الحفريات الفرنسية ذات نزعة استعمارية لذلك يجب إعادة النظر فيها أجرى الحوار عمر شابي وصف الباحث الأركيولوجي من جامعة برينستون الأمريكية ماتيو أم. ماكارتي الحفريات التي قامت بها فرنسا في الجزائر بغير المنصفة و ذات النزعة الاستعمارية، مما أفقدها جدواها العلمية، رغم أنها ألقت الضوء على حقبة مهمة من تاريخ سكان شمال أفريقيا عموما و الجزائر على وجه الخصوص، و قال في حوار للنصر على هامش الملتقى الدولي المنظم حول شخصية ماسينيسا من طرف المحافظة السامية للأمازيغية، أن الحقيقة التي تعمد الفرنسيون إخفاءها موجودة في مدن نوميديا قبل الاحتلال الروماني، داعيا إلى تجرد أكثر في البحث عن المصادر الأركيولوجية المعاصرة لقيام أول دولة نوميدية وحدت قبائل الماصيل في الشرق الجزائري و الماصيسيل في الغرب بقيادة ماسينيسا، معبرا عن أمنيته في المشاركة ضمن فريق بحث أكاديمي ينقب في بقايا مدينة «سيغا» بالقرب من عين تيموشنت الحالية، لإظهار الصورة الحقيقية للدولة النوميدية الأولى في الفترة ما بين فجر التاريخ و غزو الرومان للبلاد. الباحث ماكارتي اهتم بالتنظيم الإداري و القضائي للدولة النوميدية في عهد ماسينيسا و ما بعده و قدم خلال الملتقى محاضرة حول الموضوع تناولت بقاء الحضارة و الثقافة البونيقية و هي حضارة القرطاجيين ممتزجة بالسكان الأصليين سائدة في نوميديا حتى بعد سقوط قرطاجة و هو ما يفسره بأنه تعبير عن رفض الأمازيغ للاحتلال الروماني. سألنا الباحث الأستاذ المحاضر في الأركيولوجيا و التاريخ القديم بجامعة برينستون و هي الجامعة التي كان يقدم فيها ألبرت إينشتاين نظرياته في الفيزياء عن رغبته في القيام بحفريات في مدينة «سيغا» و ليس في عاصمة ماسينيسا قسنطينة التي ينطقها «كيرتا» و يقول إنه اسمها الحقيقي و الصحيح كما كان يسميها البونيقيون وأضاف: «لا أعتقد أن الفرنسيين تركوا شيئا مهما في قسنطينة عن الدولة النوميدية من نشأتها الأولى و قبل توحيد ماسينيسا للأمازيغ لم يأخذوه معهم، فهناك المئات من النقوش و الحجارة المتعلقة بتلك الفترة موجودة في متحف اللوفر بباريس، و الجزء الذي لم يتمكنوا من نقله قاموا بطمسه و هو ما يزيد من تعقيد مهمة الباحثين في الآثار عن تلك المعالم الناطقة و التي تدحض الكثير من روايات المؤرخين، لأن معظم مؤرخي تلك الفترة على قلتهم لم يكونوا حياديين بالكامل كي نثق في قصصهم، بينما الحفريات الأثرية و البحث الأركيولوجي العلمي الدقيق هو الطريقة العلمية التي لا يرقى إليها الشك في تقرير ما كان سائدا في تلك المرحلة من فجر التاريخ». فرنسا سرقت آثار نوميدية من قسنطينة وطمست أخرى النصر: هل تعتقد أن الأركيولوجيين الفرنسيين كانوا متحيزين في أعمالهم؟ ماكارتي: نعم و قد كانت النزعة الاستعمارية تقودهم في كل أعمالهم الأثرية التي قاموا بها، كانوا يريدون تبرير وجودهم في الجزائر بالتوقف عند مجىء الرومان و يريدون أن يقولوا للعالم أن هذه البلاد لم تكن شيئا قبل وصول الجيوش الرومانية، هذا تحامل كبير على التاريخ و علم الآثار، لكن الفرنسيين الذين رأوا أنفسهم في بداية احتلالهم للجزائر ورثة للرومان في المئة الثانية قبل ميلاد المسيح، اهتموا بشكل خاص و متحيز بالفترة الرومانية و تناسوا ما سواها و ما قبلها من حقبات تاريخية عامرة و مليئة بالحفريات، فلم يكن ماسينيسا بالنسبة لهم سوى حليف للرومان أقام دولته بمساعدتهم، لذلك كانت المصادر الفرنسية تتناول الأركيولوجيا في المنطقة من هذا المنظور و من المهم البحث حاليا في المرحلة التي سبقت الوجود الروماني في شمال أفريقيا. هل تقصد البحث الأكاديمي التاريخي في المصادر القديمة و إعادة قراءتها أم تريد بحثا جديدا، خاصة و أنكم تقومون بأبحاث تتعلق بما جرى على حدود الإمبراطورية الرومانية و من هذه الحدود طبعا الدولة النوميدية؟ بالفعل أنا أريد البحث الأركيولوجي في المواقع الأثرية، و ما دامت قسنطينة قد تعرضت لعملية مسح لا أقول تامة و منتهية، لكن بشكل أكبر و أشمل من مدينة أخرى مهمة و كبيرة هي «سيغا»، فقد يكون البحث هناك مدخلا لفهم مرحلة أراها مهمة في تاريخ الدولة النوميدية و هي الفترة السابقة للرومان و هنا ينبغي التركيز حسب رأيي على نشأة الكيانات السياسية و الاجتماعية المحلية، التي شكلت فيما بعد الدولة النوميدية، و ارى أن هذا الأمر يهم الجزائريين أكثر من سواهم لأنه متعلق بتاريخهم و ماضيهم و هويتهم، و لا أرى أحدا يقوم بهذا العمل نيابة عنهم، لذلك أدعوا إلى القيام بأبحاث أثرية في مواطن الدولة النوميدية و مدنها في تلك المرحلة التي أعتقد أنها حاسمة، خاصة و أن الكتابات الأدبية و التاريخية الإغريقية و الرومانية لم تقدم لنا صورة واضحة عنها، بينما يتيح لنا البحث الأركيولوجي معرفة كيف كانت حياة الناس و كيف كان تنظيم مجتمعاتهم. بخلاف «سيغا» هل ترى أن هناك مواقع أخرى قد تحمل جديدا لمجال البحث في تلك المرحلة التي تراها حاسمة؟ نعم هناك الكثير ذكرت لك مدينة «سيغا» لأنها كانت نظيرة لكيرتا عاصمة دولة ماسينيسا، لكن بالتأكيد هناك بقاع واسعة من منطقة الأرواس لم تكتشف كنوزها الأثرية بعد و هناك تيمقاد التي يتم تقزيمها في كونها مدينة للحامية العسكرية الرومانية، بينما هي مدينة أقدم بكثير من الرومان ويدل على ذلك اسمها الذي لا يمكن إلا أن يكون بربريا و قد كانت على تماس مع حضارة قرطاج، و بطبيعة الحال لا يمكن أن نغفل كيرتا و ما حولها أو سيرتا كما سماها الرومان فهي مكان أثري مهم و ربما لا يزال غير مكتشف بالكامل. هل ترى أن بعث اللغة الأمازيغية و تعليمها عنصرا مساعدا على قراءة صحيحة للتاريخ من منظور علم الآثار (الأركيولوجيا) و هل ترى أنها لغة لا تزال حية و ليست في طريق الإنقراض؟ اللغة الأمازيغية يكون الاهتمام بها مساويا للاهتمام بالتاريخ القديم للمنطقة ككل، و معرفة اللغة يساعدنا على فهم و معرفة ثقافة شعب بكاملها، و أعتقد أن الأمازيغية لا تزال لغة حية لا أقول أنها حيوية فلديها العديد من الفروع و لا تزال لغة متداولة لدى الكثير من السكان في المنطقة بصيغ مختلفة و متباينة للوهلة الأولى بينما هي في الحقيقة جذر واحد و لكنني لست عالم لغة لكي أستطيع أن أحكم في الموضوع فقط أتحدث عن اللغة الأمازيغية في نطاق ما يعنيني كباحث أركيولوجي مهتم بجزء من حدود الإمبراطورية الرومانية، و بالتالي فأنا أحبذ أن تتم كتابة الأمازيغية بخطها الأصلي الذي هو تيفيناغ، لكن المشكلة هي أن جميع الحروف و الأصوات في تيفيناغ ليست موجودة حاليا و هذه عقبة كبيرة في طريق تدريس و إعادة إحياء اللغة الأمازيغية، بقي الآن على أصحاب الشأن أن يقرروا كيف يكتبون لغتهم بالحروف اللاتينية أم بالحروف العربية و عليهم في هذه المسألة الاختيار ما دام خطها الأصلي غير متوفر بالكامل. افضل ان تكتبوا الامازيغية بالتيفيناغ هناك من يرى أن الاهتمام بالبعد الأمازيغي يتعدى حدود دول شمال أفريقيا و يجمع بين شعوب على طول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط و حتى إلى جزر الكناري في المحيط الأطلنطي، هل تراه عامل توحيد أم مجرد نزوة عابرة فجرتها ثورات ما يسمى «الربيع العربي»؟ كباحث أفضل أن أبقى بعيدا عن هذا الموضوع، لكنني كمؤرخ أقول لا يمكننا أن نحكم على مجريات الأوضاع إلا بعد فترة من الزمن، معروف أن للتاريخ هزات و حركات صعود و نزول، و على المدى البعيد أرى أن الأمر لا يمكن أن يكون سوى إيجابيا، جيدا و حسنا، لكن علينا مع ذلك تصحيح أساطير التاريخ و أنا لا أريد خلق أساطير تاريخية و بعث هلوسات جديدة لكن البونيقيين لم يقولوا أبدا أن لديهم في منطق تواجدهم نوميديون و غيتوليون بل قالوا بالاتفاق يوجد من سموهم البربر يعني الأمازيغ في مصطلح آخر. تشعب الحديث مع الأستاذ الباحث الشاب ماتيو ماكارتي إلى جوانب مختلفة و تناول عادات و عبادات النوميديين و دياناتهم و كيف كانت مدنهم دولا على الطريقة البونيقية في عصر حضارة قرطاج يقوم على تدبير الشؤون فيها قاضيان أو أكثر و كيف اعتبر الباحث ماكارتي و زميلته جوزفين كراولي كين الأستاذة المشاركة في التاريخ القديم بجامعة أوكسفور البريطانية التي شاركته تقديم المحاضرة خلال الملتقى أن هذا النظام القائم على إنتشار واسع للغة البونيقية كان علامة مقاومة من السكان للغزو الروماني و لكنه في ذات الوقت كان موجها ضد الملوك المحليين و من هنا نبعت براعة ماسينيسا الذي مزج الثقافات المتعددة التي تراكمت في المنطقة لصالح توحيد أبناء وطنه.