدلية، وانجابه منها ما يمكن أن يكون السلالة السرية للمسيح التي تحمل دمه المقدس. هل كان لدان براون الحق في أن يكتب في مثل هذه الموضوعات. طبعا انفجار النقاش والذي طال حتى غرف القضاء كان بسبب ما يمكن تفسيره بتجاوز الكتابة لحدودها المرسومة لها سلفا، فوجد براون نفسه بين حرية الإبداع وبين قيود المؤسسة الدينية والسياسية.
إنها الجدلية الأبدية بين الإبداع والحرية، الإبداع لا يعيش إلا في سماء مفتوحة على الممكن، هو قفز على السائد، وعلى المألوف...إلخ، لكن، إذا كان للمبدع القدرة على التحايل على الرقابة الخارجية، فكيف يمكن له أن يتجاوز رقابته الذاتية. هل يمكن للمبدع أن يتحايل على رقابته الخاصة. وكيف تتجلى هذه الرقابة. في أي مستوى. كلنا حين نكتب نسمع صوتا خفيا ينبعث من مكان ما في أنانا العليا، وصوتا آخر ينبعث من أغوار الهو السحيقة حيث تتحرك هناك كل تلك الرغبات المحرمة. أعتقد أن الابداع هو صوت لتلك الرغبات المحرمة التي تقاوم سلطة الأخلاق والقيم، ذلك الصوت المكبوت الذي من فرط ما يمارس عليه من قمع تاريخي وسياسي وأخلاقي يزداد عنفا. يبدو الجميل متواطئ مع ذلك الجزء الخفي والموغل في اللاأخلاقية واللاإجتماعية، الجميل هو بطبيعته الوجه العنيف في كبتنا الفردي أو الجمعي، هو طقوسية تحرير الصوت الدفين في الذات.لا يمكن أن يكون اللاأخلاقي دائما هو وجه للقبح، هو أيضا وجه للجمال الذي يفجر وعينا. الوعي الجميل بحرماننا الأبدي من الحرية.الابداع هو أكبر دليل على أنّ الإنسان لا يعيش حريته إلا كوهم يتجسد في الحكايات والأساطير والروايات والقصائد...في ذلك المكان الوهمي الذي تؤثثه الكلمات، يعيش حريته، قبل أن يعود إلى الواقع بقيوده الثقيلة.
عبد القادر برغوث/ قاص و روائي
ولدنا و بُرمجنا على مستويات عدة من الرقابة الذاتية
مما لا شك فيه أن النص الأدبي والإبداعي خاصة لابد أن يكون لديه "هامش كبير من الحرية"، لأن الرقابة تعني موت وتهجير العقول والتفكير وإلغاء العقل والحياة، لا أحد ينكر أن هناك حرية لابأس بها في الآونة الأخيرةصار يتمتع بها وفيها النص الأدبي، وهذا ما يفسر ما نراه من انفتاح معتبر على الأقل من ناحية الكم في النص الأدبي والإبداعي، ومع ذلك لازلنا نشعر بوطأة الرقابة والرقابة الذاتية تحديدا وخاصة إذا حدث إلتماس مع المحرمات الثلاث الدين والجنس والسياسة،خاصة مع وجود مؤشرات خطيرة تدل علىاتجاه المجتمع والركون إلى النقل والأفكار الجاهزة وحتى المستهلكة وتفضيله على التفكير واكتشاف مساحات جديدة من الحرية والتنور، ولهذا لازلنا أبعد من أن نتحدث عن الحرية الحقيقية التى لابد أن تتوفر للكاتب،فلم نر نصوصا من الجرأة والقوة تتحدى ثالوث الموت وتطرح قضايا شائكة وحساسة تعنينا حقا وتهدد وجودنا في كثير من الأحوال.
ربما ليس هناك حرية مطلقة، على الأقل على مستوى الكلمة والفكرة كما قال ابن عربي "الكلمة قيد والحرف قيد" ولهذا نحن نتحدث على مدى رحابة هامش الحرية الذي يمكننا أن نتصالح مع أنفسنا وماضينا وجسدنا وتفاصيل حياتنا النفسية والاجتماعية والسياسة،لازلنا لحد الساعة لم نملك من الجرأة أن نعيد على الأقل طرح أفكار المتنورين كابن رشد وحامد أبو زيد وأركون...أوحتى اكتشاف حدودنا الجسدية والسياسية،بل صار الأمر عندنا أشبه مايكون بسترة "ستوندار" نلبسها في كل مناسبة كتابة ما تقينا ضوء الشمس والحر والخوف وحتى الجوع ربما، وسيف العيب والتجريم والتحريم مسلط على رقابنا ولو بشكل موارب مختفي متغلغل بين ثنايا ما نفكر فيه أو مانحسه ونشعر به. وبما أن الأفكار كأنوار الشمس تنتشر حيث لا توجد هناك حدود، وبما أننا ولدنا وبُرمجنا على مستويات عدة من الرقابة الذاتية وغير الذاتية فلابد أن نجد حلا ما يوافق بين التفكير والسماح بالحد الأدنى من الحدود التى لا تعطل أحدا إذا أردنا الحياة. أنا لا أعرف كيف بالضبط ولكن ما أعرفه حقا أن حرية التفكير والحلم هي جوهر الحضارة وخلاصة مئات أجيال لاتنتهي من التطور للفكر،أما الجمود وانحصار العقل والحوار فيعني الموت والفناء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.