منذ اللحظة الأولى يبدو لك السور عاليا، مهيبا، متجهما ومتحديا، أي سور هذا الذي يقف في مواجهتك وأنت تتأهب للجلوس على كرسي في صالة المسرح الجهوي لسكيكدة، أهو سور داخلك أم يأتيك من بعيد عبر شتات الذاكرة المرتبطة بصور الأسوار المخيفة والجدران المتجهمة·· تبدأ لحظة العرض في ظل موسيقى متدثرة بالسكون والصمت الجارح، يقف الممثل (سيف) في الأعلى·· أعلى السور، يولع تلك النار في سيجارته، تتحول السيجارة إلى جمرة في قلب الظلام، ثم تزحف الإضاءة مع بروز الأشباح وهم يغطون وجوههم بالأقنعة، الواحد، تلو الآخر، يظهرون كاللعنات الصاعدة من عمق العتمة، تكتشف أنهم الجنود الذين يحرسون السور الذي يحمي أو يهيمن على المدينة··· من حاكم السور؟! يقترح لنا النص، اسم الإمبراطور·· لكنه امبراطور يتمازج مع كل صورة حاكم متسلط·· هو حاضرنا فينا وبيننا لكننا لا نراه، يختفي ككل قوة تنزع نحو التسلط الشامل والمدمر·· ومنذ اللحظة يكشف وجهة العرض عن نفسها، من خلال هارمونيا الجسد الحاملة لصورة الجنود في طبيعة الأشياء، لكن الصورة تقودنا إلى لغة تحتمي بالجسد·· وتوظف الجسد كحقيقة اسمها متعة العرض·· وفي لحظة متزامنة نزل من أعلى السور إلى أسفله، حيث الركح بكل عراشه وامتداده·· تظهر زوجة الجندي المختفي (ليليا) وهي تركض باتجاه اليمين وباتجاه اليسار، تصرخ، يتعالى صوتها المتلاشي أمام جهامة السور، تبحث عن من؟! عن نصفها، عن زوجها المفترض والمختفي·· لكن من يقول لنا أن زوجها هو هنا، بين الجنود، وخلف هذا السور الذي يحكمه حاكم، أطلق عليه وصف الإمبراطور·· كيف جاءت الزوجة الباحثة عن زوجها، أو عن أي زوج، إلى هنا··؟! كان حضورها، حيث الإختفاء الكلي للنساء، تحريكا لرغبة جامحة في أعماق الجنود·· كانت فتنة للسور نفسه·· كانت نداء إلى الأعماق لدى من فقدوا أعماقهم وهم يذودون عن من في أعلى هرم السور··· كل الرجال الذين يقبعون هنا، كانوا إمكانية مفترضة ليكونوا رجالها الذين تبحث عنهم في واحد، وحيد ومتعدد·· النص مقتبس، لكننا لا نشعر به إلا كخطوط أولى لنسيج الحكاية، الكاتب الثاني للنص هو خالد بوعلي، سبق له وأن كتب أشعارا وبعض القصص والروايات·· وكانت المخرجة صونيا وهي في نفس الوقت ممثلة قديرة والمديرة الحالية لمسرح سكيكدة اختارت هذه المغامرة للاقتراب من النص ''أمام أسوار المدينة'' لتحدث قفزة نوعية في مسارها الفني، فهي تقاسمت اقترابها من حيث تصميم العرض، مع سليمان حابس، الكوريغرافي، وعبد الرحمن زعبوبي، وكان لنا هذا العرض، الطموح، النقي والجميل بحيث منحنا الممثلون والممثلة الرئيسية لحظة فرجة، فيه الكثير من البهاء والحنان والجهد والغنائية التي تتسرب إليك كما يتسرب إلى القلب بصيص الفرح··· ما رأيته كان عبارة عن فيلاج كمقدمة للعرض العام الذي سيقدم اليوم على ركح مسرح سكيكدة·· لقد كسبت صونيا أول تحدي لها وهي تقود لأول مرة مسرح سكيكدة الذي انضم إلى مسارح الجزائر الجهوية، وتمثل هذا التحدي في الاعتماد على ممثلين شبان، وسوف يعطون الكثير إذا ما وجدوا الرعاية والإهتمام والدعم، إنهم شبان برهنوا أنهم في مستوى خوض غمار الإحتراف·· لذا أملي أن توفر لهم الإمكانية في أن يستمروا كممثلين محترفين، أما التحدي الثاني فإن صونيا وهي التي لمعت في مسرحيات، مثل ''فالوا لعرب فالو'' و ''الشهداء'' و ''فاطمة''، فلقد اجتازت دورة الممثلة والمخرجة المحاولة، إلى مخرجة ذات مرحلة جديدة والعملية في حد ذاتها تشكل انتصار صونيا على صونيا، صونيا المرتبطة بمسرح الإلتزام والإحتجاج وصونيا التي رمت بخطوتها نحو أرضية جديدة، أرضية التجريب والمغامرة الفنية المسكونة بتوليد الجديد، لقد منحنا عرض ''أمام أسوار المدينة'' لحظة تجلي الجسد وتحرره وانطلاقه، وكان ذلك صعب التحقق لولا تلك اللمسة التي وضعها سليمان حابس على روح وإيقاع العرض، مسرحية عرفت كيف تقفز على أرض النجاح، وطريقا قد ننتظر منه الشيء الأجمل في الأيام القادمة···