جامع الأمويين في دمشق بِسوريا * ما أروع أن تزور بلد محمل بعبق التاريخ وأمجاد الماضي، وما أصعب أن تأتي زائراً له من القاهرة، فالأفضل للإنسان العربي أن يجعل من القاهرة النهاية، وليست البداية.. هذا ما ذكره العربي على مسامع شهرزاد وهما يجوبان شوارع دمشق في ذلك الشتاء البارد.. لكن لماذا أحسا بامتداد جغرافية الجزائر في سوريا، ولم يحسا بها في مصر ؟ ظل السؤال السابق يطاردهما مثل الشبح، ويزعجهما كالكابوس، وكانت شهرزاد تكتفي ,احتماْء, بموقع الدولتين على الكرة الأرضية، في الوقت الذي يميل فيه العربي إلى بيئته الأولى ,ويفضل رمال القاهرة عن ثلوج دمشق، وتلك هي نقطة الخلاف الجوهرية بينهما. لم يكن هدفهما من الزيارة واحداً، وإن بدا كذلك في الظاهر، فشهرزاد كانت تسعى لمعرفة آثار الأقدمين على المستوى الفكري . . بعيداً عن السياسة أمثال "ابن عربي"، وتلميذه – بعد قرون – الأمير عبد القادر، والعربي، جاء محملاً بعروبة تمنى أن يجدها في دولة لم يحذره منها بده عيشوش ,ولم يعرفها من أساتذة السوريين القلائل على طول فترة التاريخ، ومع ذلك فقد اشتركا معاً في الاهتمام، ووجدا عند البعض هدفيهما من ذلك ما جاء على لسان أحد أزواج حفيدات الأمير وكان ضابطاً في الجيش السوري أصيب في حرب أكتوبر 1973المجيدة . لقد زارت شهرزاد حفيدة الأميرعبد القادر لجمع مادة عن جدها، ولمعرفة المزيد عن مواقفه التي اختلف حولها منذ أن قبل بالمعاهدة مع فرنسا بعد أن حارب مدة فاقت 17 سنة، حيث اعتبرته شهرزاد ومن خلال قراءاتها الواسعة رجل الدولة الذي أعاد أسلوب الحكم القديم، أي بدايات الدولة الإسلامية لجهة الجمع بين الدين والسياسة والقيادة العسكرية، وهو بذلك قدم للجزائريين وللعرب نموذجاً لبناء دولة المواجهة. الضابط "عدنان ما كانت شهرزاد تعرف أنها في تلك الزيارة ستجد نفسها في حوار مع رجل عسكري، خاض المعارك حتى أصيب بالشلل، وفيها فقد رجليه، ورغم ما عاناه لا يزال مصراً على المواجهة، فثقافة المواجهة لديه استمرارية، وهي حرب من نوع آخر، أو كما سماه جهاد المقعدين بعد أدوا ما عليهم في المعركة. لم يكن الضابط "عدنان" بعد عمله أربعين عاماً في الجيش السوري ومشاركته الباسلة في ثلاث حروب مثل السياسيين الذين جنحوا للسلم، لأن إسرائيل ادّعت جنوحها للسلم من خلال القوة، حيث لا يرى الناظر في وجهه إلا الحزم حتى عندما يبتسم، وفي آثار لجمال أنت عليه الأيام وسامة رجال الزمن الأول ، وفي جلوسه على كرسيه أهبة الأسد عند لحظة الانطلاق، مستعداً دائماً لتنفيذ الأوامر، أو لإعطائها، كان وهو يتحدث إليهما ينطلق من رؤية فرضتها الحروب صوب حقائق راهنة أجبر السياسيون الشعوب عنها، فقد قال لهما : - لقد خلقنا للمقاومة وللحرب . - لكن الحياة ليست حربا فقط، وإنما سلام أيضاً.. هكذا علّق العربي. - الحياة بالنسبة للمسلم جهاد، ونحن أمة كتب عليها أن تحارب أو تستعد للحرب - ولكن إلى متى؟ - حتى ننال إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة ! يصمت لحظة ثم يواصل : - الجهاد إرادة، ومقاومة للنفس تتدخل شهرزاد متسائلة: - هل أنت غير موافق على السلام مع العدو الإسرائيلي؟ - لست زعيماً سياسياً حتى أقبل بالسلام لم أفهم ما تعنيه؟.. تسأل شهرزاد أقصد أن السلام حديث السياسيين هذه الأيام، مثلما كانت الحرب قبل أن تضع أوزارها حديثهم خلال عقود متواصلة دون إعداد ، وبما أنهم يستولون على حقوق العسكريين دون واجباتهم ، فعلينا أن ننتظر المزيد منهم. يصمت، ثم يحرك كرسيه دفعاً إلى الوراء ، وتبدو عليه علامات الحزن ، ثم يواصل حديثه قائلاً : هناك استعجال من الأجيال الراهنة ، ورثوه من الأقربين وذلك بحل كل المشكلات دفعة واحدة . هل ترى أنه من الضروري أن تظل المسائل معلقة إلى أجل غير مسمى ؟ أو أن تحمل أوزار الحاضر لأجيال المستقبل .. سأل العربي . ليس هذا ما أقصده، ذلك لأن كل جيل مشكلاته الخاصة بزمانه ,غير أن إزالة الاستعمار كما في تجربتنا العربية تتطلب عقوداً من الزمن وتجربة الجزائر خير مثال ، ثم أن هناك فرقا بين السلام والإستسلام يبدو بريق الأمل في عيني شهرزاد ، وتعتدل في جلستها ، وتنظر باحترام لرجل أنهكته سنوات الحرب وجعلته مقعداً ، لكنه لم يتغير في مواقفه ، فتسأله مرة أخرى : ألا يكون موقفك هذا جزء من المواقف السياسية للسلطات السورية ممثلة في الرئيس حافظ الأسد؟ - الأمر ليس كذلك ، وإن كان لا يوجد ما يمنع تفاعل موقف الشعب مع رئيسه أو قيادته ، وبالنسبة لي، فلست معنياً كثيراً بمواقف نظام الحكم، لأنني أعيش الآن خارج زمانه ، فأنا رجل مقعداً كما ترين ، ولو شفيت أو عدت إلى الجيش لفضلت مواصلة الحرب عن هذا التنازل الذي نقدمه الآن . - يعلق العربي مجاملاً : - لكن سوريا رفضت السلام ، أليست في حل إذن مما يقوم به العرب ؟ - سوريا لا تستطيع فعل شيء وحدها ، أي دون مصر ، وقد أثبتت حروبنا ضد إسرائيل ذلك ، وحين اختارت مصر ما اعتبرته قيادتها سلاماً وانضمت سوريا إلى معسكر الصمود والتحدي ، تقهقر العرب ولم يتصدوا حتى للذباب أو الجراد . - لقد اختارت مصر طريق السلام حين جنح العدو له، فلم إذن تعارض السلام ؟ - لا يعني قبول كبيرنا بالأمر الواقع صواب فعله، ذلك لأن الفائدة عادت على إسرائيل، حيث تمكنت من إبعاد أكبر دولة عربية عن المواجهة ، ولست هنا بصدد ذكر أسباب وخلفيات التراجع المصري والتخلي عن القضية لكن إذا كنا نتحدث عن مصير أمة ، فإننا غير معنيين بمواقف قادة جروا شعوبهم إلى سلام يعود بنا إلى انقسامات العرب في العصر الجاهلي . لم يكن " عدنان " مخزونا للعمل وللمعلومات العسكرية والسياسية كما جاء في حديثه السابق فقط ، ولكنه رجل حسم أمره لجهة قناعات بعينها، وإن لم يظهر ذلك ، لهذا سعت شهرزاد إلى معرفة توجهه ، فسألته : - حديثك عن الأمة تعني به الإنتماء للقوم أو للأقطار – الأوطان – أم للدين ؟ - ألم يظهر في حديثي ما أقصده بالأمة ؟ لكن لا عليك ، فأنا بكل صراحة أقصد الأمة العربية لجهة الشعب لكن ليس بالمعنى القومي الذي يطرحه البعثيون ولا الناصريون ، ولا من هم دونهم ، أو من هم قبلهم أو بعدهم في مختلف الدول العربية ، حيث تظهر فاحشة الأوطان في شكل تطور عصري للقبيلة فقط ..ما اقصده يا ابنتي ، هو الأمة في مفهومها الديني ، لأن العرب ، بل وبني البشر جميعهم كانوا أموات فأحياهم الخالق بالإسلام ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور . تبسمت شهرزاد ضاحكة من قوله ، ونظرت إلى العربي ، وبدت كأنها تطالبه برفع الراية البيضاء ، لكنه تصنع عدم المبالاة وسأل الضابط السوري " عدنان " : - الأمة الإسلامية تمر – إن أرادت الحضور – عبر قناة العرب ، فبذلهم يذل الإسلام ، كما في الحديث النبوي، فكيف يتقدم الدين عن القوم عندك ؟ - لا أنفي دور العرب لصلتهم اللغوية بالإسلام ، و بداية تحرر هذه الأمة وعودةها قوية على جميع المستويات تبدأ بتغيير حال العرب ، شريطة أن يكون وعيهم ودورهم الحضاري وتغيرهم على أساس ديني ، لأنهم قبل الإسلام كانوا مقسمين يخافون أن يتخطفهم الفرس أو الروم . - ولكن العرب ليسوا مسلمين فقط ، ففينا المسيحيين أيضاً؟ ..هكذا يسأل العربي " رغم تأثره بحديث الضابط السوري . - المسيحيون العرب ، حلهم في الإسلام ، وليس عند العرب قوماً، فليس هناك دين على وجه الأرض بما في ذلك النزعات والمذاهب الفردية يعترف بحق الآخرين في الإختلاف وعلى أساس عقائدي مثل الإسلام توقف لحظة ثم يضيف قائلا ك - ليس العرب المؤمنين أو الملحدين أحن على المسيحيين العرب من خالقهم ، ثم أن الديمقراطية التي يبغونها عوجا تعتبرهم أقلية ، فليقبلوا بدور الأغلبية مع الحفاظ على خصوصيتهم وكم من مرة كان الإسلام هو الدافع لحمايتهم من الإبادة من المسيحيين الغربيين ، ولا تزال تجربة الأمير عبدالقادرفي حماية مابين احدى عشر ألف وثلاث عشرة ألف في دمشق فيما يعرف بمذابح المسيحيين عام 1860 مسجلة في كتب التاريخ وتلقي بظلالها على التاريخ المشترك بين المسيحيين والمسلمين . التاريخ يحكم بين مصر وسوريا قناعة الضابط " عدنان " المقعد على كرسي متحرك نتيجة بلائه في الحرب ، زادت من رصيد شهرزاد ، وقوت حجتها ، وأضعفت من فكرة العربي عن العروبة ، لكنها في نفس الوقت خفضت عنه حمل العروبة الثقيل ، وكان يخاطب نفسه دون أن تسمع شهرزاد موجهاً الحديث إلى دمشق التاريخ : - حتى انت يا عاصمة الأمويين ، تخذلينني بآراء أهلك ؟! فيك التاريخ غير النابض بالحيوية ، حيث الرحيل الأبدي للقومية ، رغم شعار حزبك الحاكم " أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة " ، التي حلقت بها الطائرات في الجو ، وكتبت في المداخل وعلى جدران المؤسسات وفي الشوارع ، وذكرها الذاكرون المختلفون عن أولويات العروبة عند كل اجتماع . كل منهما كتم ما في صدره ، فليس من المعقول الترويج لقناعة ضابط مقعد ، ثم أن تلك حال واحدة ، وإن اعتمد كل منهما ما جاء فيها ، على أمل المزيد الأيام القادمة . إلى أن قابلا مسؤولاً عسكريا كبيراً في الحكومة السورية ، جمع بين ما جاء في بيت المتنبي الذي تسبب في قتله مع الخيل والسيف والإبقاء على الليل والقرطاس والقلم ، يضاف إليها النساء ، رجل موسوعي تحلي ذلك في كتاباته وعشقه للجمال. في بيته المعروف ، والذي لا يخاف فيه من ثورة العامة ، ولا حركة الناس للمطالبة بالتغيير ، حيث علقت صوراً مثلت تحف نادرة ، بدأ النقاش في حوار طويل ، التزم فيه ذلك القائد العسكري ، والشخصية الثقافية المعروفة ، بقواعد الضيافة ، متجاهلاً أحياناً ، ومتجاوزاً أحياناً أخرى, سلاحه الصبر ، في انتقادات العربي اللاذعة التي حملتها أسئلته التي كانت تشكيكا في معظم مقولات الرجل ، الذي بدا هادئاً ، مبتسماً ، وغير مبال أمام باحث , اعتبره هاوياً في هذا المجال ، في حين التزمت شهرزاد الصمت هذه المرة ، وقررت من البداية أن لا تنبس ببنت شفة . قال المسؤول الكبير رداً على سؤال العربي المتعلق برفض بلاده للسلام : - سوريا لا ترفض السلام ، ولكنها تقيده بشروط . - كيف لها أن تضع شروطا ، وهي تنتمي لأمة مهزومة ؟ ..هكذا سأل العربي ؟ - الأمة ليست مهزومة ، وعلينا أن ننظر إليها في امتدادها كمجموعة دول ، فخيارات هذه تختلف عن تلك ، وما تراه مصر مثلاً مفيداً لها قد لا تراه سوريا كذلك ! - هذا جواب دبلوماسي ، ويتناقض مع تأكيدك على وجود أمة واحدة , فإذا كانت كل دولة تتصرف حسب حاجتها الخاصة فلماذا نرفع إذن شعار الأمة ؟ ثم أن الواقع أثبت أن لا حرب بدون مصر . - وأثبت أيضاً أن سلام بدون سوريا ! - اسمح لي أن اختلف معك . فلا حرب بدون مصر مقولة صحيحة لكن لا سلام بدون سوريا ليس صحيحاً ، بدليل أن مصرعقدت سلاماً مع اسرائيل غير مبالية برد فعل الدول العربية جميعها وليس سوريا فقط . - هذه نظرة سطحية، ونحن ننسق مع مصر الآن ، وأخطاء السادات يجب أن لا يتحملها الشعب المصري ؟ - هناك من يرى أن السادات لم يكن مخطئاً ، ثم أن ما تقوم به مصر هو خيار دولة ، وليس موقف حاكم ، بدليل أن السلام مع إسرائيل استمر بعد ذهاب الرئيس السادات يتفادى المسؤول السوري انتقاد مصر ، لاعتبارات خاصة ويبدو أنه أخذ درساً من تجارب الماضي القريب ، لكنه بقول معلقاً على ما جاء في حديث العربي : - موقف مصر من السلام مع إسرائيل ، ورفضه من سوريا متروكاً للتاريخ ، ولا داعي للحديث في هذا الآن . - ولكن الأمة منقسمة بسبب السلام ، في حين لم تختلف حول الحرب فما العمل ؟ - الأمة تتأثر بالمواقف السياسية والعسكرية ، يمكن أن تنتصر أو تنهزم ، تتقدم أو تتأخر ، تتأثر أو تؤثر ، تضعف أو تقوى لكنها ستظل موجودة . - ما فائدة الوجود لمن يتحول إلى ميت . - عليك أن لا تكون متشائماً ، خصوصاً وأنت في سن الشباب ، فالأمة لا تموت ، ولكنها تتكيف مع الأيام ، لكل مرحلة من مراحل التاريخ قادتها ، ونتائجها وإنجازاتها . - لكن هناك أمم تلاشت في التاريخ ولم تعد لها وجوداً ، وإن كنا قد نسمع عنها ذكراً ! - أمتنا ليست كذلك ، لأن لها كتاب سماوي يجمعها ؟ - لماذا لا نحتكم إليه إذن ؟ - من قال أننا لا نحتكم إليه ، كل ما في الأمر ، أن هناك أولويات . - وما هذه الأولويات ؟ - الحفاظ على اللغة وبالتالي أهلها ، ولأهمية اللغة ، فقد حفظ الإخوة المسيحيون في لبنان على المصاحف في الأديرة في أزمنة الشدة ، وتلك هي الأمة الواحدة رغم اختلاف الأديان بين أبنائها . تبسم العربي ولم يعقب ، لكن شهرزاد توجست خيفة من آراء المسؤول السوري الكبير ، فقد بدأ قومياً وانتهى كذلك وهذا يتناقض مع أطروحات الضابط العسكري الذي قابلوه في السابق ، رجل الميدان ، الذي كان حين تشتد المعارك وتبلغ القلوب الحناجر يردد الله أكبر ، ولاشك أن هذا المسؤول يرددها كل يوم ، وقد كان في حروب الفتنة الداخلية في سوريا حين بلغت التصفيات بين أهل الأيدولوجيا الواحدة الذروة , وكانت أشد مما هي في الحروب مع إسرائيل . كانت شهرزاد ترى أن هذا المسؤول مثله غير من المسؤولين العرب ، الذين يتحدثون في كل شيء حين يتعلق الأمر بالتنظير داخل المكاتب والبيوت ، لكن في ساحات الوغى هم مثل النعامة يجفلون من صفير الصافر ، على حد ما جاء في شعر الغزالة الحرورية ، ولكن هل سوريا هي هؤلاء المسؤولين الذين عمروا فيها ,حتى كره الموت أن يحضر إليهم أو يأخذهم ، كما كره العدل أن يقدم لبلاد حكموها بالحديد والنار ، وجعل أعزة أهلها أذلة ، ولا يزالرن عاى فعلتهم مصرون ؟ سوريا أكبر من أولئك، ففيها يرقد أبطال صنعوا التاريخ وأعادوا عزة أمة ،أفعالهم لا تزال حية رغم رحيلهم من قرون إليها لجأوا المظلومين والمنبوذين والحيارى ، وتقهقر عنها الغزاة والجبارين والطغاة ، لذلك الأولى بهما أن يعرفا نبض الشارع ، وكذلك فعلا ! دمشق لا تنكفئ على نفسها ، ولا يرتد إليها طرفها إلا بعودة أهلها أو الباحثين عن فرصة عمل فيها ، فإذا لم يأتيها ريفها فهي تذهب إليه ، وحين تغسلها الأمطار من المظالم ، وتحل بديلاً عن دموع الذين حالت الجدران دون وصولهم إلى سدرة منتهى الشكوى ، تكون في انتفاضة داخلية لا يفصح عنها إلا همس الأنفس الحائرة التي تقضي أيام العمر في جمع القوت المبعثر مثل حبات الشعير البعيدة عنها ، فهي في حركة مثل النمل مع اختلاف الفعل والقدر . عرف العربي حالها تلك، وتأثرت شهرزاد وهي تقف على مقربة من المسجد الكبير ، ونساء إيران يزحفن من كل حدب وصوب باحثات عن ملجأ إيماني لأضرحة قدست كمباني أكثر مما قدس فعل أهلها في زمانهم التليد ، فها هي الأمكنة تستقبل القادمين طلباً للنجدة من هول العصر ومآسيه ، القاطعين للمسافات من داخل سوريا وخارجها' مختصرين الأمان فيها ، ما أكثر من يرتمون في أحضانها ، معتمدين النسيان أو الانفصال أو التعلق بالغيب مرفأ الأمان الأخير ، حتى إذا ما زالت غشاوة التعب وضغط الأيام , اكتشف القادمون ، اللاجئون الحائرون ، المنبوذون أحياناً ,أن لا ملجأ إلا للنفس ، فإن ضاقت هي ,لن ينفع اتساع المكان بعدها دمشق.. وأمازيغ بن كنعان دمشق، ما قالت للناس تعالوا , ولا أبلغتهم بصوتها القادم من الماضي البعيد : هنا نهاية رحلةكم .. بل قالت والمطر تنزل: هنا عندي بداية السؤال ، وهول الحكم للتاريخ منذ أن اختار بنو أمية وراثة الحكم عن شورى الإسلام ، دمشق قالت أيضاً بصوت سمعه العربي هو وحده دون شهرزاد: إنني الجامعة للأمة عند المحن ، فعلى تربيتي اجتمع أهل الحق من الأندلس إلى أرض الحجاز ، وعلى مر التاريخ كنت نهاية المحنة للذين ولدوا بعيداً عني ، وقد صدقت " دمشق فيما قالت " ، فهي فخر الشام والعرب منذ أن اختارت طريق الرشد ، وتركت سبيل الغي للذين اختاروا التاريخ البعيد الغارق في الظلام وعبادة الفرد وانتهاك حرية الشعوب . بذلك الصوت القادم من التاريخ ، الرافض للحاضر ، حيث صور الزعيم شوهت الأمكنة داخل دمشق ، وجعلت قلوب أهلها البيضاء ، سوداء ، مريضة بانتظار التغيير ولو بعنف دموي يؤدي إلى فتنة..صوت كان نجوى بين اثنين ثم تحول إلى حديث بين ثلاثة ، الأمكنة والعربي وشهرزاد ، وانتهى إلى بحث عن جزائريين جاءوا منذ عقود ، حين كانت الجزائر فرنسية بالحديد والنار ، متناسين أصولهم ، ومنتهين إلى القول : - الأمان في الشام , ونحن عرب منذ الزمن الأول .. حين كنا عرب عاربة ,واتجه أجدادنا في رحلة ، لا أحد يدري كيف تمت إلى شمال أفريقيا محملين بأحلام وطموحات "أمازيغ بن كنعان" ، حين كانت لغة الحميريين حية ,وشواهدها لا تزال إلى اليوم ماثلة في حروف" التيفيناغ -"لغة البربر- وفي شواهد أخرىعلى قبر الشاعر امرؤ القيس في بلاد العرب الأولى حيث الحكمة ثم النبوة . وجد العربي وشهرزاد عدة جزائريين لا يعرفون من بلادهم الأصلية إلا الإسم ، أو جواز السفر الذي تمكن بعضهم من الحصول عليه مع حملهم لجنسية سورية وأخرى جزائرية لكن الغالبية منهم محل شك بالنسبة للسفارة الجزائرية ,مع أن شهادة ميلاد الأباء و الأمهات ثابتة في السجلات المدنية الجزائرية . ما أثار استغراب العربي وشهرزاد هو أن كثيراً من السوريين ذوي الأصول الجزائرية لم يأتوا فقط مع رحلة الأمير عبدا لقادر إلى سوريا ، وإنما جاءوا بعده من مختلف الولايات والمدن مثل سطيف ،المسلية ،بجابة ، تيزي وزو ، أي هناك عرب ، وآخرين أمازيغ ، بربر ، مما يؤكد نظرية أن البربر عرب ، وإلا لماذا لجأوا إلى سوريا في زمن الاختيار الصعب ؟!. يصر أولئك الجزائريين المنحدرين من أصول مختلفة على انتمائهم لبلد قيل عنه الكثير, وسبق الحديث عن خيراته واقع معرفة المظالم والشرور، وجاءت اللجانو الواحدة تلو الأخرى ، وكلما التقتهم إحداها لعنت أختها ووعدتهم بمن الجزائر وسلوها ، ثم تعود من حيث أتت وتنساهم . لم يحصل على الجنسية الجزائرية إلا القليل وحجة المسؤولين في الدولة الجزائرية هي ضرورة التأكد من حقيقة الإنتماء بوثائق تعود إلى العهد الاستعماري ، غير أن هذا لم يمنع أن يقدموا ديكوراً كلما حل زائر جزائري في سوريا.. حيث يلتقيهم لساعات ، ثم يولي مثل غيره الأدبار ، من يوم زحف عظيم الجهاد فيه كبير من أجل تحقيق أماني جماعات عدت بالآلاف لا هي استطاعت نسيان أصولها ، ولا بلدها الأصلي نفعها في شيء ,ويشعرون أنهم جزء من سوريا لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات ، فالأجسام هنا، والقلوب شوقاً هناك ، وتلك هي حال الإنسان عندما يصعب عليه التخلصمن الوطن. السوريون من أصل جزائري في دمشق ، موزعون على مختلف الوظائف ، ومنهم من أصبح من كبار المسؤولين في الدولة السورية, وهؤلاء لم يكونوا في نظر المستضعفين لجهة حل المشكلات "تلك عقبى سكان دمشق ، وعقبى.ريفها وضواحيها الاندماج الكامل. لم يشكل الانتماء بالنسبة لهم شيئاً يذكر ، فهم يعترفون بأصولهم الجزائرية التي رآها العربي وشهرزاد في نظام بعض سكان قرية "الحسكة، متجلية في تقاليد راسخة تبدأ من إعداد الطعام ولا تنتهي بالتعامل مع الآخر ، وفي الوقت ذاته متمسكين بجنسيتهم السورية وانتمائهم وإعلان حبهم للشعب السوري ، وعدم استعدادهم العودة إلى الجزائر حتى لو كانت جنة الخلد ، فهم يرون أنفسهم في ملك لا يُبلى .. إنه الريف الدمشقي ، حيث رائحة الفل ،التي يصعب الابتعاد عنها كما قال سعيد وهو يرحب بضيوفه ومنهم العربي ، في الوقت الذي كانت فيه شهرزاد تجلس بالداخل مع نساء البيت اللائى بدا مظهرهن أقرب إلى نساء جبال جرجرة. علماً بأن هؤلاء "سكان الحسكة" تحديداً يؤكدون على أصولهم الأمازيغية والتي زينها كما يقولون انتمائهم الراهن للعروبة . سأل العربي صاحب البيت سعيد : - هل ترغب في الذهاب إلى الجزائر ؟ - نعم أرغب ، لكن كزائر وليس للإقامة.. فأنا أنتمي إليها لكن لا يمكن أن أعيش فيها . - سأل العربي مرة أخرى : - لكن ماذا لو طلبت منكم السلطات السورية العودة إلى بلادكم الأصلية ؟ لم يرد هذه المرة سعيد ، وتولى الإجابة بدلاً عنه يوسف ، شيخ طاعن في السن ,حين يتحدث يرتعد ليس بسبب البرد في ذلك اليوم الممطر, ولكن لأن السنوات قضت على ما لديه من قوة : - لن تفعل سوريا هذا ، ليس فقط لكونها دولة قومية ، تؤمن بعروبتها ، وإنما لأننا نحمل أوراقاً ثبوتية تؤكد على جنسيتنا وانتمائنا ، ثم لماذا نذهب إلى الجزائر ، مادمنا ننتمي إلى أمة هي أكبر من الأوطان . وما أن أنهى الشيخ يوسف كلامه حتى تدخل الحاج أحمد قائلاً : ليس هناك تناقض أو تضاد بين أن نكون سوريين وفي الوقت نفسه جزائريين ، ثم أن الأصول بالنسبة لي لا تعنينا في شيء ، فلو بحث كل سوري في أصوله البعيدة ، ما بقي على ظهرها من أهلها الأصليين إلا القليل ، ثم أنمثل هذه الأطروحات غير واردة لدى الشعب السوري كله . ودون أن يطرح العربي سؤالاً آخر وجد نايف يتدخل ، وكان رجلاً قصير القامة، بطنه تسبقه حين يمشي، وحين يجلس يشغل حيزاً في المكان أكبر من حيز باقي جسده ,فقد قال بعد أن ابتلع لقمة مكونة من الأرز واللحم : - سوريا تتسع للجميع ، وتكفينا وتكفي إخواننا العرب ، وذلك هو الانتماء الحقيقي . انشغل العربي بما جاء في الجملة الثانية من قول نايف " تكفينا وتكفي إخواننا العرب " ، فهذه نفس العبارة التي كانت سبب في كره المصريين في الجزائر حين قالوا " أن الجزائر تكفينا وتكفيكم " ، فها هم السوريون من أصل جزائري ، وقد عمروا وبنوا ، وذابوا في المجتمع يقولون نفس العبارة ولا أحد يلومهم . عبارة " نايف "تتحدث عن السوريين ، فتضع أسبقية أهل البلاد عن غيرهم ، وذاك ما كان يريده " بده عيشوش " فلماذا رفض العم مفتاح فكرته ، وقبلها ابن أخيه هنا؟.. هكذا سأل العربي نفسه؟ لم يبحث العربي عن الاجابة هذه المرة ، فالحس القومي لدى السوريين ودعوتهم للوحدة أكبر من الانشغال بحديث الماضي حين يخص المسؤولين وكبارة القادة بما في ذلك الذين فكوا الارتباط ، ونحروا الوحدة بين مصر وسوريا ، فسنوا سنة سيئة ، مفادها استحالة توحيد الدول العربية في أيامنا ، فعليهم وزرها ووزر من عمل بها من باقي قادة الدول العربية ، مادات الشعوب ترى عكس ذلك ، لكن هل الشعب السوري مع وحدة واقع الجغرافيا.. وترف الأيديولوجيا هل الشعب السوري مع الوحدة رغم قوميته أم ضدها ؟.. سؤال حمله العربي وحاول البحث عن إجابة له خلال الأيام التي قضاها في سوريا ، بعد أن أبلغ شهرزاد بدفاع الجزائريين السوريين أو السوريين ذوي الأصول الجزائرية عن انتمائهم لوطنهم الحالي ، وليست تلك المناطق البعيدة في دولة تعود إلى أجدادهم ولا يعرفون إلا أحاديث الانتصارات عن ثورتها في الماضي ، وظاهرة الإرهاب الجنوبي في الوقت الرافض . بحث عن إجابة لسؤاله السابق في كل مكان ، مصغياً لتفاعل السوريين مع وحدة مع مصر لم تبلغ سن الطفولة ، وكانت مثل الحمل والفصال في ثلاث سنوات فقط ، كانت أقل من سنوات التجافي والبعد بكثير ... عند البعض لا تزال ذكرياتها ماثلة في أفعال القادة العسكريين المصريين حين أخذوا معهم إلى القاهرة قادة عسكريين سوريين بهدف عقوبتهم ، ففرض أخطاء المصريين وسلطانهم حولهم إلى مجرمين ، وجاء أبناؤهم بعدهم وحين بلغوا سن الرشد أصبحوا يأتون على ذكر تلك " الوحدة المزعومة " كارهين. لم يطبق المصريون كما جاء في شهادة بعض السوريين ممن عايشوا الأحداث ، أو ممن رويت إليهم عن أهلهم الأقربين مقولة بده عيشوش من أن سوريا تكفيهم وتكفي أهلها ، ولا كما قال الجزائريون السوريون " سوريا تكفي أهلها ، وتكفي إخوانهم العرب " وإنما أصروا على أن سوريا تكفي المصريين أولاً ، خصوصاً وأن الوحدة قيادة وقرارات ومواقف أصبحت في القاهرة . لقد وسعت الوحدة من سلطان القاهرة ، وحولت سوريا إلى مجرد محافظة تابعة لمصر.. هكذا يرى أعداء الوحدة أو الرافضين لها، أومن رويت لهم الأحداث بعد ذلك بسنوات مستشهدين بأغنية الوحدة التي من كلماتها : أنا فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام . تركت الوحدة الفاشلة الفوقية ، النابعة من قرار علوي يسبح في الفضاء غير مراع ولا مبال بخصوصية الدولة القطرية آثارها على تفكير الأجيال، فلمدة خمس وثلاثين سنة لم ينس السوريون أن بعض أهل الشام أخطؤوا حين سعوا للإتحاد مع يعض سكان وادي النيل ، وكان الأولى لسوريا له أن تقترب من لبنان والعراق. أحكام نابعة من خلفيات تاريخية وجغرافية وأيدلوجية ، لا يدري " العربي" سبب انشغاله بها الآن ، وهو يسأل مجموعة من الشباب جلس إليهم رفقة شهرزاد ، قائلاً : - هل لا تحنون للوحدة مع مصر ؟ قال بسام الطالب في كلية الآداب: - الحنين يكون للماضي الجميل ، وتاريخنا مع مصر أسود ، ومخز ، فقد أرادت ابتلاعنا عند الوحدة، وتخلت عنا في حرب 1973 ، فالعروبة عند المصريين تختصر في مصر ، والتاريخ عندهم يتزعمه أبو الهول وليس عبد الناصر . - ولكن أنتم تخليتم عن الوحدة مع مصر ، بقيادة عبد الناصر ؟ هكذا علق العربي . تدخل إبراهيم معلقاً : - الخلل لم يكن عند عبد الناصر ، ولكن عند من حوله ، ثم أن أيديولوجية البعث نابعة من الأنتجانسيا، أما الناصرية فهي من السلطة ، والفرق شاسع بين االرؤيتين . كيف والبعثيون كانوا في السلطة ولا يزالون ليس في سوريا فقط بل في العراق أيضاً ؟ تدخل بسام مرة أخرى معلقاً : - هناك أخطاء وقعت فيها القيادات في مصر وسوريا معاً ، وذلك حين قوت الدولة القطرية على حساب الأمة ، وربطت نفسها بقضايا كبرى لم تصمد حين أصبح من الضروري الاختيار بين الأمة والدولة . - هل هناك أمل في مد جسور نحو مصر ؟ ..سأل العربي - يمكن لسوريا أن تمد جسورا نحو العراق رغم الخلاف القائم بين القيادتين ومحاولات التصفية, والشك الذي ظهر عندما زار الرئيس صدام حسين دمشق ، حاملاً مع أقفاص الدجاج حتى لا يأكل من طعام القيادة السورية ,خوفاً من تسميمه . - كيف يمكن مد جسور ، والشك بلغ حد القتل ؟ - لأن واقع الجغرافيا أكبرمن ترف الأيديولوجيا ، ثم أن عثرات الأيديولوجيا وضيقها تقضي عليها علاقات الجيرة وتوسع المجال أمام الوحدة وتدفع إلى اللقاء . - هل أفهم من كلامكم أن العراق أقرب إليكم من مصر ؟ - أجل هذا ما أقصده ، العراق أقرب ، و مزاج أهله مثل مزاجنا، ثم كيف لنا أن نتحد مع مصر مرة أخرى ، والمصري حين يرى السحب في السماء تنقبض نفسه ؟ كيف لنا أن نتحد مع قوم يكرهون المطر ، الذي نعتمد عليه في حياتنا , وزراعتنا وحالتنا النفسية ؟كيف لنا أن نتحد مع قوم جعل النيل بلادهم هبته ونحن نواجه الفناء إذا غابت الأمطار في بعض المناطق لسنوات عجاف؟ . أثارت الإجابة السابقة استغراب العربي ، حيث بدت له العروبة هنا حديث عن المناخ والجغرافيا ، وليس الإنسان والتاريخ ، مما يعني عدم التعويل على أطروحات البعث مادام أتباعه من الشباب يفكرون على هذا النحو . أدرك العربي أيضا أن أولئك الشباب يتحركون في أفق محدود لا يرى العروبة إلا في حدود الأرض السورية ومناخها ، وإن كانت إجابتهم قد حملت تحد صارخ لنظام الحكم ، الذي بث بالاشتراك مع النظام العراقي العداء بين الشعبين السوري والعراقي ، لكنه تحدي أمام شخصين لا يشكلان خطراً ، لأنهما من أرض أخرى بعيدة عن خلافات القوميين العرب ، الذين حصروا العروبة في الإيديولوجيا دون الإيمان . استغربت شهرزاد أيضاً من شباب يتحدث عن شوق للوحدة مع العراق دون أن يأتي على ذكر أساس الوحدة بين العرب ، وهو " الإسلام " وانتهت إلى أنهم مثل " العربي " مع اختلاف واحد ، هو اهتمامهم ببلادهم.. فالعروبة لديهم تختصر في الوطن ، وبالنسبة للعربي هي كل أوطان العربي ، وكل أبناء العرب أينما حلوا أو ارتحلوا. أعلن كثير من السوريين الذين استمع إليهم العرب وشهرزاد حاجتهم للوحدة مع العراق ، واكتفوا بالحديث عن مصر ، عبر عرض منظم لمسلسلات شاهدوها على فترات متقطعة ، خصوصاً مسلسل " رأفت الهجان " ، واعتبروا رسالته هامة لكل أبناء الأمة ، مما جعل العربي يعود بذاكرته إلى أيام معاهدة السلام حين تخلى العرب عن الإنسان المصري ، لكنهم عجوزا عن إقصاء الثقافة المصرية ، لأنها أساس ثقافة العرب . زيارة العربي وشهرزاد إلى سوريا ، أثارت فيهما الحاجة إلى معرفة المزيد عن الوطن العربي ، خصوصاً العراق وكيف لهما ذلك ، والعراق مغلق على من فيه ، مبعد لأهله ,مبعث خوف للجميع، وانتظرا طويلاً حتى تتاح الفرصة ،وجاءت بعد سنوات ، بعد أن فارقا مصر ، وعادا إلى الجزائر ،وحوصرت العراق ، ودخل العرب في حرب ضروس من أجل تحرير الكويت انقسموا فيها مثل الماضي ، وأصبح العربي بعدها تائه مشوه ، منقسم بين حب لأمته دون النظر إلى الأوطان والحقوق, وبين خوف من تكرار تجربة العراق في عدد من الدول العربية الأخرى. الحلقة المقبلة بين يدي عدي.. وحصار العراق والنقابات