في سنوات الأربعينيات كانت سطيف تلك المدينة الصغيرة الهادئة تشهد كل يوم ثلاثاء حركية غير معتادة حيث تقام السوق الأسبوعية التي كانت تستقطب مئات الأشخاص من المدن و القرى المجاورة. ويروي محمد الهادي شريف ذو ال90 سنة من العمر والذي كان خلال تلك السنوات منخرطا في الكشافة الاسلامية الجزائرية أن يوم 8 ماي 1945 كان يوم ثلاثاء. وكان يوما جميلا جدا والسوق تعج بالناس. ويذكر المتحدث أن حزب الشعب الجزائري وأحباب البيان و الحرية الذي أسسه فرحات عباس في مارس 1944 كانا قد أطلقا قبل بضعة أيام "دعوة للقيام بمظاهرات سلمية تزامنا مع انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية". و كان الأمر يتعلق بتنظيم مسيرة بين "مسجد محطة القطار" (مسجد أبو ذر الغفاري حاليا) و"نصب الأموات" ووضع إكليل من الزهور هناك ترحما على أرواح الجزائريين المجندين بالقوة و الذين سقطوا خلال الحرب العالمية الثانية تحت لواء الجيش الفرنسي. وقد تميزت تلك المسيرة بتنظيم محكم .و كان يتقدمها أشبال الكشافة الإسلامية الجزائرية -يضيف شريف الذي يقول أيضا "لكن بالنسبة لسكان سطيف كان ينبغي اغتنام هذا الموكب لإطلاق صرخة مطالبة بالحرية و الاستقلال و لمطالبة فرنسا بالوفاء بوعدها الوارد في ملحق البيان المصادق عليه من طرف الحاكم العام مارسيل بايروتون و الذي ينص على إنشاء دولة جزائرية في نهاية الحرب و المشاركة المباشرة للممثلين المسلمين في حكومة الجزائر". و دوت الزغاريد ويضيف المتحدث " فمن أجل ذلك و لحظات قليلة بعد بداية المسيرة ظهرت فجأة رايات و لافتات بين المتظاهرين فيها شعارات وطنية من بينها 'تحيا الجزائر حرة و مستقلة' و'أطلقوا سراح مصالي الحاج' و'ليسقط الاستعمار' ". "كما سمعت هتافات تردد هذه الشعارات وزغاريد .ورفعت في ذات الوقت أعلام وطنية تمت خياطتها بالمناسبة (....).وحتى وان كان المئات من الناس هناك سوى لأن اليوم كان يوم سوق الا أن الأعداد بدأت في تزايد حيث أصبح الموكب عند مدخل شارع 'جورج كليمونصو' (شارع أول نوفمبر حاليا) يضم ما بين 20 ألف و 25 ألف شخصا" يقول محمد الهادي شريف. وأوضح المتحدث أن أشبال الكشافة الإسلامية الجزائرية أبدوا شجاعة لا مثيل لها و صاروا يرددون أناشيد وطنية من بينها "من جبالنا" و التي رددت لأول مرة في ذلك اليوم حسب ما أكده وزير الاتصال الأسبق لمين بشيشي"-كما يضيف شريف. "من جبالنا طلع صوت الأحرار" تربك المستعمر و قام بوضع لحن قصيدة "من جبالنا طلع صوت الأحرار" الشهيد حسان بلكيرد و هو كشاف و رجل مسرح و استلهمها من المسيرة العسكرية الفرنسية "فوج سامبر وموز"-كما يضيف شريف. و كان أحد الكشفيين المشاركين في المسيرة الشاب بوزيد سعال الذي كان يرفع العلم الجزائري "متقدما الموكب على الجبهة العليا" حسب ما يشهد به شريف الذي ارتعش صوته وهو يتحدث من شدة التأثر. ويضيف شريف قائلا "بأعالي قهوة فرنسا سابقا بقلب مدينة سطيف و بزاوية الطريق المؤدية إلى نصب الأموات سمعت الرصاصة الأولى و هي طلقة مسدس كانت بداية لعمليات قمع وحشية دامت عدة أيام خلفت عشرات الآلا ف من القتلى بسطيف و لكن أيضا بالمناطق والمداشر المجاورة كالعلمة و عين الكبيرة ووبني عزيز وأوريسية ثم خراطة و امتدت إلى غاية قالمة". وأضاف شريف وهو يبكي "ان تلك الأماكن ستبقى شاهدة للأبد على فظاعة ما ارتكبته فرنسا المتحضرة" . الشاب عسال بوزيد يرفض أن ينزل العلم الوطني ويموت شهيدا ويضيف شريف "لقد انطلقت تلك الرصاصة القاتلة من مسدس المحافظ لوسيان أوليفيوري الذي تلقى أوامر مفادها ' نفذوا الأوامر و لا تناقشوا مع القادة حتى لا يظهر أي علم جزائري' . واخترقت بطن بوزيد سعال الذي كان يبلغ من العمر 22 عاما و الذي رفض بإصرار إنزال العلم الجزائري الذي كان رافعا إياه عاليا ". ويقول هذا الشاهد على مجازر 8 ماي 1945 "لقد كانت لتلك الرصاصة بداية لمذبحة من أفظع المذابح الاستعمارية في العالم و القتل العشوائي للجزائريين العزل من سطيف إلى خراطة .كما كانت في الوقت نفسه بداية نهاية الحكم الاستعماري في الجزائر".