يعد إعلان رئيس الجمهورية, السيد عبد المجيد تبون, يوم الثامن مايو من كل سنة "يوما وطنيا للذاكرة", بمناسبة إحياء الذكرى ال75 لمجازر 8 مايو 1945, تكريسا لإرادة سياسية تسعى إلى إنصاف الحق وعدم التفريط في تاريخ الوطن مع تحديد المسؤوليات التاريخية. وفي رسالته إلى الأمة بذات المناسبة, ذكر السيد تبون ب"الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا في التصدي لوحشية الاحتلال الاستعماري", مؤكدا على أن "تاريخنا سيظل في طليعة انشغالات الجزائر الجديدة وانشغالات شبابها ولن نفرط فيه أبدا في علاقاتنا الخارجية". كما اعتبر أن مجازر الثامن مايو "كشفت بصفة قطعية عن الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي الاستيطاني وقمعه الدموي الوحشي الذي سيظل وصمة عار في جبين قوى الاستعمار التي اقترفت طيلة 132 سنة, جرائم ضد الإنسانية وضد القيم الحضارية.. لا تسقط بالتقادم رغم المحاولات المتكررة لتبييضها". وستظل هذه المجازر التي سقط فيها أزيد من 45 ألف شهيد, تلاحق بمسؤوليتها التاريخية الدولة الفرنسية التي أعلنت العام الماضي, بضغط من الشارع الفرنسي, عن فتح ملف جرائمها الاستعمارية التي شكلت نقطة من نقاط "النقاش الوطني الكبير" الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بهدف تسوية الأزمة الاجتماعية التي تحولت إلى سياسية, حيث تم بذات المناسبة فضح الوجه القبيح للاستعمار الفرنسي الذي دأبت السلطات الفرنسية قبل سنوات على تكريس تمجيده بنص قانوني, وتجد نفسها مضطرة حاليا إلى كشف جانبه المظلم. وخلال هذا النقاش, وجه المناهض للاستعمار هنري بوييو, بصفته شاهدا على حرب التحرير الوطنية, رسالة إلى رئيس الدولة الفرنسية أكد فيها على ضرورة الاعتراف بالجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وجرائم الدولة وإدانتها والكف عن اعتبارها من مسؤولية منفذيها". وقد تجسد هذا الضغط الذي يمارسه الفرنسيون على سلطات بلادهم, من خلال مطالبة مجموعة متكونة من 31 جمعية ونقابة وستة أحزاب سياسية, السلطات الفرنسية بتقديم "إشارات قوية وفتح كل الأرشيف وإدراج مجازر 8 مايو في الذاكرة الوطنية ودعم نشر أفلام وثائقية خاصة بتلك الأحداث في التربية الوطنية وكذلك في وسائل الإعلام العمومية". وقبل ذلك نشر كل من المثقفين الفرنسيين فرانسوا جيز وجيل مونسيرون وفابريس ريسيبوتي وآلان روتشيو, مقالا في أحد المواقع الالكترونية جاء فيه أن "مغامرة فرنسا الاستعمارية أفضت إلى غزوات وقمع إجرامي على نطاق واسع تشكل انتهاكا صارخا للقيم التي نادت بها فرنسا والتي لا زالت تؤمن بها", مضيفين أن السلطات العليا للدولة الفرنسية "لازال لديها الكثير من الأمور لتقولها من اجل الاعتراف مثلا بمجازر مايو ويونيو 1945 بالجزائر". وكان المرشح ماكرون قد صرح خلال حملته الانتخابية للرئاسيات الفرنسية بتاريخ 5 فبراير2017 بمناسبة زيارته الى الجزائر, ان الاستعمار يعتبر "جريمة ضد الانسانية", مؤكدا أنه سيتخذ "إجراءات قوية" بهذا الخصوص. غير أن تلك التصريحات بقيت للاستهلاك الإعلامي فقط مقابل صمت رسمي تأسف له المؤرخ الفرنسي اوليفيي لوكور غراندميزون, الذي أكد مؤخرا أن أحفاد ضحايا مجازر 8 مايو "لا زالوا ينتظرون اعتراف فرنسا بتلك الجرائم", موضحا أنه "لا فرانسوا هولاند (رئيس الجمهورية الفرنسي الأسبق) ولا حتى ايمانويل ماكرون التزما بهذا النهج". وذكر بأن المجلس المحلي بباريس قد صادق في 2015 بالإجماع على وثيقة تنص على أن مجازر سطيف و قالمة وخراطة تعتبر "جرائم حرب" و "جرائم دولة". حرب إبادة جماعية وجريمة دولة لا تسقط بالتقادم وبهذا الصدد, فإن أحكام القانون الدولي الخاصة بجرائم الحرب تثبت أن هذه المجازر جريمة لا تسقط بالتقادم ولا توجد أي موانع قانونية لمتابعة فرنسا حتى مع عدم إمكانية تطبيق المسؤولية الشخصية, لكون مرتكبي المجازر ليسوا على قيد الحياة, إلا أنه من حق الجزائر مطالبة المؤسسات التي كان يمارس فيها هؤلاء الأشخاص مهامهم بإصلاح الضرر بإجراءات قانونية ودبلوماسية. ويؤكد الحقوقيون إمكانية اللجوء الى رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد مختلف جرائم الاستعمار الفرنسي التي خلفت ملايين الضحايا, بالإضافة إلى ما تسببت فيه هذه الجرائم من مخلفات أخرى على غرار الآثار السلبية على البيئة. كما يعتبرون أن مجازر 8 مايو 1945 حرب إبادة جماعية حقيقية تدخل في خانة الحرب ضد الإنسانية, مما يقتضي محاكمة الدولة الفرنسية عنها أمام المحكمة الجنائية الدولية. وكان رئيس جمعية 8 مايو 1945 عبد الحميد سلاقجي قد أكد في تصريح سابق لوأج أن الجمعية حاولت في عديد المرات رفع ملف مجازر 8 مايو وباقي جرائم الاستعمار الفرنسي في الفترة ما بين 1830-1962 على مستوى اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان قبل إيداعه لدى منظمة الأممالمتحدة, غير أن هذا المسعى "اصطدم بعراقيل يفتعلها لوبي فرنسي متغلغل في المؤسسات الأوروبية". من جهته, يرى المؤرخ محمد ولد سي قدور القورصو أن العلاقات "الهادئة" بين الجزائروفرنسا "يجب ان تتحرر من قيود ماضي القوة المستعمرة السابقة ومن اللوبيات العنصرية والاستعمارية التي تظل أهدافها نفسها منذ سنة 1830", معتبرا أن 8 مايو 1945 يبقى "محطة مفصلية في تاريخ الجزائر". تقارير منقوصة وأرشيف متستر عليه وفي رسالته بمناسبة إحياء الذكرى ال75 لهذه المجازر, دعا الرئيس تبون المؤرخين إلى "استجلاء جميع جوانب هذه المحطة وغيرها من المحطات في ذاكرة الأمة, إنصافا لحق الأجيال الصاعدة في معرفة ماضيها بأدق تفاصيله", على اعتبار أن الأرشيف الفرنسي حول هذه المجازر متستر عليه والتفاصيل الدقيقة حولها وحول العدد الحقيقي للضحايا لا زالت حبيسة الأدراج. وفي هذا الإطار, فإن تقرير لجنة تحقيق "توبير" يبقى إلى اليوم المصدر المهم الوحيد حول حقيقة ما جرى خلال هذه الأحداث, رغم أن محرري التقرير تأسفوا لعدم تمكن اللجنة من الاضطلاع بمهمتها بشكل "فعلي", حيث لم تتم معرفة سوى جزء من الحقيقة التاريخية بالنظر إلى العراقيل التي واجهتها لجنة التحقيق الرسمية التي نصبت في 18 مايو من قبل الجنرال شارل ديغول بقيادة جنرال الدرك بول توبير أثناء تنقله إلى الجزائر. فبعد أن بقي لمدة طويلة طي النسيان, تم قبل بضع سنوات الكشف عن مضمون تقرير لجنة توبير حول هذه الأحداث الذي كتب مقدمته المؤرخ جان بيار بيرولو. ويؤكد التقرير أن "اللجنة قد خلصت إلى أن العديد من المظاهرات قد جرت في الجزائر بين 1 و 8 مايو وطغى على جميعها الدافع السياسي, حيث طالب المتظاهرون بإطلاق سراح مصالي واستقلال الجزائر". كما تناول تقرير آخر أعده القنصل العام لبريطانيا آنذاك بالجزائر, جون ايريك ماكلين, حيث كتب في مذكرة بعث بها الى السفارة البريطانية بباريس بتاريخ 23 مايو 1945 قائلا: "إنني متأكد من أنه لو لم يتسرع العسكريون الفرنسيون لارتكاب مجزرة لما خلفت هذه الاحداث هذا العدد الكبير من الضحايا", مبرزا أن البريطانيين والأمريكيين "رفضوا طلب فرنسا المتمثل في مساعدة قواتها على قمع الجزائريين". ويجمع المؤرخون على أن مجازر ال8 مايو 1945 شكلت منعرجا حاسما في تغيير فكر المقاومة الجزائرية وأسست لتوجه جديد قائم على قاعدة ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة, كما كشفت الوعود الكاذبة التي قطعتها فرنسا الاستعمارية للشعب الجزائري بغية استعطافه خلال الحرب العالمية الثانية. ففي الوقت الذي كان الفرنسيون يحتفلون بانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية مع انتهاء الحرب العالمية الثانية, خرج عشرات الآلاف من الجزائريين إلى الشوارع بكل من سطيفوقالمة وخراطة وكذا في مدن أخرى من الوطن, استجابة لنداء تنظيم مسيرة سلمية من أجل استقلال الجزائر, غير أن رد فعل الإدارة الاستعمارية كان شرسا وعنيفا بحيث أنها أطلقت موجة من القمع الدامي ضد متظاهرين عزل, فخلال أسابيع عدة استعملت القوات الاستعمارية وميليشياتها كل أنواع العنف مع عمليات تقتيل مكثفة لم تستثن لا الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ, وتم قتل أشخاص عزل رميا بالرصاص وتم نقل آخرين على متن شاحنات لرميهم في المنحدرات فيما تم نقل آخرين خارج المدن لقتلهم وبعدها تم حرق جثثهم في خنادق مشتركة. ولإخفاء جريمته الشنعاء, استعمل الجيش الفرنسي أفران الجير للتخلص من جثث الضحايا, غير أن هذه الأفران ظلت شاهدة على واحد من أفظع الأعمال الإجرامية في التاريخ المعاصر.