وجه رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة عشية إحياء اليوم الوطني للشهيد الذي يصادف يوم 18 فيفري رسالة هذا نصها: أيتها السيدات الفضليات ، أيها السادة الأفاضل ، إن المبادرة بإحياء يوم وطني للشهيد هي فرصة متجددة نعود فيها بقلوبنا ووجداننا إلى ذكريات وبطولات وصور أولئك الأفذاذ الذين روُوا كل شبر من أرض الجزائر بدمائهم الطاهرة لتورق عزة وكرامة . هؤلاء الذين استحقوا أن يكونوا وساما على صدر الوطن خالدين في ذاكرته متوجين بالإجلال والاحترام والمحبة والإكرام. إننا إذ نقف هذه الوقفة اليوم فإننا نعبر عن وفائنا لرسالة الشهداء وللعهد الذي قطعوه على أنفسهم حين وهبوها من اجل أن تحي الجزائر حرة كريمة منيعة ومهيبة الجانب . لان التضحية بالنفس وفداء القضية المقدسة بما هو أثمن وأغلى ينطوي في حد ذاته على رؤيا يتجاوز فيها الشهيد أعتاب الحاضر الذي كان يعيش فيه ويعمل من أجل تغييره ليلتحم بنور المستقبل وبالأيام الأفضل التي بذل روحه من أجلها وفي سبيلها . لذلك فنحن حين نتذكر الشهداء ونشيد بتضحياتهم فإننا لا نستحضرهم كتاريخ مضى وكبطولات مشهوده وكمواقف متميزة فحسب بل نتذكرهم وهذا ما يجب أن يكون فعلا كمآثر خالدة وكقيم راسخة وكوصية قائمة وكميثاق غليظ نعتمد عليه ونستأنس به في التغلب على مشاكل الحاضر وتحديات الغد واستكمال الطريق الذي ابتدأ معهم ويجب أن يستمر بالإصرار والقوة الذين كانوا بهما يعملون لان الشهادة شرف ووصية في آن معا والوفاء والإخلاص للوصية أمانة وشرف أيضا لا يسوغ التفريط فيه أو التقليل من شأنه . وما من شك في أن اختيار 18 فبراير يوما وطنيا للشهيد منذ 1989 هو برهان على إرادة الوفاء والاستمرار على نهج الشهداء . كما أن اختيار هذا الشهر ليكون رمزا لهم جاء مصادفا لمحطات تاريخية مفصلية ولأحداث مؤلمة تعكس حجم ما عانته الأمة من ويلات القتل والتشريد والفتك بالمستضعفين من الرجال والنساء والأطفال وغير ذلك كثير من صنوف القهر والدمار . ولعل تأسيس المنظمة السرية بتاريخ 18 فيفري 1947 التي مهدت لخيار الكفاح المسلح وكذا طرح القضية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 18 فيفري 1957 كانا من بين أهم تلك المحطات يضاف إليها ما كابدته الأمة في هذا الشهر من محن وأرزاء، منها ما عمد إليه الجيش الاستعماري من إعدام لمجموعات كبيرة من المجاهدين تمام إخوانهم الجزائريين وتنفيذ فرنسا في 13 فيفري 1960 لواحدة من أبشع التجارب النووية السطحية في ناحية رقان بتاريخ 13 فيفري 1960 والقرار الذي اتخذ في نفس الشهر بإنشاء المناطق المحرمة وإقامة الاسلاك الشائكة المكهربة وزرع ملايين الألغام المضادة للأفراد دون أن ننسى الجريمة المقترفة على ساقية سيدي يوسف يوم 08 فيفري 1958 وغير ذلك كثير مما لا يسع المجال لذكره من وجوه المعاناة التي بلغ بعضها أوجه في هذا الشهر . أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، أننا حين نستقرئ سيرة شهيد واحد من شهدائنا الأبرار فكأنما استقرأنا سيرهم جميعا فهم يكادون يتشابهون في كل شئ مهما كانت رتبهم ومسؤولياتهم في ساحات الجهاد إنهم يجتمعون على خصال وشيم وأخلاق كانت تزين بطولتهم وترصع نضالهم وتضحياتهم بكل الخلال الحميدة والخصال الرفيعة . كانوا يحيون للقضية التي آمنوا بها يحملون بشارة الأمل في أقوالهم وأفعالهم وهم على عتبات الشهادة يتدافعون إليها بإيمان قوي ويقين واثقين من أن هدفهم السامي النبيل سيتحقق وان النصر آت لا محالة وأن جزاءهم في الدنيا والآخرة هو الجزاء الأوفى الذي وعدهم به رب العالمين الرحمن الرحيم . واليوم ونحن في مرحلة أخرى مختلفة نبني فيها وطننا ونجتهد كي نستوفي الشروط الأفضل للوجود في عالم يتجدد بسرعة ويعج بمختلف التحديات والرهانات تصبح الحاجة ماسة الى مثل ذلك المشحون من القيم والإيمان القوي والروح الوثابة العالية التي من شأنها أن تحفزنا على الاستمرار في التضحية والصمود من اجل عزة الجزائر وكرامة شعبها . مثل ما كانت ضغينة الاستعمار بالأمس تزداد تأججا كلما انزل به مجاهدونا الضربات الموجعة هي كذلك اليوم في مرحلة البناء والتطوير تزداد اضطراما في الكيد والمكر كلما ارتقت جهودنا ورست سفينتنا في مرفأ الأمن والاستقرار أو ارتفع شراعها مضيا نحو التقدم والازدهار . إن الجزائر التي تسير بخطوات ثابتة وتشهد تحولات كبيرة على مختلف المستويات وفي جميع الميادين منذ ما يزيد على العقد من الزمن في ظل قيادة أخذت على عاتقها مسؤولية الإصلاح وإحداث تغيير جذري وإحداث تنمية شاملة متكاملة في مختلف مناحي الحياة، هذه الجزائر وهي تشق طريقها بوعي وعزم تعرف أنها لا تمضي فيما هي ماضية فيه تحت ظل ممدود وسبيل ممهد بل أن طريقها محفوف بمخاطر جمة وأوقات عصيبة إلا أن ما في مخزونها من رصيد الرشاد والحكمة وما تتحلى به الأجيال الجديدة من الوعي والتسلح بوسائل الحاضر هي من بين الضمانات المؤدية إلى النجاح والى الانتصار . تبين التطورات والأحداث المؤسفة التي تقع هنا وهناك وبالقرب منا في أكثر من بلد عربي وبصرف النظر عن المظاهر البادية مدى خطورة ما يدبر ويحاك من وراء الحجب وخلف الأبواب . وفي هذا السياق فانه لا يتعين علينا الالتزام باليقظة والتجند فقط بل يتعين تسخير جميع مكامن القوة التي نتوفر عليها ومن بينها بكل تأكيد ما نتحلى به من خصوصية في مادتي الوطن والوطنية والتي كان شهداؤنا الأبرار على رأس قائمة العارفين بهما . وتبقى الأهمية التي يمثلها الرصيد الذي خلفه شهداؤنا في إدارة الحاضر وفي مقارعة الصعاب وفي مجابهة التحديات لأننا وبفضل هذا الرصيد الذي نستحضره نستطيع أن نصنع الوعي المتجدد الذي يتكامل ويكمل مسار تضحياتهم الغالية . كما أن معايير البقاء واثبات الوجود على تضاريس الخريطة العالمية الجديدة وتداخل النظم الاقتصادية والاجتماعية والعقدية من شأنه أن يحجب الرؤى ويحرف المسار عن جادته ما لم نتمسك بالقدر المطلوب من رصيد هؤلاء الأبرار . أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، لا أحسبني أبالغ إذا قلت إن الإرادة التي حفزت جنودنا الشجعان في موقعة عين اميناس التي كانت معركة كبيرة وقوية ضد قوى الشر والتدمير قد جسدت بفعاليتها ودقتها واحترافيتها وانتصارها وجها من وجوه الموروث الذي أشرت إليه . وقد برهن أشاوس هذه المعركة أنهم بحق من أشبال أولئك الأسود، وأن الجيش الوطني الشعبي هو بالفعل وبالقول سليل جيش التحرير الوطني وحامل لواء النجاح والانتصار في كل المعارك التي تخوضها الأمة من اجل حماية أمنها واستقرارها وسيادتها . ومثل قواتنا المسلحة ما تقوم به جميع العقول المخلصة والسواعد العاملة في بناء البلاد وفي الاجتهاد من اجل تحسين سبل التصرف والتسيير وتحقيق المزيد من الإضافات الايجابية في مسار البناء والاعمار . وفقكم الله جميعا وسدد خطاكم لما فيه عزة وطننا وتقدمه وازدهاره ومنعته واستقراره . رحم الله شهداءنا الأبرار رحم الله من التحق بهم من إخوانهم في الجهاد حفظ الله الجزائر والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .